«استشرافات» سليم قلالة.. والمستقبل العربى / خالد عمر بن ققه
بعض المراكز البحثية ترفع شعار «نستشرف المستقبل»، وفى حقيقة الأمر هي لا تعرف الماضى ولا الحاضر، وبالتى يتعذر عليها التطلع نحو المستقبل، والدليل على ذلك أن معظم نتائج الأبحاث التي تقدمها أو تعدها أو حتى تشرف عليها عبارة عن «تنجيم كاذب».
بعض المراكز البحثية ترفع شعار «نستشرف المستقبل»، وفى حقيقة الأمر هي لا تعرف الماضى ولا الحاضر، وبالتى يتعذر عليها التطلع نحو المستقبل، والدليل على ذلك أن معظم نتائج الأبحاث التي تقدمها أو تعدها أو حتى تشرف عليها عبارة عن «تنجيم كاذب».
منذ ثلاثة عقود- تقريبًا- شق مصطلح «استشراف» طريقه في بعض دولنا العربية من خلال مراكز بحثية أُقيمت هنا وهناك بإيعاز ودعم من صنَّاع القرار، وكان الهدف منها- على ما بدا وقتها- أمرين: الأول أن تخدم سياسة الدولة، والتى هي في الغالب ليست نتاج مؤسسات، والأمر الثانى: توجيه خطاب إلى القوى الفاعلة والمؤثرة في منطقتنا للقول: إننا جزء من المنظومة الدولية المتطورة، أي أننا دول معاصرة.
وحين نتحدث هنا عن مصطلح «استشراف» بمعزل عن العمل المؤسسى، فذاك لأنه غَدَا بعد زمن من انتشاره حالة من العبثيّة في التفكير، حتى إن بعض المراكز البحثية ترفع شعار «نستشرف المستقبل»، وفى حقيقة الأمر هي لا تعرف الماضى ولا الحاضر، وبالتى يتعذر عليها التطلع نحو المستقبل، والدليل على ذلك أن معظم نتائج الأبحاث التي تقدمها أو تعدها أو حتى تشرف عليها عبارة عن «تنجيم كاذب».
وإذا كنا لا ننكر وقوع مراكز أبحاث المستقبل على مستوى العالم في أخطاء كارثية- أحيانًا- خاصة عند توقعاتها لنتائج الانتخابات عبر قياس الرأى العام، إلا أن هذا لا يعطينا الحق في دولنا العربية في أن نزوّر نتائج البحث لأجل خدمة أهداف أنظمة الحكم، حتى لو قام ذلك على نوايا طيبة، أو كان الهدف منه نبيلًا.
من ناحية أخرى، فإننا نُواجه أزمة تتمثل في رفض «اليقين النسبى لنتائج الأبحاث المتعلقة بالمستقبل»، التي حملت نوعًا من المصداقية تخص بعض القضايا والمشكلات، ليس من السلطة أو من العامة، وإنما من عناصر النخبة، بما فيها تلك المهتمة- صدقًا أو كذبًا- بنتائج البحث العلمى.
الحالة تلك تقودنا إلى الحديث عن علاقة وسائل الإعلام بدراسة المستقبل، حيث تعمل هذه الأخيرة- في ظل البحث عن الإثارة والجماهيرية والنجومية- على تسفيه وتسطيح القضايا، فمثلًا كل سنة تستضيف المُنجمين ليُطلعونا على «الغيب الشيطانى»، بدل العلماء والمفكرين في المجالات المختلفة.
قد يعود ذلك إلى الفشل المعروف لدى معظم المراكز البحثية العربية من ناحية تحقيق نتائج مرضية ومؤكدة، لكن السبب الرئيس لذلك هو الرهان على مشاهدة واسعة، وما يتبعها من تحقيق مكاسب، إضافة إلى أن لغة الخطاب السائدة في الإعلام العربى تجنح إلى الترفيه والتسلية أكثر من تنشيط العقل والذاكرة، ما يعنى أنه لا مكان للعلماء والمفكرين في تلك الوسائل.
وِزْر ما يحدث تجاه «علم المستقبليات» في بلادنا العربية لا تتحمله وسائل الإعلام وحدها، إنما يقع جلّه على مراكز ومؤسسات البحث الحكومية والخاصة، حيث تكتفى هذه الأخيرة بنشر أخبارها، بما فيها تلك التي تحمل زيفًا وظنًّا، كونها ترى أنها في خدمة المالك، وبالتالى هي معنيّة بإرضائه، وبذلك نجد بعضها قد ضل وأضل، وأبعدنا عن الرشاد، وأدخلنا عالم التيه، بل إن بعض نتائج الدراسات المستقبلية أسهمت في إشعال الفتن والحروب في دولنا.
وفى سياق الحديث عن العلاقة بين الإعلام واستشراف المستقبل في سعى لتثقيف المشاهدين، هناك تجارب عربية واعدة- لا تزال تشق طريقها على استحياء، ويتوجس المسؤولون في القنوات التلفزيونية منها خيفة- من بينها البرنامج الأسبوعى الذي حمل عنوان «استشرافات» على قناة «الشروق نيوز» من إعداد وتقديم الدكتور محمد سليم قلالة، (مفكر وكاتب وإعلامى وأستاذ جامعى)، وقد انطلق منذ شهر نوفمبر الماضى في بادرة تُحسب لقناة الشروق.
الموضوعات التي طرحها «قلالة» على غاية من الأهمية، وتبحث في مستقبل العرب والمسلمين خاصة، وكل البشرية عامة، على مستوى الأفكار والمواقف والعلاقات، والتوجهات الكبرى للسياسة الدولية، بناء على معلومات علمية ودقيقة.
سليم قلالة يأتينا محملًا بزاد معرفى، يظهر في شرحه، ويكشف عن تعمق في فهم السياسة الدولية، وكم كنت أتمنى أن تتم استضافته بشكل دائم في البرامج المتعلقة بدراسة واستشراف المستقبل في القنوات الجزائرية والعربية لما يمتلكه من رؤية ثاقبة، وها هي أمنيتى تتحقق، ويظهر في برنامج أسبوعى.
برنامج «استشرافات» أراه في المستقبل المنظور مَرْجعًا وحَكَمًا في كثير من قضايانا العربية المصيرية، ولن يكون جمهوره من «الخاصة» فقط كما هو في بدايته الآن، إنما سيشاهَد من كل المهتمين بالفكر والثقافة، ومن صناع القرار، ومن أساتذة وطلبة الجامعات، ومن عناصر النخبة بشكل عام، ويكفيه الآن أن بعض المشاهدين أخذ يتساءل عن معنى استشراف المستقبل.. وبداية الوعى تأتى من طرح السؤال.
المصدر : المصري اليوم