الإستقلال الثقافي (3) / السيد محمد حماه الله
انتهينا في مفاكرتنا السابقة عن الثقافة في فعلنا الإجتماعي الى اعتبارها البناء الفوقي الذي يشكل الرؤى والمطلقات العليا التي تنعكس ك(لا) وعي المجتمع مقابل الحضارة التي هي البناء التحتي المجسد والمتشكل وفق قبليات وتصورات البناء الفوقي . والفعل الإنساني في غالبه ما هو إلا جدل الثقافة والحضارة
والثقافة هي شخصية الأمة وتمايزها الذي على أساسه قامت وكانت وهي التي تصنع الأمة تجريدا وواقع
ومن هذه القاعدة يمكننا أن نستخلص خصائص الثقافة :
1/ التمييز والإستقلال
2/ التعقيد والتركيب
3/ التوافق والتكيف
4/ التكامل والتطور
5/ التراكم والإنتقال
6/ قابلية التطور
7/ الإستمرار
بعد استعراض هذه الخصائص والمحددات للثقافة نجد أنها أسفار الذات في تجليها الزمكاني فالذات في سعيها التاريخي لا تبارح إطاري العقل والمادة .
عقل يشكل لا وعيها مثلا عليا يمكن أن نمايزها ثقافة ومادة قوامها انفعال الذات بالمحيط لإستغلاله وتطويعه لإحتياجاتها في إستمرار الحياة فتكون الحضارة هي الإسفار المادي للذات بعد أن كانت الثقافة هي جوهرها العقلاني ومضمار رحلة الثقافة والحضارة هي الهوية المتمايزة لكل شعب وأمة
الهوية :
الهوية هي جدل تجريد الثقافة الى تجسدها الحضاري سفورا عن الذات وأشواقها
لتعريف الهوية لن نبارح درج ما ألفناه في استكناه أضابير المفاهيم تأسيسا على بداهة معانيها في استخدامها اللغوي البسيط
نجد أن الهوية عرفت في المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بأنها حقيقة الشئ (أو الشخص) التي تميزه عن غيره
وقد عرفها الشريف الجرجاني في تعريفاته بأنها : الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق إشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق
أما قاموس اكسفورد (أحد مصادر تحديث المصطلحات في المعاجم العربية الحديثة) يعرف الهوية (Identity) بأنها : حالة الكينونة المتطابقة بإحكام أو المتماثلة الى حد التطابق التام أو التشابه المطلق والكينونة هنا تتعلق بالشئ المادي أو المشخص الإنساني
وقد عرفها أحد الفلاسفة بأنها : التاريخ الشخصي الذي نرويه لأنفسنا
وقد أرادها محمود درويش استشرافا وبناءا للذات حين قال الهويّة هي ما نورِث لا مانرث، ما نخترع لا ما نتذكر، الهويّة هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة” لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف
مما سبق نخلص الى أن الهوية هي التحقق الموضوعي للذات المجتمعية بمعنى انها الكل المشترك الذي يميز جماعة من الناس
عرقا
لغة
دين
الهوية هي الوصف المجرد للشعب وهي تتشكل عبر مئات السنين من خلال تفاعل هذا الشعب مع الطبيعة والبيئة الجغرافية ومع التكوينات الإجتماعية ومع غيره من الشعوب
وبما أن أفراد الشعب لا يعكسون الواقع كما هو وإنما يتفاعلون معه فإن هويتهم تتشكل عبر إدراكهم لما حولهم ومن خلال ذكرياتهم وتطلعاتهم
مما يقود الى أن الهوية هي الشعب في مطلقاته ودرج معاشه هي الثقافة والحضارة مجتمعتان
العقل الجمعي ومادته التي تعكس ثقافة وفعل إجتماعي وسياسي وإقتصادي
وقد كان عبد الوهاب المسيري موفقا حين قال أن هوية الإنسان هي صميم رؤيته للكون والهوية هي المجتمع في صيرورة نضجه من تصوراته البدائية الساذجة الى اللحظة الراهنة فهي كل متشابك بين التاريخ والإجتماع والإقتصاد والبيئة الجغرافية كما صاغ هذا المعنى وأبدع محمود درويش في قوله :
والهويَّةُ؟ قُلْتُ فقال: دفاعٌ عن الذات…
إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها, لا
وراثة ماضٍ.
أنا المتعدِّدَ… في
داخلي خارجي المتجدِّدُ. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن
من هناك لدرَّبْتُ قلبي على أن
يُرَبي هناك غزال الكِنَايةِ…
فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْ
نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ
والهوية تحدد تأسيسا على ركائز ثلاث تشاد عليها المجتمعات وبها تعرف وتتمايز :
1/ العرق
2/ اللغة
3/ الدين
وجميع هذه الإحالات تجسيدا للهوية ينظمها التاريخ حامل الإنشاءات الذي تقام عليه الهوية وهو من يسوي تباينات المجتمع ويصهرها في كينونة ذات متوحدة عمادها المجتمع المشكل فيضحى هو الذات المستوعبة لكل الذوات الفردية والإجتماعية السابقة للمجتمع وعملية الصهر تمتد تحقيبا في الزمان ما تستلزمه روابط المجتمعات المشكلة فيما بينها حتى تذوب في وعاء المجتمع هوية وانتماء
فالهوية كما أسلفنا كائن حي يتشكل وينمو ويتطور هناك مكامن قوة تحفظ بقائها ونقاط ضعف قد تؤدي الى تفككها وانحلالها وذوبانها في هويات أقوى أو أرقى أو أقوى وأرقى
المصدر : الكاتب