الإستقلال الثقافي (5) / السيد محمد حماه الله
الإستغلال الثقافي :
إذا أردنا أن نؤسس نظريا لمفهوم الإستغلال الثقافي على قلة الدراسات حوله “توجيه استعماري” يمكن أن نتلمس خطى الحديث عن امبريالية ثقافية أو إستعمار ثقافي في إطار خطاب ما بعد الإستعمار خصوصا عند فوكو وإشتغاله على تفسير السلطة والحقيقة
وأيضا إدوارد سعيد ودراساته عن علائق الغرب بالشرق وما انتهى إليه في عمله القيم العظيم (الإستشراق) بتقديم أعمق نقد إنساني لفكر عصر التنوير وتصورات الغرب الإمبريالي عن الشرق “وبالضرورة عن غيره من شعوب المعمورة”
فوكو مثلا يكاد يكون هو من نحت مصطلح (الإمبريالية الثقافية) في تفسيره الفلسفي عن الحقيقة والسلطة كما أسلفنا ومفهومه عن الحكومة فمثلا نجده يعرف السلطة بأنها : نظام من الإجراءات المنتظمة للإنتاج والتنظيم والتوزيع والتداول وتشغيل البيانات التي لها علاقة دائرية مع أنظمة السلطة وما هو متأصل دائما في أنظمة السلطة وهو دائما “كما يؤكد فوكو” الحقيقة وهي محددة ثقافيا ولا يمكن فصلها عن الأيديولوجيا التي تتزامن في كثير من الأحيان مع أشكال مختلفة من الهيمنة الإمبريالية الثقافية .
فالثقافة حاكمة الحقيقة ومنتجتها هي البعد الحاوي المشكل للحقيقة التي تتأطر عليه وبداخله فالحقيقة أثر الثقافة وهي التي تحكم السلطة فالسلطة آلية اشتغال الحقيقة (المرضي عنها) بمعنى أن السلطة بدن والحقيقة منه بموضع القلب هي الوعي والإدراك والإرادة التي تعطي أحكامها خيرا أو شر إصطفاءا أو إقصاء في لا وعي السلطة
هي النظام الواعي المستقل والسلطة دالة متضمنة فيها
وفي الإستغلال الثقافي يمكننا التمييز بين نمطين من الإستغلال إلا أنهما في جوهرهما يتوحدان وأن تباينت تجسداتهما
إستغلال إكراه وهو الذي تسعى فيه قوى مستغلة (بالكسر) الى تغيير جلد المجتمعات التي تقع تحت سطوتها بالكامل كما فعلت فرنسا في أفريقيا جنوب الصحراء وإقليم ما وراء البحار وأرادت أن تفعل في مستعمراتها الإسلامية (الجزائر بصفة خاصة) مع أنها صادفت بعض النجاح إلا أن تجذر الهوية العربية الإسلامية كان ولا زال الضامن الأساس لإستقلال شعوب المنطقة في وجه كل استلاب وتبعية
ويجادل بعض المنظرين الغربيين بأن هنالك من بين الشعوب من أحتضن ثقافة مستغله طواعية بإرادة حرة إستلهاما وليس إستغلالا ممايزين في فعلي الإستغلال الثقافي بين الإيجاب والسلب إذ أن كل المجموعات الثقافية حتى التى تتصور أنها أرقى في سعي دؤوب الى إستكمال متعلقها الثقافي الخاص بها الذي هو بأي حال من الأحوال ناقص جزئيا في إطار الفعل الإنساني العام
والزعم بالإستقبال الطوعي للثقافة الغالبة أمر ينفيه الواقع إذ أن القهر الذي أنتهى على مستوى الماديات مورس قهرا على النفس وقد صاغ ابن خلدون قديما قانون التأثير والتأثر في الفعل الاجتماعي فقال :
( المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده)
والسّبب في ذلك أنّ النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتّصل لها اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس وإنّما هو بما انتحله من العوائد والمذاهب تغالط أيضا بذلك عن الغلب وهذا راجع للأول ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبّهين بهم دائما وما ذلك إلّا لاعتقادهم الكمال فيهم وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السّلطان في الأكثر لأنّهم الغالبون لهم حتّى أنّه إذا كانت أمّة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التّشبّه والاقتداء حظّ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنّك تجدهم يتشبّهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتّى في رسم التّماثيل في الجدران والمصانع والبيوت حتّى لقد يستشعر من ذلك النّاظر بعين الحكمة أنّه من علامات الاستيلاء والأمر للَّه. وتأمّل في هذا سرّ قولهم العامّة على دين الملك فإنه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلّمين بمعلميهم والله العليم الحكيم وبه سبحانه وتعالى التّوفيق
فأنظر الى ابن خلدون وهو يوثق اللحظات الاخيرة من عمر الأندلس بقهرها وتذويب نفسها فيمن تغلب عليها من الجلالقة مقدمين دنية الاتباع على شرف المقاومة والرباط على ثغور الهوية وهو مصير نخشى على أنفسنا من تقهقرنا اليه فلا يؤمن مكر التاريخ الذي يعيد نفسه ويكررها مأساة ومهزلة والقهر في حال مجتمعاتنا ” الما بعد استعمارية” تحقير ذات وإمكان فتحصر سبل الحضور الحضاري في الإنقياد والتبعية للمتغلب دون اعتبار خصوصية ولا تاريخ ولا حتى تغير وتبدل الاستعدادات والتحديات
والاستعداد للإستغلال الذي وسمه سابقا فيلسوف الحضارة مالك بن نبي بقابلية الإستعمار يتجسد في الارتهان للاخر المقابل الحضاري في إستيراد نظمه وطرائق عيشه كما أسلفنا فيما يتعلق بالإستهلاك كنمط حياة أرسته الرأسمالية حتى قلب هرم أولويات العمل والإقتصاد من السعي الى توفير ضروريات وإحتياجات الفاعل المجتمعي الى إقرار إحتياجات وصناعتها ويوجه الفاعل الاجتماعي بالإكراه والقهر الناعم المتمثل في الدعاية والإعلام ليضحى الفاعل المجتمعي “الذي سيعرف بالمستهلك” حلقة من حلقات التدوير السلعي الإستهلاكي والمستغل “بالفتح” يتصالح مع نفسه مبرزا ثقافته كمنطقة ضغط منخفض أو ثقافة استسلام.
ومن خلال النمط الإستهلاكي للمنظومة التي يراد لها أن تكون الوجه الحضاري للإنسانية ويعاد صياغة العالم عليها فإن الثقافة تصدر من خلال معلبات السلع وتمتص سلبيا من خلال استخدام المنتجات الأجنبية وقد وصف هذا الطور من الإستغلال الغربي بالإمبريالية المبتذلة.
وعلى سبيل المثال في الوقت الذي تتهم فيه الشركات الأمريكية في رغبتها بالسيطرة على 95% من المستهلكين حول العالم فإن الإمبريالية الثقافية تنطوي على أكثر من مجرد سلع إستهلاكية بسيطة فهي تنطوي بصورة أعمق “وأخطر” على ترسيخ وتجذير السيادة الأمريكية غير الواعية على وجدان الشعوب تحت غطاء جذاب من القيم والمبادئ السامية مثل الحرية والديموقراطية لكن الحقيقة أن العديد من الثقافات حول العالم تختفي بسبب التأثير الكاسح لأمريكا المؤسسة الثقافية