الحل الإقليمي ،مشروع تصفية بمسمى مضلِل / إبراهيم أبراش
المفاهيم والمصطلحات في كافة العلوم لا تُصاغ أو يتم اعتمادها وترويجها عبثا بل تحمل دلالات وتعبر عن مضامين وخصوصا في مجال العلوم الاجتماعية وعلى رأسها علم السياسة . فهناك فرق مثلا ما بين العنف والحرب والإرهاب والجهاد والدفاع عن النفس والمقاومة مع أنها مصطلحات تطلق على نفس الحدث ،كما أن هناك فرق بين السلام والتسوية السياسية الخ ، وفي سياق موضوعنا هناك فرق بين أن نقول حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي او نقول الحل الإقليمي ،فالمصطلح الاول يعتبر الفلسطينيين طرفا رئيسا في الصراع أما الثاني فيغيبهم ويعتب القضية أقليمية يمكن حلها حتى بتجاوز الشعب الفلسطيني .
وفي الحياة السياسية وخصوصا في الشرق الأوسط هناك مختصون وعلماء مهمتهم كي الوعي عن خصومهم من خلال ترويج مفاهيم ومصطلحات يعتقدون انها مع مرور الوقت ستُرسخ في العقل وتلغي مفاهيم سابقة ،وفي هذا السياق سنتحدث عما تروجه أخيرا إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الامريكية عن الحل الإقليمي وهو مصطلح خطير ومضلل يضاف إلى ما سبق من مفاهيم ومصطلحات هدفها تغيير طبيعة الصراع في المنطقة ،فمن الصراع العربي الإسرائيلي إلى مشكلة الشرق الأوسط إلى صفقة القرن وأخيرا الحل الإقليمي .
إن الهدف الرئيس من وراء ترويج هذه المصطلحات هو تغيير طبيعة الصراع والالتفاف على حقيقته وجوهره كصراع بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني الذي له عنوان وهو منظمة التحرير الفلسطينية ،وإحلال دول الإقليم وخصوصا الانظمة العربية ليحلوا محل الفلسطينيين في تسوية مشاكل المنطقة نحيث أن الحل الإقليمي يعتبر القضية الفلسطينية مجرد جزئية أو مشكلة كبقية مشاكل المنطقة وليست جوهر الصراع ومركزه.
لقد ناضل الشعب الفلسطيني عسكريا وسياسيا طِوال مائة عام لمواجهة وعد بلفور 1917 وما ترتب عليه من موجات هجرة لفلسطين ، كما قام بثوراته وانتفاضاته سواء قبل النكبة أو بعدها ،كل ذلك ليحصل على اعتراف من العالم بأن فلسطين هي حق للشعب الفلسطيني وأن نضاله ضد الحركة الصهيونية ودول الاحتلال الإسرائيلي نضال مشروع ،وقد أيدت غالبية دول العالم شعب في مطالبته بحقوقه السياسية وهذا ما تجلى بعشرات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها ،ومن أهم هذه القرارات قرار 181 حول تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأخرى عربية وقرار 194 حول حق عودة فلسطين إلى مدنهم وقراهم التي هُجروا منها بعد حرب 1948 ، وتوالت القرارات بعد ذلك فما يتحدث عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره السياسي على أرضه وحقه في مقاومة الاحتلال ،كما اعترفت الجمعية العامة بفلسطين دولة مراقب عام 2012 ،كما انظمت فلسطيني إلى عشرات المنظمات والوكالات الدولية ،ولفلسطين أكثر من مائة سفارة وبعثة دبلوماسية في العالم وهو اكثر مما لدى إسرائيل .
لو كان الإقليم في عافية
الحالة العربية الراهنة غير مؤهلة لاستلام زمام القضية الفلسطينية أو استعادة البعد القومي للقضية ، لذا من الخطورة المراهنة الآن على أية مبادرة أو وساطة عربية لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي .
مع كامل قناعتنا بأن المشروع الصهيوني يتجاوز في أهدافه الاستراتيجية فلسطين ، ومع احترامنا وتقديرنا للشعوب العربية المتعاطفة مع عدالة قضيتنا ، إلا أنه سيكون من الخطورة استمرار الترويج الخارجي للصراع والتعامل معه رسميا كصراع عربي إسرائيلي أو صراع إسلامي يهودي ، لأن ذلك يُظهر إسرائيل كدولة محدودة جغرافيا وسكانيا يهددها أكثر من مليارين من العرب والمسلمين ، بينما الواقع يقول بأن القضية الفلسطينية لم تَعد قضية العرب والمسلمين الأولى في ظل فوضى الربيع العربي والأزمة البنيوية والوظيفية التي تهدد وجود الدول الوطنية القائمة .
القول بأن الصراع الدائر على الأرض اليوم ما زال صراعا عربيا إسرائيليا أو صراعا له بعد ديني بين المسلمين واليهود ، قد يكون صحيحا في إطار التحليل الاستراتيجي التأسيسي للصراع في وعلى فلسطين أو التوظيف الأيديولوجي والتعبئة السياسية وتحفيز الذاكرة بحقيقة الكيان الصهيوني ، كما كان له نصيب من الصحة فيما مضى من الزمن ، ولكنه اليوم وبحسابات الواقعية السياسية واستحقاقات السلوك السياسي القائم هو حديث أيديولوجيا وتمنيات ولا يستقيم مع معطيات الواقع .
إن كانت الايدولوجيا مفيدة في بعض السياقات إلا أنه لا يمكن أن تبنى عليها حلول واقعية لا في إطار تسوية سياسية ولا في إطار مواجهات عسكرية . حقيقة الصراع الدائر على الارض اليوم هو صراع وحرب مفتوحة ما بين الشعب الفلسطيني الصغير الخاضع نصفه للاحتلال ونصفه الآخر يعيش في الشتات والذين يتم محاصرتهم من الأنظمة العربية بما لا يقل عن محاصرتهم من إسرائيل نفسها ، في مواجهة إسرائيل والحركة الصهيونية واليهودية العالمية المتحالفين مع المسيحية الصهيونية واليمينيون الجدد في الولايات المتحدة الامريكية والغرب .
الخطورة لا تكمن في خلل ابستمولوجي في توصيف الصراع كصراع ايدولوجي قومي أو ديني ، بل في طرح مبادرات لتسوية مسألة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين انطلاقا من معادلة أن الصراع ما زال صراعا عربيا إسرائيليا ، أو دفع الأمور نحو حرب دينية مفتوحة ما بين الفلسطينيين واليهود اعتمادا على مقولة البعد الديني للصراع أو الجهاد لتحرير فلسطين .
في ظل غياب الوحدة العربية حتى في حدودها الدنيا وغياب مشروع قومي عربي له عنوان محدد وإستراتيجية محددة أو أي شكل من اشكال الوحدة العربية أو التضامن العربي ، وفي ظل غياب مشروع إسلامي متفق عليه وفي ظل ما تشهده المنطقة من تطاحن وصراع بين الدول العربية والإسلامية وبعضها البعض ,
إن أية مبادرة تسوية سياسية أو وساطة تتضمن حل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين يطرحها أي نظام عربي أو إسلامي في هذا الوقت بالذات ، لن تكون إلا مبادرة هدفها حل إشكالات هذا النظام نفسه مع إسرائيل والغرب أو محاولة التقرب لهما والتطبيع معهما مستغلا القضية الفلسطينية كمدخل ، وستكون مبادرة أو وساطة تساوم على الحقوق الفلسطينية وبسقف أقل من الحد الادنى الفلسطيني بل وأقل مما تمنحه لنا الشرعية الدولية .
نفس الأمر بالنسبة لأي نظام أو حركة تقول بأنها تريد تدمير إسرائيل أو تحرير القدس ، فهذه الجهات توظف الدين في القضية الفلسطينية لمصالحها الخاصة وليس لتحرير فلسطين ، وهي غير مستعدة لأن تدخل فعليا في أية مواجهة عسكرية مباشرة لا مع تل أبيب ولا مع واشنطن ، وإن دخلت في مواجهات فستكون محدودة ومحسوبة لإضفاء مصداقية على أيديولوجيتها .
ليست هذه دعوة لفك الترابط بين فلسطين ومحيطها العربي والإسلامي ، فهذان البعدان مكون رئيس للقضية الفلسطينية التي لا يمكن أن تنسلخ عن ابعادها العربية والإسلامية والإنسانية ، كما أن نجاح الشعب الفلسطيني في إنجاز مشروعه الوطني التحرري سلما أو حربا مرهون بوجود حالة عربية شعبية ورسمية تتبنى خيار المقاومة فعلا ومستعدة لدفع استحقاقاتها .
لكن وحيث إن الحالة العربية والإسلامية الراهنة ، الرسمية منها والشعبية ، غير مهيأة لتحمل استحقاقات أية مواجهة جادة مع إسرائيل وواشنطن حتى على طاولة المفاوضات ، بل هي حالة ترتد تداعياتها سلبا على القضية الفلسطينية ، فعلى الفلسطينيين عدم المراهنة كليا على أي مشروع تسوية أو وساطة تطرحه أية دولة عربية أو إسلامية في ظل الوضع الراهن ، وخصوصا أن هناك بعض الأنظمة العربية مستعدة اليوم للتضحية بالمشروع الوطني الفلسطيني وبالشعب الفلسطيني حتى تحافظ على كيانها ومصالحها وتكسب ود واشنطن وتل أبيب .
إن كان العرب جادين في دعم عملية السلام فعليهم التمسك بالمبادرة العربية وعدم توظيف الفلسطينيين للتراجع عنها أو تخفيض سقفها ، وعليهم دعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضة والمعاملة الكريمة للفلسطينيين المقيمين على أراضيهم أو الذين يمرون عبرها .
لذا على الفلسطينيين استعادة زمام المبادرة ووقف المراهنة على مبادرات أو مشاريع تسوية تسمى عربية أو إسلامية . إن عناصر القوة المتوفرة في الشعب الفلسطيني في حالة إنهاء انقسامه وتوحده حول رؤية وموقف موحد هي أكثر فعالية وتأثيرا على مجريات الصراع من عناصر القوة العربية والإسلامية المتاحة والتي يمكن توظيفها فعليا الآن لمواجهة إسرائيل ومخططاتها ، ليس لأن العرب والمسلمين لا يتوفرون على عناصر قوة وتأثير بل لأن هذه القوة محجور عليها أو أن الأنظمة غير مستعدة لتوظيفها في مواجهة إسرائيل وواشنطن فيما هي تتعرض لخطر داخلي يهدد وجودها .
[email protected]