ثورة التفاهة (رأي حر)
تعيش موريتانيا تحولا كاسحا قد نسميه ثورة التفاهة، إذ نشأت هذه الظاهرة إبان حكم ولد الطائع قبل أن تجتاح جميع مفاصل الدولة وكل مجالات الحياة في عشرية ولد عبد العزيز، التي لم تتميز فقط بتصاعد الخطاب الشعبوي والشرائحي والنهب الممنهج لخيرات البلاد وتفشي تجارة المخدرات، بل أنتجت أيضا ما هو أخطر ألا وهو ثقافة التفاهة، التي وجدت أرضية خصبة للنمو والازدهار، في ظل منظومة الاستبداد والفساد المالي وهشاشة المجتمع.
نظام ولد عبد العزيز وصناعة التفاهة
“ثورة” التفاهة التي قادها ولد عبد العزيز تجلت على المستوى السياسي في جانبين: ثقافة الفساد والطمع واللهث وراء الثراء غير المشروع وكسب المال بأية وسيلة وهي الثقافة التي كرسها نظامه، سعيا لضمان ولاء الوجهاء والنخب. كما انتشرت أيضا ثقافة التملق والانبطاح وبيع الذمم التي رسخها الحزب الحاكم في عهده. وكان هذا الأداة الفعالة في إخضاع ومصادرة إرادة الشعب واحتكار الدولة لصالح النخب القبلية والجهوية وعديمي الخبرة والكفاءة. لقد أدار ولد عبد العزيز البلاد بأسلوب ميزه الازدراء والغطرسة، حيث لم يحترم كبيرا ولا صغيرا، ولا قيما ولا مبادئ، مستخدما ثقافة البلطجية لتصفية حساباته والوصول إلى أهدافه.
نظام ولد عبد العزيز صنع “قيادات” من العدم، بدءا ب”معارضين” فئويين”، الذين خدموا أجندته، رغم خطابهم الحاد، لإضعاف المعارضة التقليدية، قبل أن يخرجوا عن سيطرته، بحثا عن الامتيازات أو ما بات يعرف ب”السلاليخ”، على حساب التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية، عبر زرع الكراهية وتأجيج نار الفتنة وتصنيف الموريتانيين حسب العرق أو لون البشرة. كما أنتج هذا النظام طبقة من الوزراء والمديرين والسفراء، وغيرهم من المسؤولين في منتهى التفاهة، لا أحد يصدق أنه من الممكن تكليفهم بتسيير أبسط مصلحة، فبالأحرى مرفق عمومي أو وزارة. هؤلاء لم يكونوا أبدا يحلمون أن يصبحوا وزراء أو مسؤولين أو نوابا. لقد كانت صناعة التافهين التي تجلت في إقصاء النخب النظيفة وأصحاب الكفاءات، الذين يشكلون عقدة الرئيس السابق، توجها وخيارا استراتيجيا للنظام خلال العشرية. لذلك استقطب هذا النظام كوكبة من التافهين منحوه في المقابل ولاءهم، بكل إخلاص وتفان، بدل الدولة والوطن، مغلبين المصالح الخاصة على المصلحة العامة.
تسونامي الانحطاط الذي بدأ يعصف منذ بداية العشرية ترك خلفه نخبا رديئة تصدرت الواجهة وتوزعت على جميع قطاعات الدولة، فنجد بينهم بعض النواب وغيرهم من أهل المال وسماسرة السياسة الذين حاولوا جاهدين السماح للرئيس السابق بالترشح لمأمورية ثالثة، في خرق صارخ للدستور. حتى أن بعضهم طالب، في جلسات علنية، بتوريث الحكم لآل محمد ولد عبد العزيز، مما يعني القضاء على الدستور ودولة القانون.
في حين دعا وزراء في حكومة ولد عبد العزيز، الذي يكتشف الشعب اليوم، مصدوما، مستوى الفساد والنهب الذي عرفه البلد فترة حكمه، إلى التمسك به، كونه، حسب قولهم، من “أطعم من جوع وآمن من خوف”، كما دعا بعضهم إلى العض عليه بالنواجذ (لا ترخوه) والتمسك به ولو تطلب الأمر التضحية بالدستور. لقد وصل التملق ببعض المسؤولين حد الانحناء، بل وحتى الركوع للرئيس عند استقباله. هؤلاء هم التافهون الذين تم تكليفهم بمصير الشعب وتسيير مقدراته. هدفهم رضاء الحاكم، مهما كان وبغض النظر عن توجهاته، لذلك فهم لا يهتمون بتحديد أهداف طموحة ولا أولويات تنموية، بل يقتصرون على الثراء وإثراء الرئيس وبطانته، على حساب المصلحة العامة.
دولة التفاهة صنعت أيضا من لا شيء رجال أعمال حققوا ثروات هائلة في زمن قياسي، وبلغوا، بفضل الصفقات العمومية المغشوشة، مستوى من الثراء لا يبرره معدل نمو اقتصاد بلدهم المنكوب ولا مواهبهم في ريادة الأعمال. وإنما ساعدهم في ذلك وفي الصعود والتغول على مراكز القرار تواطؤ النخب السياسية الفاسدة وعجز المنظومة القضائية عن مساءلتهم، علما أن الثراء بلا سبب موجب للمتابعة القانونية في كل بلدان العالم ومن غير المعقول أن يتم تعطيل هذه القاعدة في واحد من أفقر الدول.
نظام محمد ولد الغزواني في مواجهة دولة التفاهة
في الوقت الذي كان الشعب ينتظر من ولد الغزواني، الذي تمتع غداة انتخابه بصورة توافقية نسبيا إذ يعتبر أقرب للقيم الوطنية القائمة على الاحترام والكرامة، احداث قطيعة مع نظام ولد عبد العزيز، لا سيما فيما يتعلق باختيار من يدير البلاد في السنوات القادمة، فاجأهم بإضفاء الشرعية على النخب التافهة، عن طريق إعادة الثقة فيها وحمايتها من العقاب بعدم مساءلتها، رغم شبهات الفساد الجسيمة التي تحوم حولها. كما أن الحفاظ على بعض رموز العشرية من كبار المفسدين في مناصب إستراتيجية كرس هيمنة التافهين على حساب المصلحين داخل النظام، مما أفقد عمل الحكومة الكثير من مصداقيتها، كما ساهم في تأصيل ثقافة التفاهة. في المشهد السياسي. لذلك كان من الطبيعي أن تفشل هذه النخب في صياغة وتنفيذ سياسات تنموية هادفة وفعالة، تضمن للمواطنين الاستفادة من الخدمات الأساسية، من ماء و كهرباء ونقل عمومي وصحة وتعليم وتكوين مهني وسكن لائق وفرص عمل. وأقتصر تدخلها على برامج محدودة تم تنفيذها باللجوء الى صفقات التراضي المشبوهة وبدون نتائج تذكر، بما في ذلك برنامج تآزر، الذي كان يعتبر قمة التخطيط الاستراتيجي لهذه النخب.
كما أن افتقاد الحكومات المتعاقبة للصرامة والجسارة في التنفيذ، نظرا لتغول التافهين داخل الإدارة وفي مفاصل الدولة ونظرا لتهميش المصلحين، سهل رضوخ النظام لمنطق الابتزاز من طرف من نصبوا أنفسهم ممثلين لشرائح معينة، حتى أن منهم من نصب العداء للدولة عندما اتهمها في المحافل الدولية بالتمييز العنصري، مختزلين التناقضات الاجتماعية المعقدة في صراع عنصري وهمي، دون أدنى مسائلة أو محاسبة. حالة الوهن هذه شجعت تفشي منطق المحاصصة الشرائحية وأعطت دفعا لخطاب الكراهية الذي يقوض تماسك المجتمع، كما أضفت مصداقية ومشروعية لأصحابه.
وبموازاة صعود النخب السياسية التافهة إلى الواجهة، ظهر علماء ومثقفون تبنوا مواقف غريبة، كما عج عالمنا الافتراضي، بين عشية وضحاها، بشخصيات سخيفة، من حمقى وسذج ومرضى الاستعراض ونجوم التفاهة… الذين تسللوا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى العالم الواقعي، مكرسين بذلك تغلغل ثقافة التفاهة داخل المجتمع، عبر الفساد والتملق.
العلم والإدارة أولى ضحايا ثقافة التفاهة
ثورة التفاهة أصابت المجتمع في قلبه النابض عندما قام بعض رجال الدين بالتوسل للرئيس السابق لينقض يمينه الدستوري ويترشح لمأمورية ثالثة. ولكنها أنتجت ما هو أغرب، عندما برز فقهاء “تقدميون”، يتفاخرون بماض من المجون والرقص، معرضين عن الموروث والثابت، بتبني آراء مثيرة للجدل وفتاوى شاذة زعزعت ثوابت المجتمع. هذا الموقف قد يفهمه البعض أنه بدافع الظهور عن طريق الاختلاف وفق قاعدة خالف تعرف، مركزين في ذلك على إثارة النقاشات الجانبية حول بعض المسائل الثانوية. هذه الفتاوى تلاقي رواجا كبيرا لدى كثير من المواطنين وخاصة ما يعرف بمجتمع “المسرح”، الذي يشمل النخب التافهة التي لا حياة لها إلا الترف واللهو والعبث والتي دائما ما تبحث عن من يشرع لها نزواتها وما تمليه عليها أهواءها.
منظومة التفاهة أفرزت أيضا أشكالا من أشباه المثقفين يَدَّعُون “الحداثة”، في حين أنهم لم يتبنوا منها إلا بعض قشورها، ومع ذلك لا يعلو صوت فوق غوغائهم، حتى صوت المثقفين الحقيقيين، الذين فضَّلوا النأي بأنفسهم عن جدال هؤلاء التافهين. ينشرون السخافات على صفحات التواصل الاجتماعي، يتشدقون بنظريات لا يدركون معناها، يحاولون إثبات وجودهم بكسر التابوهات المفترضة وبالتهجم على قيم وثوابت الشعب. جل ما يكتبونه سطحي ويفتقد للعمق والتفكير ولا ينافسهم في الإبداع في إنتاج الهراء إلا بعض الشعراء من أرض المليون شاعر، الذين يتسابقون إلى التطبيل للباطل، بسبك شعر ركيك يفتقر للإبداع، وهم لا يملون التسبيح بحمد الحكام ورجال الأعمال.
منظومة التفاهة أحكمت قبضتها على الإدارة العمومية حيث إن جل من تقلدوا وظائف في العشرية أو ترقوا في الادارة، لم يكن ذلك بفضل كفاءاتهم وإنما بفضل انتماءاتهم، عن طريق تدخل نافذ من سياسيين وضباط ورجال الأعمال. لذلك من الطبيعي ألا يكون لهم أدنى ولاء للدولة ولا لقيم الجمهورية. هذا الوضع خلق فراغا معرفيا مفزعا في الوزارات والإدارات العمومية ودفع الكثير من الكفاءات والأدمغة إلى الهجرة، في وقت توجد فيه البلاد في أمس حاجة لكل قدراتها البشرية. وبالكاد، لا تستطيع اليوم وزارة ولا إدارة عمومية إنجاز دراسة قطاعية أو فنية دون اللجوء إلى التعاقد مع خبراء أجانب لإنجاز ما كان ينبغي عليها القيام به. ولا يهم مستوى الخبير ولا قيمة الدراسة علميا، حيث المهم هو إنجازها وجني عمولات عن طريق زيادة الفواتير، ثم تنظيم ورشة للمصادقة عليها، يسند تنظيمها للزوجة أو للصديقة قبل أن يتم وضعها مع غيرها من التقارير المماثلة في رفوف النسيان. تكليف التافهين بتسيير المرافق العمومية أفرز ظاهرة جديدة، تجسدت في منح صفقات تراضي لزيجات السرية وللمومسات لتنظيف الإدارات ولتزويدها بالمعدات واللوازم.
المجتمع أمام غزو ثقافة التفاهة
من غاص في مستنقع التفاهة سيكتشف مذعورا ما يعرف اليوم بالفاشينيستات ونجوم التيك توك، اللواتي ينشرن تفاصيل حياتهن أمام الملأ وَيُسَوِّقْنَ ثقافة التفاهة والمال الفاسد. يشاركن جموع المعجبين تفاصيل حياتهن وطموحاتهن التافهة: ماذا يطبخن وماذا يعجبهن وماذا يأكلن ويشربن ولبسن وأين ينمن ومتى وكيف يستيقظن. كل هذا يتم بجرأة غير مألوفة لإثارة الغرائز، حيث راجت ثقافة التعري والتفاخر، خاصة أن فقهاء “الحداثة” أجازوا ذلك، في الوقت الذي كان أحرى بهم التصدي للظواهر التي قد تعصف بقيم وتماسك المجتمع.
موجة التفاهة طالت كذلك قنوات التلفزيون، التي لم يعد يشاهدها إلا من تقطعت به الأسباب، حيث ظهر نوع من الصحفيين السطحيين، من خريجي الجامعات الحرة وغيرها، لا يُجِدْنَ أي لغة ولا مهنة، هن أقرب للعارضات، يقدمن برامج مبتذلة ويمضين أغلب الوقت في التبسم والضحك. كما أن جل برامجهن السخيفة تركز على استضافة التافهين وسؤالهم، بسذاجة وغباء، عن أمور عديمة الفائدة.
كما أنتجت عبقرية مسيري وسائل الإعلام العمومية نموذجا من التفاهة، بعلامة تجارية مسجلة بموريتانيا، حين أصبحت الإذاعة تلفزيون وتحول التلفزيون إلى إذاعة، وذلك في سعي محموم للإجهاز على الاعتمادات المالية من ميزانية الدولة ولإشباع رغبات مسيرين عموميين يتشاجرون كالأطفال. ولأن القنوات التلفزيونية الخاصة لا تشذ عن فلسفة التفاهة ولا تحترم دفتر شروط لا تسأل عنه الهابا ولا غيرها، تفتقت قريحة الإذاعة عن فكرة قضت على ما كان موجودا من حرية وتنوع الرأي وذلك بتحويل التلفزيونات الحرة إلى قنوات لبث منتوج إذاعة موريتانيا الرديء شكلا ومضمونا، مقابل أعطيات ممن لا يملك لمن لا يستحق. ثقافة التفاهة اكتسحت أيضا جل المنصات الرقمية التي تتنافس بشراسة من أجل السبق الصحفي ونشر الأخبار الكاذبة والزائفة والمقابلات الفارغة والنقل المباشر لأحداث لا يكاد يهتم بها أحد.
حتى الجامعات، خاصة الحرة منها، صارت تصنع كل سنة أجيالا من الخريجين، أغلبهم من أبناء المفسدين، أدمغتهم فارغة ومستواهم الأكاديمي متدني، فشلوا في التسجيل في الجامعات النظامية، نجحوا في الباكالوريا بفضل الغش، الذي أصبح ظاهرة عادية، حيث تتنافس كثير من الأسر، التي لم تعد تخجل من التظاهر بالغش، لمساندة أبنائها. أحسن ما يجيده أغلب خريجي الجامعات الحرة هو التقاط الصور عند حفلات التخرج والقيام بمآدب على الطريقة الأمريكية. والمؤسف أنهم سيشغلون مناصب سامية، نظرا لنفوذ أسرهم، مما سيضمن استنساخ وتكاثر النخب الرديئة.
المجال الخيري لم ينج هو الآخر من ثقافة التفاهة، حيث أختلط الحابل بالنابل وانفجر عدد الجمعيات الخيرية، وأصبح من الصعب التمييز بين المنظمات الجدية والجمعيات التافهة، التي يسيرها في أغلب الأحيان من أصبحوا نجوما ومشاهير بفضل التسول على صفحات التواصل الاجتماعي وبفضل حفلات تكريم الممولين. كما وصلت التفاهة حد تصوير المحتاجين وهم يتلقون المساعدات، في انتهاك لكرامة هؤلاء الفقراء وفي تناقض صارخ مع قوله صلى الله عليه وسلم “ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه”. ولكن ضرورة الدعاية على صفحات التواصل الاجتماعي تفرض تجاوز هذه الحواجز.
كما ساعد هذا المناخ حثالة المجتمع من مهرجين ساقطين ومطبلين على أن تطفو على السطح، حيث أصبحوا من أصحاب النفوذ، يتصدرون المجالس، لهم متابعيهم ومشجعيهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ينعشون الحفلات الاجتماعية، يشجعون البذخ والتنافس في استعراض الثراء.
الانحدار الاجتماعي وصل مستويات قياسية عندما ننظر إلى عدد المتابعين لبعض صفحات التواصل الإجتماعي، حيث تستخدم ألفاظا خادشة للحياء وأسلوبا سوقيا لكسب اهتمام المعجبين. لقد أصبح هؤلاء نجوما ولهم جمهور يتابع معاركهم الطاحنة، عبر التراشق بالعبارات السوقية والنابية، سعيا لاستقطاب أكبر عدد من المشاهدين.
القاسم المشترك بين هؤلاء هو حب الظهور على فيسبوك، انستجرام، تويتر، سناب شات، تيك توك، ويوتوب…الكل يلهث وراء الشهرة السريعة، في منافسة شرسة في الابتذال. الكل يجري وراء المال الرخيص، يبحث عن الإعجاب على شبكات التواصل الاجتماعي، لتغذية نرجسيته ب“اللايكات”. غير أن المفارقة هي أن هؤلاء من الذين يوصفون بالنجوم هم في الحقيقة ضحايا ثقافة التفاهة، حيث يعيشون حياة من الأوهام، مرهونة بعدد المعجبين والمعجبات.
الإصلاح ضد التفاهة
صناعة التفاهة صناعة متكاملة الأركان، هناك من يروج لها وينشرها عبر مظاهر الترف، أو ما يعرف محليا لدى الشباب ب”البرود”، وهناك من يغذيها بتداول الفضائح والتسريبات و هناك من يتابعها بإدمان وهناك من يمولها. تدفق المال الحرام، عن طريق صفقات التراضي والرشوة كان عاملا أساسيا في إنتاج وتمويل ثورة التفاهة.
الحقيقة أن المنظومة الفاسدة هي المستفيد الأول من فساد المجتمع، عبر تشجيع هيمنة ونشر ثقافة التفاهة، لما في ذلك من استغباء واستحمار للرأي العام وإحكام السيطرة على المجتمع وتشجيع عزوف الشباب عن النضال، وهم الذين يُعَوَّلُ عليهم من أجل إحداث ومواكبة التغيير. فمن الواضح أن هناك من يدفع بمشاهير التفاهة إلى تصدر الواجهة، كما يدعو إلى غض الطرف عن هفواتهم. هكذا أصبح الرويبضات” مشاهير ونجوما وتمكن البلهاء والحثالة من السيطرة على المجتمع، حتى أصبحوا الأكثر تأثيرا. لذلك نرى الكثير من الشباب يتابع نجوم التفاهة ويتفاعل معها باندفاع وشغف. إذ لم يعد هناك من يقتدي به الشباب والمراهقون وحتى الأطفال إلا نجوم السوشيال ميديا. كل هذا يؤشر إلى تدني الوعي وانحدار المستوى الثقافي والاخلاقي واختلال موازين المجتمع وقيمه وتدهور مستوى التعليم. لقد قتلت التفاهة الابتكار والإبداع وأصبحت الثقافة مجرد استنساخ وبلاهة وغباء.
إذا استمر الوضع على هذا الحال فلا أستبعد أن نكون مقبلين على حركات احتجاجية عنيفة تدعو إلى الإصلاح. وحتى ثورات شعبية تطالب بتحسين الظروف المعيشية للمواطنين وإلى تغيير جذري يدعم تطلعات الشعب ويحترم إرادته. لذلك أصبح الإصلاح أمرا ضروريا، بل ومصيريا. ولكنه يبقى مرهونا بقلب المعادلة، عبر ثورة مضادة لاجتثاث دولة التفاهة، وإحداث “ثورة في العقليات” تفضي الى إصلاحات بنيوية وتحول اجتماعي حقيقي تقضي على ثقافة التفاهة وتبعد النخب التافهة عن مراكز القرار. وعليه، فيتطلب عدم ترك الساحة للتافهين والفاسدين.
الجانب الإيجابي لثورة التفاهة أنها قلبت الموازين وأعادت ترتيب الأوراق، حيث قد تنجح فيما فشلت فيه كل الأنظمة والقوى المعارضة، ألا وهو توحيد آمال التغيير وأحلام الإصلاح، التي يحملها اليوم كل من هو غيور على مصلحة هذا الوطن ويحمل هم الشعب، من شباب ثوري، و نشطاء المجتمع المدني، وجامعيين ومثقفين وصحفيين ومدونين، وساسة وأساتذة وأطباء ومحامين ومواطنين عادين.
فالمواجهة لم تعد بين نظام ومعارضة، لأن هذه الأخيرة لم تعد موجودة على أرض الواقع وأصبحت في أحسن الأحوال افتراضية، بغض النظر عن نزاهة قياداتها ونضالها التاريخي الذي لا يمكن إنكاره، فهي لم يعد بمقدورها تجسيد التغيير ولا ينظر إليها الشباب على أنها قادرة على إحداث هذا التغيير. كما أن النظام لم يعد متماسكا كونه يشهد صراع أجنحة بين مفسدين ومصلحين. لذلك المواجهة أصبحت اليوم بين ثقافة التفاهة وثقافة التغيير، بين مشروع الفساد و مشروع الإصلاح، بين الدولة العميقة والشعب، بين النخب الفاسدة ودعاة الإصلاح، الموجودون في المعارضة كما داخل النظام، في الأحزاب السياسية والمؤسسة العسكرية، والمجتمع المدني والشارع.
أدعو كل أصحاب الضمائر الحية، إلى وثبة وطنية لإحياء الأمل ولمواجهة ثقافة التفاهة وإفشال مشروع المفسدين ودعاة التفرقة. لذلك لا بد من التصرف الحاسم قبل انهيار ما تبقى من الدولة، حيث ليس أمامنا متسع من الوقت. إلا أنه ما زالت هناك فرصة أخيرة أمام النظام القائم لإطلاق مشروع إصلاح حقيقي، يبدأ كحد أدنى بطي صفحة الفساد والقطيعة الجذرية مع المفسدين وإشراك النخب الصادقة والمشهود لها بالنزاهة والوطنية. فالبلد بحاجة إلى رؤية إصلاحية جادة وبرنامج متماسك وطموح يفضي إلى تغيير يرسخ المواطنة ودولة المؤسسات وسيادة القانون ويطلق العنان للمواهب والطاقات، خاصة الشبابية منها ويعزز تكافؤ الفرص، مع إعادة توزيع أكثر عدلا للثروة.
الدكتور محمد منير/ استاذ العلوم السياسية