رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي الدكتور خالد محمود عبد القوي يتحدث عن الدعوات القراّنية
مما لا شك فيه أن في القرآن الكريم كثير من الدعوات التي يدعى بها في الآخرة، مع أن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل، ولكن هذه الدعوات إن كانت من مؤمنين فهي على نوعين:
الأول: ما يكون بعد البعث وقبل دخول الجنة؛ فهي دعوات للنجاة من كرب يوم القيامة.
الثاني: ما يكون بعد دخول الجنة فهي من جملة ما يتنعم به أهل الجنة من اللذائذ الحسية والمعنوية، فيُلهمون هذه الدعوات كما يلهمون التسبيح والحمد وسائر الذكر.
وإن كانت من كفار فهي سراب خادع، وأمل كاذب يتمنون أن يستجيب الله – تعالى -لهم فلا يستجيب لهم، فيزيدهم ذلك حسرة وألما وعذابا.
دعوات المؤمنين في الآخرة:
1- دعوة أصحاب الأعراف: قال الله -تعالى-: (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأعراف: 47].
الأعراف: حجاب أو سور بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. نص عليه حذيفة، وابن عباس، وابن مسعود، وغير واحد من السلف والخلف -رحمهم الله تعالى- [تفسير ابن كثير: 3/418].
وفي البناء للمجهول في قوله -تعالى-: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار) دليل على أنهم يُوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة، ويلقون إليهم السلام، وأنهم يكرهون رؤية أصحاب النار. فإذا صرفت أبصارهم تلقاءهم، أي: حولت إلى الجهة التي تلقاهم وتبصرهم فيها -وإنما يكون ذلك عن غير توخ ولا رغبة، بل بصارف يصرفهم إليها أو بمقتضى سرعة تحولها من جهة إلى جهة- قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين حيث هم ولا حيث يكونون[تفسير المنار: 8/386].
وهذا الدعاء يشرع للمؤمن أن يدعو به سواء أراد أن لا يكون مع الظالمين في الدنيا أي: بمخالطتهم ومشاركتهم في ظلمهم أو إعانتهم عليه أو إقرارهم له، أو قصد في دعوته أن لا يكون معهم في الآخرة كما دعا أصحاب الأعراف. والأولى أن يقصد الأمرين جميعا؛ فإن من جانب الظالمين في الدنيا فحري أن يجانبهم في الآخرة، ومن خالطهم في الدنيا فيخشى عليه أن يحشر معهم في الآخرة.
2- دعاء المؤمنين على الصراط: قال الله –تعالى-: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التَّحريم: 8].
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين [تفسير القرطبي: 18/201].
وقد ورد في الحديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يعرف المؤمنين من أمته بنورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم[رواه أحمد: 21737].
وقد تضمنت هذه الدعوة مطلبين: إتمام النور والمغفرة، وكلاهما يحتاجه العبد، وعليه فإنه يشرع للمؤمن في الدنيا أن يتأسى بالمؤمنين في الآخرة فيدعو بهذا الدعاء، فلعله إن أكثر منه في الدنيا نال بركته على الصراط في الآخرة.
3- دعاء أهل الجنة: قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[يونس: 9-10].
وفي هذا الدعاء مسائل:
المسألة الأولى: أن هذه الدعوة المباركة تضمنت ثلاثة أمور مرتبة ترتيبا بديعا، وهي التسبيح والسلام والحمد، وهذه الآية تشبه قول الله -تعالى-: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180-182].
وقد وردت آثار عن السلف أن أهل الجنة إذا أرادوا شيئا سبحوا فأحضر لهم الملائكة ما طلبوا فسلموا عليهم فإذا أخذوه حمدوا الله -تعالى- على نعمته.
ويكون معنى (دعواهم فيها) أي: طلبهم في الجنة إذا أرادوا شيئا. [ينظر: تفسير ابن كثير: 4/250].
المسألة الثانية: أن التسبيح والحمد والتهليل يسمى دعاء، مثل دعاء الكرب ودعوة ذي النون؛ فإن الدعاء منه دعاء ثناء ومنه دعاء طلب[تفسير القرطبي: 8/314].
المسألة الثالثة: يستحب للداعي أن يختم دعاءه بالحمد تأسيا بأهل الجنة، وحَسَنٌ أن يقرأ آخر (الصافات) فإنها جمعت تنزيه الباري – تعالى -عما نسب إليه، والتسليم على المرسلين، والختم بالحمد لله رب العالمين[تفسير القرطبي: 8/314].
المسألة الرابعة: أن في الجنة تسبيحا وحمدا وسلاما وذكرا؛ كما دلت عليه الآية، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- في أهل الجنة: “…يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ”[رواه مسلم: 2835].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: أهل الجنة يتنعمون بالنظر إلى الله ويتنعمون بذكره وتسبيحه ويتنعمون بقراءة القرآن… ويتنعمون بمخاطبتهم لربهم ومناجاته، وإن كانت هذه الأمور في الدنيا أعمالا يترتب عليها الثواب؛ فهي في الآخرة أعمال يتنعم بها صاحبها أعظم من أكله وشربه ونكاحه[الفتاوى: 4/330].
4- دعاء المحتضر: قال الله -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)[المنافقون: 10].
وفي هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: سياق الآية يدل على أن الداعي بهذا الدعاء هو المؤمن المفرط عند الاحتضار، وهو ظاهر كلام الطبري وابن كثير والسعدي ونص عليه ابن عاشور فقال: والمعنى: فيسأل المؤمن ربه سؤالا حثيثا أن يحقق تأخير موته إلى أجل يستدرك فيه ما اشتغل عنه من إنفاق وعمل صالح[التحرير والتنوير: 28/253].
وجاء فيه حديث ضعيف موقوف على ابن عباس – رضي الله عنهما – عند الترمذي قال: “من كان له مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ أو تَجِبُ عليه فيه الزَّكَاةُ فلم يَفْعَلْ سأل الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فقال رَجُلٌ: يا ابن عَبَّاسٍ، اتَّقِ اللَّهَ، إنما سأل الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ. قال: سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا… فتلا الآية”[سنن الترمذي: 3316].
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: كل مفرط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرا، يستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات! كان ما كان، وأتى ما هو آت، وكل بحسب تفريطه[8/ 133].
ونقل البغوي عن مقاتل وجماعة أنها في المنافقين. [8/134]. والصواب قول الجمهور.
المسألة الثانية: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هذه الآية أشد على أهل التوحيد، لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة. قال القرطبي: قلت: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة. [تفسير القرطبي: 18/131].
المسألة الثالثة: في هذه الدعوة عدم عزم في المسألة لأنه قال (لولا أخرتني) ولم يقل (رب أخرني)، والمعنى: إن أخرتني أصدَّق وأكن من الصالحين، أو: إن تؤخرني أصدق وأكن من الصالحين. [تفسير النسفي: 3/488، وتفسير أبي حيان: 10/184].
وعدم العزم في الدعاء مخالف لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ” [رواه البخاري: 6339، ومسلم: 2679].
وقد أجاب عن ذلك ابن عاشور -رحمه الله تعالى- فقال: القرآن حكى عن الناس ما هو الغالب على أقوالهم. [28/253].
يريد أنه ليس إقرارا للتردد في الدعاء أو عدم عزم المسألة.
المسألة الرابعة: أن هذه الدعوة القرآنية تصلح دليلا لمن قال بجواز الدعاء بما يخالف القدر كالدعاء على الكفار بالهلاك العام مع أنه لا يقع، ونحو ذلك؛ لأن المؤمن المفرط يدعو عند موته بما يخالف القدر وهو تأخير الأجل مع علمه أنه لا يؤخر.
ويصح نقض هذا الاستدلال بأنه لم يجب في دعوته وردت بقول الله -تعالى-: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)[المنافقون: 11].
المسألة الخامسة: الظاهر أنه لا يدعى بهذا الدعاء؛ لأن الإنسان لا يعلم متى يقع أجله، ولإشكال الدعاء بما يخالف القدر.
لكن للإنسان أن يدعو بطول العمر مقرونا بحسن العمل؛ لأن النبي – عليه الصلاة والسلام – سئل: أي الناس خير؟ فقال: “مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ”[رواه الترمذي وقال: حسن صحيح: 2330].
وكون المؤمن يسأل الله -تعالى- ما يكون سببا في نيل الخيرية أمرًا مرغوبًا فيه ومندوبًا إليه.
وليس هذا الدعاء مما يتعارض مع القدر؛ لأن الأجل لم يحضر، وهو وإن كان مقدرا ومكتوبا قبل خلق الإنسان إلا أن النصوص دلت على إطالته بصلة الرحم، كما دلت على أن الدعاء يرد القدر.
دعوات الكفار:
1- دعاء المحتضر، فالكافر حين يرى مقدمات العذاب بسكرات الموت يسأل الله -تعالى- الرجوع للدنيا للإيمان والعمل الصالح فلا تجاب دعوته، قال الله –تعالى-: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 99-100].
قال قتادة -رحمه الله تعالى-: “ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فرحم الله امرءا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب”[تفسير البغوي: 5/428].
وقال العلاء بن زياد -رحمه الله تعالى-: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله، فليعمل بطاعة الله -عز وجل- [تفسير ابن كثير: 5/494].
وفي قوله -تعالى-: (إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) قال عبد الرحمن بن زيد -رحمه الله تعالى-: لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم[تفسير ابن كثير: 5/494].
وفي القرآن آيات كثيرة تدل على أن الكفار يتمنون الرجوع للعمل الصالح، ويدعون الله – تعالى -أن يرجعهم؛ وذلك عند الاحتضار كما في الآية السابقة.
ويدعون أيضا في الآخرة أثناء الوقوف عند الله -تعالى- للحساب؛ كما قال -تعالى-: (وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)[السجدة: 12].
ويدعون أيضا عند رؤية العذاب والوقوف على النار أجارنا الله -تعالى- والمسلمين منها، ومن الآيات في ذلك قول الله -تعالى-: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ)[الأنعام: 27].
وقوله -تعالى-: (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)[الأعراف: 53].
وقوله -تعالى-: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ)[إبراهيم: 44].
وقوله -تعالى-: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)[الشُّورى: 44].
ويدعون أيضا وهم في النار يعذبون كما في قول الله -تعالى- مخبرا عنهم: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[المؤمنون: 106 – 108].
وقوله -تعالى-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)[فاطر: 37] وقوله -تعالى-: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)[غافر: 11].
فذكر -تعالى- أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون، عند الاحتضار، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار، وهم في غمرات عذاب الجحيم[تفسير ابن كثير: 5/493].
فإذا أيسوا من النجاة سألوا تخفيف العذاب، وطلبوا من الملائكة أن يدعوا الله -تعالى- لهم: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ)[غافر: 49].
ولكن دعاءهم لا يجاب: (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)[غافر: 50].
2- دعاء أهل النار على أنفسهم: قال الله -تعالى-: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا)[الفرقان: 13-14].
وقال -تعالى-: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا)[الانشقاق: 10-12].
والمعنى: دعوا على أنفسهم بالثبور والخزي والفضيحة وعلموا أنهم ظالمون معتدون، قد عدل فيهم الخالق حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل، وليس ذلك الدعاء والاستغاثة بنافعة لهم ولا مغنية من عذاب الله -تعالى-، بل يقال لهم: (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا)[الفرقان: 14] أي: لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه ما أفادكم إلا الهم والغم والحزن[تفسير السعدي: 579].
والدعاء: النداء بأعلى الصوت، والثبور: الهلاك، أي نادوا: يا ثبورنا، أو وا ثبوراه بصيغة الندبة، وعلى كلا الاحتمالين فالنداء كناية عن التمني، أي: تمنوا حلول الهلاك، فنادوه كما ينادى من يطلب حضوره، أو ندبوه كما يندب من يتحسر على فقده، أي: تمنوا الهلاك للاستراحة من فظيع العذاب [التحرير والتنوير (18/334].
يعني: يا هلاكي تعالَ احضر، فهذا أوانك لتُخلِّصني مما أنا فيه من العذاب، فلن يُنجيني من العذاب إلا الهلاك؛ لذلك يقولون: أشدّ من الموت الذي يطلب الموت على حَدِّ قول الشاعر:
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى المْوتَ شَافِياً *** وَحَسْبُ المنَايَا ِأنْ يكُنَّ أَمانِياً
ولك أن تتصور بشاعة العذاب الذي يجعل صاحبه يتمنى الموت، ويدعو به لنفسه[تفسير الشعراوي: 17/ 10377].
وورد في حديث مرفوع ضعيف الإسناد أن إبليس هو أول من يدعو قائلا: واثبوراه فيردد أهل النار وراءه: يا ثبورهم[رواه أحمد: 12536].
3- دعاء أهل النار بعضهم على بعض: في يوم القيامة يتبرأ أهل النار بعضهم من بعض، فيتبرأ المتبوعون من الأتباع؛ كما قال -تعالى-: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)[البقرة: 166].
فيندم الأتباع ويتمنون لو كان لهم رجعة إلى الدنيا حتى يتبرءوا ممن تبعوهم في باطلهم فتخلوا عنهم وتبرءوا منهم: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا)[البقرة: 167].
ويدعونهم فلا يستجيبون لهم، قال الله -تعالى-: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ)[القصص: 62 – 64].
فما يكون من الأتباع وقد يأسوا من النجاة إلا أن يدعوا على المتبوعين من السادة والكبراء بمضاعفة العذاب عليهم: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 38].
وقال -تعالى- مخبرا عن دعائهم: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)[الأحزاب: 67- 68].
ويسألون الله -تعالى- أن يريهم إياهم في النار حتى ينتقموا منهم على إضلالهم لهم في الدنيا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ)[فصِّلت: 29].
وهو كناية عن إرادة انتقامهم منهم؛ ولذلك جزم (نجعلهما) في جواب الطلب على تقدير: إن ترناهما نجعلهما تحت أقدامنا.
والجعل تحت الأقدام: الوطء بالأقدام والرفس، أي: نجعل آحادهم تحت أقدام آحاد جماعتنا، فإن الدهماء أكثر من القادة فلا يعوزهم الانتقام منهم.
وكان الوطء بالأرجل من كيفيات الانتقام والامتهان، وإنما طلبوا أن يروهما؛ لأن المضلِّين كانوا في دركات من النار أسفل من دركات أتباعهم فلذلك لم يعرفوا أين هم. والتعليل (ليكونا من الأسفلين) توطئة لاستجابة الله -تعالى- لهم أن يريهموهما؛ لأنهم علموا من غضب الله عليهم أنه أشد غضبا على الفريقين المُضِلَّينِ فتوسلوا بعزمهم على الانتقام منهم إلى تيسير تمكينهم من الانتقام منهم.
والأسفلون: الذين هم أشد حقارة من حقارة هؤلاء الذين كفروا، أي: ليكونوا أحقر منا جزاء لهم[التحرير والتنوير (24/ 280-281].
ولا يحل لمؤمن أن يدعو بشيء من هذه الأدعية التي يدعو بها الكفار عند الاحتضار أو عند البعث والحساب أو في النار.
وقد رأيت من كتب في الأدعية القرآنية فجمع فيها أدعية أهل النار مع الأدعية الخاصة ببعض الرسل -عليهم السلام- مع الأدعية العامة، وحث من تناول ما جمع في رسالته أن يدعو بها جميعا، وأغلب ظني أنه جمع كل دعاء صُدِّر ب(ربنا، أو رب) ولم ينظر لما بعده، ولا إلى المعنى، فليفطن لذلك من اقتنى كتيبا يجمع له أدعية القرآن الكريم.