عامان من حكم الرئيس ..قراءة تحليلية معمقة (1) / محمد الأمين ولد الفاضل
سأحاول في هذه السلسلة من المقالات أن أقدم قراءة تحليلية معمقة، وأن أضع في ميزان التقييم أو التقويم التحليلي حولين كاملين من حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، سأستعرض في هذه القراءة ما تحقق من إنجازات، وما لم يتحقق، وسأختمها بحزمة من المقترحات أرى بأن العمل بها قد بات ضروريا وملحا بعد مرور 40% من المأمورية الأولى للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.
قد يكون من المهم، ومن قبل البدء في تقديم حصيلة عامين من مأمورية الرئيس، أن أتحدث عن بعض النقاط التمهيدية الهامة المرتبطة بعملية التناوب السلمي على السلطة، والتي كثيرا ما تغيب عن تحليلات المهتمين بالشأن العام، وذلك على الرغم من أهميتها. ولأن هذه الحلقة حلقة تمهيدية، ولأنها ستركز على عملية التناوب وظروف استلام السلطة، فإنها ستعطي مساحة واسعة للحديث عن الرئيس السابق، على أن يتوقف الحديث عنه نهائيا في الحلقات القادمة إن شاء الله.
بعض هذه النقاط الغائبة عن التحليلات المتداولة يمكن تصنيفها على أنها فرص أو نقاط قوة تحسب لصالح الرئيس، وبعضها الآخر يمكن تصنيفه على أنه تحديات أو عوائق واجهت الرئيس خلال ما مضى من مأموريته.
1 ـ نقاط القوة والفرص
1ـ1 تحقيق التناوب السلمي على السلطة وتأمينه : قد لا يُدرك الكثير من عامة الناس، ولا حتى من النخب، أهمية تحقيق التناوب السلمي على السلطة، وأهمية تأمين ذلك التناوب وتحصينه في بلد كبلدنا، يوجد في منطقة غير مستقرة سياسيا وأمنيا، ومعرض لأن يكون محل أطماع دول أخرى في أول لحظة يعرف فيها حالة عدم استقرار سياسي وأمني.
إن القراءة التحليلية المعمقة لبعض ما جرى من أحداث خلال السنتين الماضيتين، ولبعض أحداث السنة الأخيرة من حكم الرئيس السابق لتؤكد أن الرئيس السابق كان يفكر ويخطط بالفعل للبقاء في السلطة من بعد خروجه منها، وكان يمتلك لذلك ثلاث أوراق بالغة التأثير: أول هذه الأوراق ورقة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، ولعلكم تذكرون أن الرئيس السابق المؤسس لهذا الحزب قد قاد بنفسه حملة الحزب خلال انتخابات سبتمبر 2018، وأنه لم يقبل من أنصاره أن يترشحوا من خارجه، وأنه قال بأنه على كل من يريد مأمورية ثالثة أن يصوت بكثافة لمرشحي الحزب. ولعلكم تذكرون أيضا أنه ترك الحزب دون رئيس وبلجنة تسيير مؤقتة، وقد راج حينها أن مؤتمر الحزب القادم سينبثق عنه مجلس رئاسي أعلى يترأسه رئيس الحزب الذي يفترض أن يكون هو الرئيس السابق، وبعضوية الوزير الأول ورئيس البرلمان، والأمينين التنفيذيين المكلفين بالشؤون السياسية والشؤون الانتخابية. يعني هذا أن المجلس الرئاسي الأعلى للحزب في حالة تشكله كان سيجعل من رئيس الحزب رئيسا فعليا للبلاد، وذلك من خلال تحكمه الكامل في السلطة التشريعية (البرلمان)، وتحكمه شبه الكامل في السلطة التنفيذية (الحكومة).
لقد بات واضحا بعد كل الذي عشناه من أحداث خلال السنوات الثلاث الأخيرة أن الرئيس السابق كان يخطط بالفعل للبقاء في السلطة من خلال ورقة الحزب الذي أراد أن يفصله ويعيد هيكلته على مقاس رئيس سابق يريد أن يفرض مأمورية ثالثة من خلال “حزب حاكم”، وذلك هو ما يفسر عودة الرئيس السابق إلى أرض الوطن وردة فعله غير المدروسة، عندما بدأت قضية المرجعية تُطرح، فطرح تلك القضية جعله يشعر أنه بدأ يفقد السيطرة على الحزب الذي كان يمثل أقوى الأوراق لديه لفرض بقائه في السلطة.
ثاني الأوراق التي كانت ستضمن للرئيس السابق مستوى معينا من التأثير في السلطة تتمثل في علاقته ببعض الأجهزة العسكرية والأمنية، وخاصة منها الحرس الرئاسي الذي يُعتبر أيضا هو مؤسسه. أما الورقة الثالثة التي قد تَضْمَن هي الأخرى مستوى معينا من التأثير على السلطة فهي المال، فمن المعروف أن المال قد أصبح له تأثيرا قويا على القناعات والاصطفاف السياسي في هذه البلاد، والرئيس السابق كان قد اعترف في أكثر من مرة بأنه يمتلك ثروة طائلة، وربما تكون قناعة الرئيس السابق بقدرة المال على التأثير السياسي هي واحدة من الأسباب التي جعلته يحرص على جمع الكثير المال خلال فترة رئاسته.
هذه الأوراق الثلاث البالغة التأثير كانت ستمكن الرئيس السابق من فرض نوع من الوصاية على الرئيس الذي سيأتي من بعده، وبالتالي التأثير القوي على مسار الأحداث، خاصة وأنه بالإضافة إلى امتلاكه لتلك الأوراق الثلاث المؤثرة، يمتلك أيضا ما يكفي من الجرأة والطموح لاستخدامها في كل ما من شأنه أن يضمن له البقاء في السلطة . إن الاستنتاج المتماسك منطقيا وتحليليا والذي يمكن أن نخرج به هنا هو أن الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه أن يُحَيِّد تلك الأوراق الثلاث المؤثرة، ويبطل مفعولها فيجعلها عديمة التأثير هو الرئيس الحالي، وذلك لما يمتلك من نقاط قوة : ثقة المؤسسة العسكرية؛ ثقة الحزب وموريتانيا الأعماق؛ العلاقة الطويلة والمعرفة الدقيقة بالرئيس السابق. يمكنني أن أجزم تحليليا ـ وبناءً على القراءة المتأنية لكثير من الأحداث التي عشناها بعد تنصيب الرئيس الحالي ـ أنه لو تولى الرئاسة في موريتانيا في فاتح أغسطس من العام 2019 أيُّ شخص آخر غير الرئيس الحالي، حتى ولو كان من رجالات الدولة الكبار، لكنا اليوم أمام واحد من احتمالين لا ثالث لهما: فإما أن يتمكن الرئيس السابق من تحقيق طموحاته ويكون في هذا الوقت الحالي يمارس وصاية كاملة على خلفه، وذلك بعد أن يكون خلفه قد استسلم لتلك الوصاية استسلاما كاملا، وإما أن تكون البلاد ـ وهذا هو الاحتمال الثاني ـ قد دخلت في أزمة سياسية وربما أمنية بالغة التعقيد في حالة عدم خضوع الرئيس الخلف لوصاية الرئيس السابق.
خلاصة القول في هذه الفقرة هي أن التناوب الآمن على السلطة لم يكن ليتحقق ويُحصَّنَ لو كان خَلفُ الرئيس السابق أي رئيس آخر غير الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وهذا الأمر أظنه كان واضحا لكل متابع فطن للشأن العام، يقرأ الأحداث قراءة معمقة بعيدا عن السطحية والمزاجية.
إليكم هذه الفقرة من مقال : “من هو رئيس موريتانيا القادم؟” والذي كنتُ قد نشرته قبل إعلان ترشح محمد الشيخ الغزواني بنصف سنة تقريبا..تقول هذه الفقرة وبالحرف الواحد : ” لن يكون تسويق ولد غزواني صعبا، لاعتبارات عدة، فالجيش سيقبل به، والشركاء في الخارج سيرضون به، والموالاة ستلتف حوله، بل إنه قد يأخذ نصيبا من جماهير المعارضة وهذا ما سنبينه في فقرة لاحقة، ولكن المشكلة التي تؤرق ولد عبد العزيز هي أن ولد غزواني في حالة ترشيحه وفوزه سيصبح رئيسا فعليا، وذلك لأن لديه من الفرص والمؤهلات ما يمكنه من ذلك، وهو لن يحتاج لولد عبد العزيز ليكون وسيطا بينه مع الجيش أو مع الغرب أو مع الأغلبية الداعمة، ولذلك فإن ولد غزواني بعد فوزه سيحدُّ وبشكل تدريجي وفعَّال من نفوذ ولد عبد العزيز، وهنا تتجسد مخاوف ولد عبد العزيز من ترشيح ولد غزواني.” انتهى الاستشهاد.
1ـ2 الانتقال الآمن من “الديمقراطية العسكرية” إلى “الديمقراطية المدنية”:
قد يُلاحظ في هذا المقال تكرر كلمة “الآمن” كلما تم استخدام كلمات من قبيل التناوب والانتقال والإصلاح والتغيير، والحقيقة أن هذه الكلمة قد أصبحت لازمة عندي بعد اندلاع ما عُرف بثورات الربيع العربي، وما أعقب تلك الثورات من عدم استقرار سياسي وأمني في العديد من البلدان. لقد أثبتت هذه الثورات أن المطالبة بالتغيير والإصلاح والتناوب يجب أن تعقبها دائما كلمة “آمن”، فالتغيير غير الآمن قد يكون ضرره أكثر بكثير من ضرر عدم التغيير، والإصلاح غير الآمن قد يكون ضرره أكثر بكثير من ضرر عدم الإصلاح، وهكذا…
لاشك أننا في هذه البلاد التي عرفت الكثير من الانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة، والتي عرفت أيضا تدخلا مباشرا وغير مباشر من طرف بعض العسكريين في المسار الديمقراطي، لا شك أننا في هذه البلاد بحاجة إلى انتقال متدرج وآمن من الديمقراطية التي يتحكم فيها العسكريون إلى ديمقراطية مدنية خالصة. وفي اعتقادي الشخصي أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الأكثر قدرة على تحقيق هذا الانتقال الآمن، وذلك لكونه محل ثقة المؤسسة العسكرية، ولأنه ظل خلال العقد الماضي بعيدا عن ممارسة السياسة بشكل مباشر على عكس الكثير من القادة العسكريين، ثم إنه استطاع ـ وفي وقت قصير جدا من بعد وصوله إلى السلطة ـ أن يفتح قنوات اتصال مع كل الطيف السياسي.
كل هذه الميزات تجعل من الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الرئيس الأكثر قدرة على تحقيق انتقال آمن من الديمقراطية العسكرية إلى الديمقراطية المدنية، ويمكن أن توضع قواعد هذا الانتقال وضوابطه خلال التشاور المنتظر إن استشعرت الطبقة السياسية أهمية ذلك.
إن الانتقال الآمن من “الديمقراطية العسكرية” إلى “الديمقراطية المدنية” ليس مسألة سهلة، وهناك حالات إخفاق كثيرة في العديد من بلدان المنطقة، ولعل المثال الأبرز هو ما حدث في مصر بعد الثورة، ومن بعد فوز الرئيس الراحل محمد مرسي رحمه الله، وقد كنتُ من الذين ارتاحوا كثيرا لذلك الفوز، ولكن ما حدث بعد ذلك جعلني أتساءل: ألم يكن من مصلحة مصر وديمقراطيتها المتعثرة أن يفوز أحمد شفيق بالرئاسة؟
الراجح عندي أن فوز أحمد شفيق وهو ابن الدولة العميقة وابن المؤسسة العسكرية وابن النظام، كان سيجنب مصر انقلاب 3 يوليو 2013، فأحمد شفيق يعرف جيدا كيف يحمي نفسه من فلول نظام هو أحد رجالاته، وكان فوزه سيمكن في نفس الوقت من تحسين حال مصر على المستوى الديمقراطي ..صحيح أن ذلك الفوز لن يحقق طموح ومطالب الثورة، ولكنه مع ذلك كان سيسير بمصر في الاتجاه الصحيح، وكان سيطور ـ وبشكل آمن ـ من ديمقراطيتها. لقد كانت مصر تحتاج في تلك الفترة لرئيس يمتلك خبرة و رؤية إصلاحية، وله علاقة ما بالدولة العميقة والمؤسسة العسكرية، أي أنها كانت بحاجة إلى رئيس من طينة أحمد شفيق. فاز محمد مرسي وارتكب بعض الأخطاء لنقص في التجربة، وتآمر عليه العسكر والدولة العميقة، وتم في نهاية المطاف الانقلاب عليه، وكان في المحصلة أن عادت التجربة الديمقراطية في مصر سنين عديدة إلى الوراء.
ما يمكن قوله كخلاصة لهذه الفقرة هو أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الرئيس الأكثر قدرة لقيادة انتقال آمن من “الديمقراطية العسكرية” إلى “الديمقراطية المدنية”.
1ـ3 غياب البديل الجاهز: لو فشل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في مأموريته الحالية لا قدر الله، فإن موريتانيا ستدخل في نفق مظلم لا أحد يعرف كيف ستخرج منه، وذلك لعدم جاهزية بديل في الوقت الحالي، فالمعارضة لم تتمكن خلال العقد الماضي من خلق قيادات بديلة بعد تراجع أو انتهاء دور قادتها التاريخيين، والأغلبية حالها معروف، ومن هنا فإن موريتانيا لا قدرة لها على تحمل أي فشل جديد، وهذا أمرٌ يزيد من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الرئيس محمد الشيخ الغزواني، ويزيد أيضا من حجم مسؤولية النخب التي يفرض عليها الواجب الوطني العمل من أجل تجنب أي فشل جديد.
2 ـ التحديات والعوائق
واجه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بعض التحديات والعوائق خلال العامين الماضيين من مأموريته، بعض تلك التحديات والعوائق وجدت من يتحدث عنها، وأخذت حظها من التداول الإعلامي، كما هو الحال بالنسبة لجائحة كورونا، ولذلك فلن أتحدث عنها في هذه القراءة التحليلية، وبعضها الآخر لم يجد من يتحدث عنه، بل إنه قد لا يجد من يستشعره أصلا، ولذا فسيتم التركيز عليه في هذه القراءة التحليلية.
2ـ1 غياب حافز الإنجاز السريع لتعويض النقص في الشرعية: من المعروف أن كل رؤساء موريتانيا وصلوا إلى السلطة بشرعية غير مكتملة، حتى سيدي ولد الشيخ عبد الله رحمه الله، وهو أول رئيس مدني منتخب، لم يسلم من التشكيك في شرعية وصوله إلى الحكم من طرف أقوى حزب معارض في ذلك الوقت.
وعلى العكس من الرؤساء السابقين فإن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الذي تم وصفه في الحملة الانتخابية بمرشح الإجماع قد قُوبل وصوله إلى الرئاسة باعترافِ ثمينِ ـ سبقه تردد قصير ـ من أهم منافسيه في الانتخابات الرئاسية. كما حصل أيضا على اعتراف من كل الطيف السياسي، وتهدئة من طرف المعارضة، ولا تُشَكك اليوم أي جهة سياسية معروفة في شرعية وصوله إلى السلطة. صحيحٌ أن لهذا الإجماع الوطني على شرعية الرئيس محمد الشيخ الغزواني فوائده الكثيرة، ولكن الصحيح أيضا أن نقص الشرعية قد يتحول في الكثير من الأحيان إلى حافز قوي وإلى دافع حقيقي لتحقيق إنجازات سريعة وملموسة من أجل تعويض ذلك النقص في شرعية الوصول إلى الحكم، وسواء كان ذلك الوصول قد تم عن طريق انتخاب أو عن طريق انقلاب. إن أي نقص في الشرعية يتولد عنه ـ وبشكل تلقائي ـ حافز قوي لتحقيق إنجازات سريعة وملموسة لتعويض ذلك النقص، ولذا ـ وعلى سبيل المثال ـ فإن أهم إنجازات الرئيس السابق كانت خلال مأموريته الأولى، وأهم إنجازاته في المأمورية الأولى كانت خلال السنة الأولى التي أعقبت انقلابه على رئيس منتخب.
إن غياب هذا الحافز هو الذي جعل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني يُنجز وفق وتيرة حدَّدها هو في برنامجه الانتخابي، لا وفق الوتيرة السريعة التي يتوقعها المواطنون الذين تعودوا على إنجازات سريعة وملموسة لتعويض النقص في الشرعية مع قدوم أي رئيس جديد.
خلاصة القول في هذه الفقرة هي أنه خلال العامين الماضيين من مأمورية الرئيس كان هناك غياب ملاحظ للإنجازات السريعة التي يُراد منها تعويض النقص في الشرعية.
2ـ2 ملف فساد العشرية : لم يُفتح في هذه البلاد ملف فساد بحجم ملف فساد العشرية الذي شمل رئيسا سابقا ووزيرين أول وعدد معتبر من الوزراء وكبار المسؤولين. إن هذا الملف يعدُّ من الملفات الكبيرة جدا، وستكون له انعكاساته الإيجابية الهامة مستقبلا، فترسيخ ثقافة مساءلة الرؤساء وكبار المسؤولين وصغارهم هي أنجع وسيلة للحد من الفساد الذي استشرى في هذه البلاد، ولكن كل ذلك لا يعني عدم وجود كلفة، لابد وأن تدفع مسبقا، عند فتح هذا النوع من الملفات الكبيرة من طرف رئيس جديد لم يُكمل عامه الثاني في الحكم.
وكما بينا في النقطة الأولى من التحديات والعوائق فإن الكثير من المواطنين كان يريد إنجازا سريعا على مستوى هذا الملف، وذلك على طريقة ما كان يحدث سابقا (لو كان الرئيس الذي جاء بعد الرئيس السابق قد وصل إلى الحكم بشرعية ناقصة لكان أول شيء سيفعله لتعويض ذلك النقص في الشرعية هو وصف النظام السابق بالنظام البائد، وسجن الرئيس السابق دون أي تحقيق أو محاكمة وفي أول يوم من ممارسة السلطة). في ملف فساد العشرية غابت سرعة الإنجاز، فاتخذ الملف مسارا بطيئا لم يعهده الموريتانيون في مثل هذه الملفات، ولكن هذا المسار البطيء رغم ما يكلف من جهد ووقت وتركيز، ورغم ما يتسبب فيه من إرباك، سيبقى هو المسار السليم الذي يجب أن يعتمده الرئيس الذي يطمح لبناء دولة المؤسسات، ويرفع شعار الفصل بين السلطات.
إن فتح ملف فساد العشرية، وتسييره بالعرض البطيء الذي تابعنا (تحقيق برلماني ـ تحقيقات الشرطة ـ تحقيقات القضاء)، أطالت عمر الملف، وأربكت المشهد، واستنفدت الكثير من وقت وجهد وتركيز نظام قيد التشكل لم يكمل عامه الثاني في الحكم، وكان ذلك ـ وبطبيعة الحال ـ على حساب ملفات أساسية أخرى لها انعكاسات مباشرة على المواطنين.
وإذا كان هذا الملف قد أخذ الكثير من جهد ووقت وتركيز السلطة الحاكمة خلال الفترة الماضية، وتسبب في بعض الأحيان في حالات إرباك، إلا أن المتضرر الأول منه سيبقى الرئيس السابق الذي أصر على الدخول في معركة خاسرة كلفته حتى الآن الكثير، وربما تكلفه مستقبلا أكثر، وأرجو أن تسمحوا لي هنا بفتح قوس طويل، بل طويل جدا.
لقد كنتُ من الذين يسعون ـ وبصدق ـ لخروج آمن للرئيس السابق من السلطة، وذلك على الرغم من معارضتي له، ولذا فقد كنتُ أتمنى أن تتم تسوية هذا الملف من قبل خروجه من السلطة. وأنا من الذين يرون أن الرئيس السابق، ورغم أخطائه العديدة، قد ترك خلفه إنجازات ملموسة على الأرض، ولذا فهو يستحق أن يعيش من بعد خروجه من السلطة في وطنه معززا مكرما وذلك بصفته رئيسا سابقا للجمهورية الإسلامية الموريتانية.
لقد طلبتُ من الرئيس السابق في سنتي حكمه الأخيرتين وفي أكثر من مقال أن يُسَيِّرَ ما تبقى من مأموريته الثانية تسيير مُوَدِّع للسلطة لا مُخلَّد فيها، وهو الشيء الذي كان يتطلب في نظري التهدئة مع المعارضة، ومعالجة بعض المظالم، وخاصة منها ما يتعلق برجال الأعمال، ومحاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه من فساد واختلال في التسيير، هذا فضلا عن تهيئة الأجواء لانتخابات تشريعية ورئاسية يرضى الجميع بنتائجها.
للأسف الشديد لم يتصرف الرئيس السابق في آخر فترة حكمه تصرف مُوَدِّع، بل على العكس من ذلك، فقد زاد من مستوى الصدام مع المعارضة ومع بعض رجال الأعمال، كما زاد من حجم الفساد والاختلال في التسيير.
لقد حاولتُ بما هو متاح لي من وسائل متواضعة أن أنبه الرئيس السابق إلى أهمية التهدئة السياسية وتصحيح الاختلالات في تسيير العشرية، إن كان يريد خروجا آمنا من السلطة، وبلغ بي الحماس في هذا المجال إلى أن أعلنتُ في مقال منشور في يوم 27 ديسمبر 2018 عن استعدادي لإطلاق مبادرة لترشيحه لأغلى جائزة في العالم (جائزة مو إبراهيم)، إن هو تَصَرَّفَ تَصَرُّف مودع في آخر أيامه في الحكم.
وللعلم فإن جائزة مؤسسة مو إبراهيم تبلغ 5 مليون دولار، وهي خاصة بالقادة الأفارقة الذين تركوا السلطة، وحققوا تناوبا سلميا في بلدانهم، وقد حصل عليها حتى الآن الرئيس محمد يوسوفو من النيجر (2021)؛ والرئيسة إلين جونسون سيرليف من ليبيريا (2017)؛ والرئيس هيفيكيبوني بوهامبا من ناميبيا (2014)؛ والرئيس بيدرو بيريس من كابو فيردي (2011)؛ والرئيس فيستوس موغاي من بوتسوانا (2008)؛ والرئيس جواكيم تشيسانو من موزامبيق (2007)؛ ومُنحت فخرياً للرئيس نيلسون مانديلا عند إطلاقها في عام (2007). وقد حُجبت لسنوات متفرقة لعدم وجود مترشح مؤهل لها، ومن بين السنوات التي حجبت فيها العام 2019، والذي كان قد خرج فيه الرئيس السابق من السلطة.
كان من مصلحة الرئيس السابق من قبل خروجه من السلطة أن يُهدئ الصراع مع خصومه السياسيين، وأن يعالج بعض المظالم، وأن يصحح ما يمكن تصحيحه من الاختلالات التسييرية التي عرفتها العشرية، وإذا كان لا يريحه “التقاعد السياسي المبكر”، فقد كان بإمكانه أن يتقدم لمثل هذه الجائزة ولغيرها، وأن يترشح لمناصب دولية يخدم من خلالها بلده، ويزيد فيها من رصيده الشخصي، ومن المؤكد أن رئيسا مثله خرج من السلطة بعد انتهاء مأموريتيه، وكان قد نظم قمما عربية وافريقية خلال فترة رئاسته، لن يعدم منصبا إقليميا أو دوليا، ولا أظن أن خَلَفَهُ كان سَيُقصِّر في ترشيحه باسم موريتانيا لمثل تلك المناصب. ومن المؤكد كذلك أن الدعوات للمشاركة في الندوات واللقاءات الإقليمية والدولية التي تهتم بالديمقراطية والتناوب السلمي على السلطة، لم تكن لتتأخر عنه بوصفه رئيسا عربيا وإفريقيا سابقا خرج “طواعية” من السلطة من بعد انتهاء مأموريتيْه.
لقد ارتكب الرئيس السابق أخطاءً كثيرة في حق نفسه، وكان آخرها إصراره على ممارسة السياسة من بعد خروجه من السلطة. إن ما عجز الرئيس السابق عن تحقيقه خلال عشر سنوات وزيادة من التفرد بالحكم، لن يستطيع تحقيقه من خلال ممارسة السياسة وهو خارج السلطة، ثم إن الرئيس الحالي لم يكن يتدخل للرئيس السابق في إدارة البلد خلال عشريته، ولذا فمن حقه هو أيضا ومن بعد انتخابه أن يسير البلد وفق رؤيته الخاصة به، ودون أي تدخل من الرئيس السابق.
أذكر أني في يوم 22 يوليو 2019، ومن قبل التنصيب بعشرة أيام، نشرتُ مقالا تحت عنوان : ” أي دور لولد عبد العزيز في المرحلة القادمة؟”. ولقد بينت في هذا المقال أن الرئيس السابق سيخرج من السلطة ويداه خاليتان من أي ورقة ضغط فعالة يمكن أن يضغط بها على خلفه، وأن من مصلحته أن يُحافظ على الثقة مع خلفه وأن يعززها، وأن يبتعد بشكل كامل عن السياسة والإعلام، وكانت هذه هي خاتمة المقال المذكور: ” تقول الفرضية الأنسب بأنه على الرئيس المنتهية ولايته أن يخرج بشكل كامل من المشهد السياسي فذلك هو الأسلم له ولموريتانيا، وإن هو أصر على ممارسة “حقه” السياسي، فسيكون من حق خصومه السياسيين أن يصروا هم أيضا على ممارسة حقوقهم السياسية، ومن تلك الحقوق المطالبة بفتح تحقيق شامل حول تسيير شؤون البلاد خلال العشرية الماضية.” انتهى الاستشهاد.
وأذكر أيضا أني وجهتُ كلاما بنفس المضمون لمن يعتبرون أنفسهم من مناصري الرئيس السابق، وكان ذلك من خلال مقال نشرته من قبل عودة الرئيس السابق إلى أرض الوطن، وتحديدا في يوم 15 أكتوبر 2019، وكان تحت عنوان “ومن المناصرة ما قتل “، وقد جاء فيه وبالحرف الواحد :” إن أي محاولة لفرض أي دور سياسي للرئيس السابق ستفشل، ولن يكون من نتائجها إلا أنها ستجعل الرئيس السابق هدفا سهلا ومكشوف الظهر للنيران الصديقة ولنيران الخصوم، ولذلك فإن أكبر خدمة يمكن أن تُقَدَّم للرئيس السابق ـ لمن تهمه بحق مصلحة الرئيس السابق ـ هي أن يُبعد اسمه عن التداول اليومي، وعن النقاش السياسي الدائر حاليا، وأن يتركه يواصل ـ وبأمان ـ تنقلاته بين الدول الأوروبية.” انتهى الاستشهاد.
لم تتوقف المحاولات عند هذا الحد، بل وصل الأمر في بعض الأحيان، وفي إطار مبادرة مشتركة مع صديق مقرب جدا من الرئيس السابق، أن تم الوعد بلقاء معه، وقد كنتُ عازما أن أحدثه بمضمون الكلام أعلاه، وبعيدا عن الإعلام، ولكن، وفي آخر لحظة تم إلغاء اللقاء، ولأسباب لم تُفسر لي حتى الآن.
انتهى القوس الطويل جدا، والذي كنتُ قد فتحته مع التحدي الثاني.
2ـ3 عدم بلورة خطاب سياسي جديد على مقاس الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ونظامه الحاكم: لم يتمكن الجناح السياسي والإعلامي للنظام حتى الآن من بلورة خطاب سياسي مفصل على مقاس نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، والذي يُفترض فيه أنه قد بدأ يتشكل منذ فاتح أغسطس 2019. كما أن هذا الجناح لم يستطع حتى الآن أن يُبرز في واجهته السياسية شخصيات جديدة تُحسب فقط على الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.
إنه من الصعب جدا بلورة خطاب سياسي يجمع بين أمرين في غاية التناقض، وهما:
ـ فساد العشرية، والذي يظهر من خلال فتح ملف عن فسادها يعتبر هو أضخم ملف فساد يُفتح في كل تاريخ البلد؛
ـ الاحتفاظ في الوقت نفسه بنفس الواجهة السياسية للعشرية، والتي فُتِح ضدها أضخم ملف فساد في تاريخ البد.
ختاما
إليكم أهم الاستنتاجات التحليلية التي يمكن أن نخرج بها من هذه الحلقة التمهيدية الأولى:
1 ـ أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو الشخص الوحيد الذي كان قادرا على تحقيق التناوب السلمي على السلطة في العام 2019، وعلى تحصين هذا التناوب من كل التهديدات المتوقعة؛
2 ـ أنه هو الأقدر على تحقيق انتقال آمن من “الديمقراطية العسكرية” إلى “الديمقراطية المدنية”؛
3 ـ عدم جاهزية بديل في الوقت الحالي؛
4 ـ غياب ملاحظ للإنجازات السريعة التي يُراد منها تعويض النقص في الشرعية؛
5 ـ استنفاد ملف العشرية للكثير من الوقت والجهد والتركيز، وكان ذلك ـ وبطبيعة الحال ـ على حساب ملفات أساسية أخرى لها انعكاسات مباشرة على المواطنين؛
6 ـ عدم القدرة حتى الآن على بلورة خطاب سياسي جديد، وعدم التمكن من الدفع بواجهة سياسية جديدة تبشر بميلاد نظام جديد في فاتح أغسطس من العام 2019.
يتواصل إن شاء الله..
حفظ الله موريتانيا…