“قصتي مع الحج” / محمد محمود ولد سيدي يحي
راودت نفسي مرات قبل أن أسطر هذه الحروف لأشارك القراء بعض اللّحظات والملاحظات حول رحلة العمر إلى الحج، وقلت وماذا يمكن للمرء أن يقول بعد ما سطّره جهابذة هذا القطر في رحلاتهم إلى الديار المقدسة، وأين أنت أيها المغرور من مما كتبه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي “آب ولد اخطور علما” في كتابه “رحلة الحج إلى بيت الله الحرام” والأسئلة العميقة التي طرحتها عليه سيدة من مجموعته في منطقة “الركيبة” في مسائل بلاغية ومنطقية عويصة، وأسئلة السودان والحجاز التي كشف فيها العلامة عن درر علمه ورسوخ قدمه..
وهل بعد رحلة “المنى والمنة” للطالب أحمد ولد اطوير الجنة، ورحلات ابن جبير وابن بطوطة.. ورحلة الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر “محيي الدين بن عربي الحاتمي الطائي” التي أثمرت فتوحاته المكية التي حار فيها الفلاسفة وغرق في بحارها المتصوفة، لأنها من “المضنون به على غير أهله” كما يسميه حجة الإسلام الغزالي… بعد كل هذا كما قال الشيخ سيد محمد ولد الشيخ سيديا :
هل غادرت هل غادر الشعراء في
بحر القريض لطامع من مطمع؟؟
لقد كانت رحلات الحج دليلا على قوة الإيمان وحرقة الشوق لتلبية نداء أبينا وإبراهيم وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان القوم يقطعون آلاف الأميال ويقضون الشهور و السنوات في طريقهم إلى البقاع الطاهرة؛ يكابدون العطش والمرض ومخاطر الطرق من النهب والإغارة وأهوال البحار، حتى أن قبورهم أصبحت مزارات يتبرك بها الناس في “سيدي مطروح” و”سيدي براني” ..
وما نسبة حجنا إلى حجهم وقد أصبحت الطائرات النفاثة تنقلنا في ساعات يطوف علينا خلالها الحور العين من المضيفات والمضيفين بالوجبات الساخنة والمرطبات في أجواء من التكييف والدعة ما كان يحلم بها المترفون من الأمم السابقة واللاحقة ..
فقلت إنما هي رحلة دون رحلة، وملاحظات سريعة على طريقة حجنا معشر أهل الواتساب والفيسبوك، عسى أن يكون حالنا معهم كحال “الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإحسان، ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء، كل امرئ بما كسب رهين”..
ولا مجال هنا للحديث عن الحجوزات ورحلات الطيران والفرق بين الوكالات وبعثة الحجيح الرسمية..
فكل هذا قد تداوله الورى
حتى غدا ما فيه موضع إصبع..
وقد كان أول موقف عظيم تصاغرت فيه النفس وخلف حزنا عميقا رافقني ولا أستطيع أن أنساه، هو مشهد جموع من المسلمين من جنوب آسيا وقفوا ببوابات الشرطة بمطار المدينة المنورة تفيض أعينهم من الدمع فرحا برؤية مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يبكون بحرقة شبابا وشيبا ونساء وكهولا..وكنا معشر قساة القلوب مشغولين بالطابور وإجراءات الدخول..وعندما عُدت لتذكر ذلك الموقف العجيب خشيت أن أكون ممن صدق فيهم قوله تعالى تعالى “وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم”
فهؤلاء الذين لم ينعموا بالتلقي المباشر لقصص القرآن الكريم، وبشارة وعده، ومشاهد وعيده، وجمال أمثاله وقصصه، يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا، ونحن من علينا أنزل كأنما قلوبنا قدّت من صخر :
كذبتُ وبيت الله لو كنت عاشقا
لما سبقتني بالبكاء الحمائم
ولمدينة الرسول ومسجده، صلى الله عليه وسلم، وموقع غزواته وديار صحابته آثار عجيبة لا تضاهى في قلوب المؤمنين، فهنا جرت قصة عظيمة غيرت وجه التاريخ البشري، ولنا معشر الشناقطة الموريتانيين تعلق صوفي بحجرة عائشة وما حوته من جسده الشريف وصاحبيه، ف”الحقيقة المحمدية” حوت سرّ الإسلام ومذاقه، ففي شخصه المعصوم يلتقي عالم الغيب والشهادة، ومن سيرته العطرة وسنته المطهرة انبثقت قدوة القرآن الحي الذي ما زلنا نغذ السير خلف خطاه دون أن ندركه إلى اليوم، فلا تعجبوا من خفقان القلوب لهذا المكان بشكل فريد..
وللصلاة والدعاء وتلاوة القرآن الكريم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الروضة بين القبر والمنبر، طعم لا يضاهى وروحانية لا يمكن للمرء أن يشعر بها في أي مكان آخر.
ولن أكتمكم أن أول عتبي على إخوتنا السعوديين القائمين على خدمة هذه الديار المقدسة في ذلك الفهم المتشدد لما جاء به الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب، حتى أنهم طمسوا الكثير من معالم التاريخ العظيم الذي كان يضج بالحياة في هذه البقعة المطهرة، ولا شك أن غرضهم في ذلك شريف وهو محاربة الشركيات والبدع، ولكن كان يسعهم ما وسع صحابة رسول الله والتابعين، وأن يبقوا على ديار أمهات المؤمنين وقبور الصحابة والتابعين بارزة، فلو لم يكن للآثار والصور مالها على النفس، لما استفاض القرآن الكريم في القصص والأمثال، ولما أمرنا بالسير في ديار الذين من قبل لأن في آثارهم عبرة لأولي الألباب، وقد أجمع المهتمون بنشر الدعوة على أن “فيلم الرسالة” على ما فيه، قدّم الإسلام للعالم بأقصر السبل، وترك انطباعا لدى الملايين أكثر مما يمكن أن تقدمه المجلدات التي سطرها الجهابذة وخطب الوعاظ ومحاضراتهم..
ولقد ذهبنا نتلمس خطى الذين رضي الله عنهم، ووقفنا نحمي ظهور المسلمين على جبل الرماة قرب قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وجبلُ أحد شاهد على يوم عظيم كان فيه النصر حليف الصبر، يوم وقف الإيمان موقفا يهزأ بالمصائب رغم عظيم الابتلاء..
وذكرتني نسائم النخيل قرب مسجد قباء برائحة ربما تنسّمها شمُّ الأنوف من صحابة الرسول الخاتم، ووقفت متحسّرا قرب قصر “عروة بن الزبير” على أطلال وادي العقيق، وآلمني منظر “مسيل التلاع” الذي أصبح مهجورا بعد أن خلده عمر بن أبي ربيعة وشعراء الغزل الحجازي في روائع باقية أبد الدهر…
فقلت مع إبراهيم ناجي :
والبلى أبصرته رأي العيان
ويداه تنسجان العنكبوت
قلت يا ويحك تبدو في مكان
كل شيء فيه حيُّ لا يموت
ولقد ودّعنا مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وحالنا كمن قال :
ودّع الصبر امرؤٌ قد ودّعك
ذائع من سرّه ما استودعك
وعجبت لبعض الفقهاء يقولون عن زيارة المدينة ليست من مناسك الحج، ولكنها على اليقين من مناسك الإيمان، لأن حبه صلوات الله وسلامه عليه، بأبي هو وأمي، هو باب الهداية وثمرة الدين ومدخل الصراط المستقيم..
وعند ميقات ذي الحليفة على مشارف المدينة المنورة بدأت قصة العمر مع مناسك الحج، وكأنه الخروج من دار الدنيا إلى دار الآخرة، فالاغتسال والإحرام والتلبية إيذان بالتخلي عن مباهج الحياة الدنيا وزخرفها، والعودة إلى الفطرة الأولى حيث أخلاق رحمة الإسلام الشاملة التي يحرم فيها إسالة الدم، وتتساوى حرمة الروح بين القمل والطير والحيوان والإنسان..
وعلى طريق الأربعمائة كلمتر بين المدينة المنورة ومكة لمكرمة، كنت أتلمس معالم طريق الهجرة، وهناك مدينة كبيرة عند البئر التي ما زالت جارية إلى اليوم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل فيها، يسمونها بئر “الدفله”، أمّا أم معبد فقد أصبحت قبيلة كبيرة ينتسب لها آلاف الرجال يعرفون ب”المعبّدي”..
وبعد التنعيم اشرأبت الأعناق لرؤية البيت العتيق، وهيهات فالمكان المقدس حجبه “برج الساعة” ومجمعات من الفنادق الشاهقة التي أراد بها القائمون على الأمر تيسير السكن للحجاج قرب المسجد الحرام، ولكنها بنظري المتواضع أفسدت رهبة القدوم إلى الكعبة المشرفة، ولو أن القائمين على خدمة الحرمين أعادوا النظر، لكان الأولى أن تسوى جميع الجبال حول الحرم، ويتم إبعاد هذه الأبراج الشاهقة التي تغطيه مسافة كلومترات، ويعاد معمار المنطقة بحيث تكون الكعبة أول ما يشاهده القادم، وفي القطارات السريعة ومتروهات الأنفاق مندوحة عن هذا التكدس الذي يشوه جلال المكان..
ومن مشاهد الحج التي يحس فيها المرء بانكشاف الحجب بين العبد وربه لحظة تسلم نفسك لموجات الطائفين بالبيت العتيق، فقد أصبحت تسير عكس عقارب الساعة، والسقف المفتوح في صحن الكعبة يشعرك أنك في مواجهة رب العالمين بكل جلاله وكماله، وأنت بكل ضعفك وصَغارك أمام علّام الغيوب قد انكشفت سوءاتك، لا يسترك إلا عفوه الجميل…
أما مشهد العرض يوم القيامة ففي يوم الحج الأكبر على صعيد عرفات، ولو قدّر لك أن تسير على قدميك بين الملايين التي تفيض من المكان بعد الغروب، وأصوات الدعاء والتلبية والتكبير تملأ عنان السماء، فإنك ستشعر بمعنى أن الله تعالى يباهي بأهل عرفة ملائكته في السماء..
وهنا لا بد أن أعبّر عن جليل الامتنان الذي يشعر به المسلمون الذين جاءوا من كل فج عميق، تجاه خادم الحرمين الشريفين وعائلة آل سعود المباركة التي وفقها الله للقيام بجهود جبارة لتنظيم هذا المؤتمر الديني الذي لا نظير له عبر العالم، فمئات آلاف العاملين في تأمين الحجاج، وعشرات الشوارع الفسيحة التي تحفها الحمامات ومياه الشرب، ومروحيات التهوية والتبريد في كل مكان، وأنظمة التفويج التي تراقبها الكاميرات والطائرات..كل هذا يسّر على الناس أمرا كان عسيرا..
وفي مكة المكرمة ما زلت تسمع عن الحجون وكداء …وهي مواضع حفظها الشعر وكتب التاريخ، وفي أحيائها القديمة بعض الشوارع الضيقة والمنحدرات الشديدة، وعندما تمر من هنا فإنك ستعرف معنى “أهل مكة أدري بشعابها”.
وفي حرارة هذه البلاد الشديدة ومناخها القاسي دليل على أن الصحراء تنبت الأنبياء، وكأنما حرارة الإيمان وحدها هي ما يمكن أن يوازن قيظ الصحراء، وتلك قصة الحضارة التي أكدها ابن خلدون وغيره من أن الدعوة الدينية تسمو بالعصبية القبلية، وتزوّد العمران البشري بدماء جديدة كلما أنهكه الترف..
ومن الأماني التي حال دونها التعجّل وبعض التوعّك والحمّى، زيارة مهبط الوحي في غار حراء، ومن الخواطر البدعية التي عرضت لي أن الناس لم يعطوا لهذا المكان الذي شهد أول عناق بين الغيب والشهادة ما يليق به من التبجيل، وعجبت لقوم يطلبون ليلة القدر شهرا كاملا وهي ظرف زماني لنزول الوحي، ولا يخصون مكان التحنث الأول وبداية الوحي بما يليق من التكريم..
ولا بدّ لي قبل أن أطوي الكلام، وللحديث تتمة إن كان في العمر بقية، أن أكرر الطلب إلى الأسرة المباركة التي شرفها الله بخدمة الحرمين أن تعيد النظر في عمارة هذه البقاع المقدسة، بما يعيد لها رونق التاريخ ويحيي الآثار ويعتمد استراتيجية للسياحة الدينية، وخصوصا في ظل رؤية المملكة 2030 التي يتحدثون عنها اليوم..
ولقد دعوت الله أن يحفظ تلك البلاد وينقذها من المكائد التي يحيكها أعداء الأمة للنيل من بيضة الإسلام، ورجوته أن يمنّ عليها وعلى بلادنا وبلاد المسلمين بالأمن والأمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه..
وإن كان لي من نصيحة لمن ينوي الحج؛ فهي المبادرة في سنّ مبكرة، لأن القدرة البدنية مطلوبة في أداء المناسك تماما كالقدرة المالية، ومهما قلنا في تيسير الحج فما زال فيه من المشقة ما لا يقاومه إلا الأبدان القوية..ولا أظن أحدا يزور تلك الديار إلا وأصبح كل همه العودة إليها..
وقد ودعنا مطار جدة ونحن نقول مع صاحب الموشّح الأندلسي :
جادك الغيث إذا الغيث هما
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس
تقبّل الله منّا ومنكم