ما يجري في (العالم العربي) ليس عبثيا / إبراهيم ابراش
المتابع لمجريات الأحداث فيما كان يسمى العالم العربي سيلاحظ أنها تسير ضمن مخطط مدروس لتدمير ما كان يُفترض أنه مشروع قومي وحدوي عربي كانت الشعوب تراهن عليه لمواجهة تمدد المشروع الصهيوني والنفوذ الأمريكي والمشاريع القومية الأخرى في المنطقة كالمشروع الفارسي الشيعي والمشروع التركي التوراني، وكانت واشنطن واضحة عندما وضعت منذ الخمسينات خططا لبلقنة المنطقة وتقسيمها بمساعدة عملاء لها في الشرق الأوسط ، فأقامت قواعد عسكرية في غالبية الدول العربية كما وقعت اتفاقات أمنية مع أخرى بالإضافة الى فرض علاقات اقتصادية غير متكافئة تجعل اقتصاديات دول المنطقة تابعة للمركز الاستعماري الغربي..
وعليه ليس كل ما يجري من خراب ودماًر وحروب اهلية أمراً عبثيا بل مخطط له. من خمسينيات القرن الماضي إلى احتلال العراق 2003 وفوضى ما يسمى الربيع العربي وأخيرا ما يجري من حرب أهلية في السودان والحرب على غزة.
كانت مراهنة على مصر لتكون قاعدة ومنطلقاً للوحدة العربية فكان التآمر عليها منذ رفض واشنطن تمويل بناء السد العالي والعدوان الثلاثي ١٩٥٦ ثم عدوان ١٩٦٧ وارهاقها بحرب الاستنزاف ومؤامرات جماعات الإسلام السياسي والأزمات الاقتصادية ثم محاولة تخريبها في أحداث ما يسمى الربيع العربي.
كان يُضرب بلبنان المثل في ديمقراطية تنافس ديمقراطية إسرائيل المزعومة وكانت نموذجا يُحتذى به للتعايش بين الطوائف، فكان لا بد من تدميره وتوصيل رسالة بأن العرب لا يمكنهم أن يكونوا ديمقراطيين وانهم ليسوا شعباً واحداً بل طوائف ومذاهب متصارعة لا تجمعهم رابطة وطنية أو قومية مشتركة.
وتمكن العراق في عهد صدام حسين أن يبني جيشاً قوياً واقتصاداً متقدماً ونهضة عمرانية ومجتمعاً متماسكاً، ويعطي أملاً بتحقيق الوحدة العربية وتصحيح المسار العربي بعد توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد مع اسرائيل، مما هدد المصالح الأمريكية والغربية وشكل تهديداً لإسرائيل ومشاريعها التوسعية فكان لا بد من تدمير العراق فكانت حربه مع إيران واثارة الصراع داخله بين السنة والشيعة ثم توريطه باحتلال الكويت وحصاره وأخيرا احتلاله وتقسيمه بتواطؤ مع إيران.
احتلال العراق وتصاعد جماعات الإسلام السياسي المتطرفة شجع واشنطن متحالفة مع بعض دول الخليج وخصوصا الرياض والدوحة والإمارات على تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد و (الفوضى الخلاقة) ونجحوا جزئياً في البداية في تونس ومصر وليبيا وسوريا، وما زالت تداعيات هذه الفوضى قائمة حتى اليوم في أكثر من بلد.
اعتقدت سوريا أن وقوفها إلى جانب واشنطن وطهران في حربهم على العراق سينقذها من المخطط الأمريكي الغربي لتدمير العالم العربي وأنها بعد هزيمة منافسها وخصمها الأيديولوجي البعثي يمكنها تثبت نفسها زعيمة للعالم العربي وتتفرغ لاستكمال ما حققته من تقدم اقتصادي ونهضة عمرانية وعدم وجود ديون خارجية، إلا أن أملها خاب لأن من يعتمد على واشنطن والفُرس كمن يراهن على سراب فواشنطن لن تقبل حليفاً لها إلا إذا كان تابعا ومعترِفا بإسرائيل ،وإيران لن بدعم دولة عربية إلا إذا كانت موالية للشيعة وتقبل أن تكون في خدمة المشروع الفارسي للهيمنة على المنطقة العربية. وتدفع سوريا اليوم ثمن محاولتها التمسك بعروبتها وخطابها القومي العربي من جانب، وتحالفها مع الفرس أعداء العرب والعروبة من جانب آخر.
حاول معمر القذافي أن يكون أمين الأمة العربية وان يتمدد لأفريقيا ليصبح (ملك ملوك أفريقيا) من خلال شق طريق ثالث ما بين الرأسمالية والاشتراكية وناصر حركات التحرر في العالم حتى في ايرلندا وجماعات الهنود الحمر في أمريكا، وحاول امتلاك التقنية النووية وأن يستقل اقتصادياً ومالياً عن الغرب وكان التعليم والصحة مجاني للجميع وكل مواطن يملك بيتاً وله راتب حتى بدون عمل، ونجح في مسح أية ديون خارجية وكان أحيانا يبالغ في معاداته للأنظمة العربية المعتدلة واهانته قادتها كما تورط في عملية إسقاط الطائرة في لوكيربي الخ، فكان على رأس المستهدَفين في فوضى الربيع العربي وتم اغتياله بطريقة مهينة بعد استهدافه من طائرات حلف الأطلسي.
وكانت اليمن تسمى اليمن السعيد ولها موقع استراتيجي في مياه الخليج وعلى الحدود مع العربية السعودية فتم و بتواطؤ مع إيران أيضا تحويله لساحة حرب مع دول خليجية و استنزاف لمقدرات السعودية كما تم إعادة تقسيمه بين شمال وجنوب وإثارة الفتنة بين الشيعة والسنة ولم يعد اليمن السعيد سعيداً.
وكان يُقال أن السودان سلة غذاء العالم العربي نموذجا للتعايش بين العرق الزنجي والعرب فإذا به يتحول لساحة حرب أدت بداية لفصل جنوبه عن شماله وقيام دولة جنوب السودان ثم اندلاع حرب أهلية في الشمال بين المجلس الرئاسي وقوات الدعم السريع الذين كانوا شركاء في السلطة، وتحول السودان بلد يسوده المجاعة والافتقار للأمان وهاجر الملايين إلى دول الجوار.
وفي المغرب العربي الذي أصبح يسمى شمال أفريقيا يتواصل الخلاف بين المغرب والجزائر حول مشكلة الصحراء وجبهة البوليساريو وهو خلاق ممتد منذ 1974 ، وكان من الممكن حل مشكلة الصحراء عن طريق الأمم المتحدة أو بتدخل من الغرب الصديق للطرفين، ولكن واشنطن والغرب استمروا باستعمال لغة ملتبسة ، فتارة يظهرون وكأنهم مع حق تقرير المصير للشعب الصحراوي وتارة أخرى يرسلون رسائل بأنهم يدعمون المغرب، ومع استمرار هذا الموقف الملتبس يستمر الغرب في مد الطرفين بالسلاح .
ولم تكن مناطق للسلطة الفلسطينية التي يفترض أن تشكل الدولة الفلسطينية المأمولة بعيدة عن هذا المخطط التدميري التخريبي، فتم صناعة الانقسام وفصل غزة عن الضفة وسيطرة حركة حماس، الإخوانية المنافسة لمنظمة التحرير على قطاع غزة مما يسمح لمزيد من التدخلات الخارجية في الشأن الفلسطيني، وبدلا من أن تكون السلطة الوطنية أداة وخطوة نحو الدولة المستقلة تحولا لهدف بحد ذاته يتم الصراع عليها حتى وهي تحت الاحتلال.
أما جامعة الدول العربية التي كان يُعول عليها لتكون البيت العربي الجامع فقد أصبحت شاهد زور على وأحيانا متواطئة، ولم يعد الشعب العربي يهتم بها وباجتماعاتها وأصبحت قرارات القمم العربية مصدر تندر وسخرية من الشعوب، ولم تتمكن (جامعة العرب) من حل أي مشكلة أو قضية سواء عربية عربية أو بين دولة عربية وعدو خارجي، وأصبح قرار الجامعة بيد الدولة أو الدول التي تدفع مالا أكثر للجامعة وأمانتها العامة، فتارة تجدها أداة بيد مصر وتارة أخرى بيد العراق ثم تعود لمصر، وأحيانا تبدو وكأنها أداة بيد قطر أو العربية السعودية …
ما كان كل هذا ليحدث لولا وجود خلل وتواطؤ داخلي من أنظمة ونظم سياسية فاسدة وأحزاب فاشلة وشعب يسوده التخلف والاتكالية وثقافة دينية ما زالت تراهن على السلف الصالح وعلى مدد سماوي بدلا من المراهنة على الذات والعقل والعقلانية والعمل من أجل المستقبل.
هذه الحالة العربية المزرية تفسر لنا إلى حد ما سبب الصمت وحالة العجز الرسمي والشعبي على المجازر وحرب الإبادة غير المسبوقة تاريخيا التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، وما كانت إسرائيل تُقدم على جريمتها إلا بعد أن اطمأنت أن سياسية حليفتها الاستراتيجية واشنطن في المنطقة نجحت فيما خططت له منذ عقود وأن العالم العربي لن يتحرك، بل لم يعد هناك عالم عربي ولا حتى عالم إسلامي.
المصدر : الكاتب