نعم لموريتانيا جديدة بمعايير الحق / الولي ولد سيدي هيبة
نعم لموريتانيا جديدة بمعايير العدل بين المواطنين و الاستقامة في التسيير و توزيع الأدوار و الخيرات بين الجميع، موريتانيا تغيب فيها نهائيا جميع الفوارق الاجتماعية الظالمة و ينبذ أهلها الكسل و يحترمون العمل.
نعم لموريتانيا جديدة تستفتي شعبها في كل أمر يخص التغيير إلى الأحسن و يبعد في كل مرة شبح الاختلالات و القيود المثبطة لأمل التحول البناء..
لا للمزاجية في الأمر و الانتقائية في جملة الأمور التي تحتاج بإلحاح إلى كلمة الشعب و منها اسم البلد “موريتانيا”.
نعم لموريتانيا جديدة تحترم ماضيها فلا تستحي من تقويمه و تنقيته من الشوائب و العوالق.. و لا للمتشدقين بالشعارات المغرية و النوايا المبيتة.
نعم لموريتانيا جديدة تخلد مجاهديها الصادقين الذين رووا بدمائهم الطاهرة أرض الوطن و علمائها الذين حفظوا باجتهاداتهم في زمنهم المضطرب دماء رايتهم المستضعفين و المغلوبين على أمرهم من بطش الظالمين و غاوي القهر و السلب.. لا للوصاية المرتجلة على تاريخ التصدي للدخلاء و تحويل الجهاد إلى سياحة رخيصة لمن يدفع… لا لجهوية العمل الجهادي و قولبته القبلية… لا لتحوير الأدوار في الجهاد و الشطب و الزيادة و الاستضعاف و الاستبدال.
نعم لكتابة تاريخ منصف لا يخشى ثغرات الماضي و مطبات الحاضر بِحِبْرِ الواقعية و الالتزام الوضاء و أدوات الثقافة العصرية المجردة من جبن و خسة و ظلامية الماضي.
البرجوازية الحضرية
بدأت ظاهرة البرجوازية الحضرية (embourgeoisement urbain, petite noblesse, Gentrification) تنتشر بشكل يبعث على القلق حيث أن الفقر الذي هو في ازدياد يوازيه تجمع المال السهل بأيدي قلة من الأرستقراطيين القبليين و المتنفذين و الضباط و الطفيليين النفعيين ليأخذ جزء كبير منه شكل الملكية العقارية في تغول جريئ على المساحات العمومية و المدارس و الثكنات و الأحياء الشعبية العتيقة بطرد السكان منها إلى الأطراف القصية الفقيرة؛ عقار يُخلى ليحوله الأغنياء إلى عمارات شاهقة و أسواق كبيرة. و هي الظاهرة التي تمكنت كل الدول التي يديها شأنها الخلصاء الوطنيون الذين يسهرون على نشر العدالة الاجتماعية و يسعون إلى تحقيق رغد العيش لمواطنيهم، و قد تغلبت عليها و آخرها الولايات المتحدة و منها تحديدا مدينة لوس أنجو لوس حيث رفضت السلطات استبدال الفقراء بالأغنياء بنقلهم إغراء و قسرا من قلبها إلى الضواحي.
غياب المواهب عن مسارح الذكاء و الإبداع
تتحفنا منذ سنوات قناة MBC ببرنامجها الموسمي الرائع Arabs god talent و قد شاهدنا خلالها مواهب لا تحصى من جميع الأقطار العربية ـ في مختلف الفنون و الألعاب البهلوانية و المرتبطة بالذكاء و في الرياضات و بديع الاستعراضات و الغناء و الابتكارات المذهلة و الخارقة ـ باستثناء موريتانيا التي لم تقدم خلال المواسم الخمسة التي تم تنظيمها لحد الآن أية علامة نبوغ أو إبداع أو تميز. ترى ما السر وراء هذا الغياب الصارخ عن مسرح الذكاء و الإبداع و نحن بلد المليونيات بفن الإدعاء و النبوغ في كل علم و أدب و فن؟
كما تابعت أحد السينمائيين الموريتانيين و هو يمتدح على إحدى الشاشات المحلية الموهبة الوطنية في هذا الفن الراقي و يعدد من الإنجازات ما لا يستطيع أن يقف عليه أحد و إن بسبب قلة الاهتمام و غياب الدعم و انعدام الرعاية. و هي كلها عيوب لا تبرر مطلقا الاسترسال في رسم لوحة لا إطار أو ألوان لها، فنحن بلد يقتل المواهب و يغذي الهروب إلى الأمام في عوالم الإستعلاء و الاستكبار بالأوصاف المضللة لا صلة لها بالواقع الاليم.
نواكشوط عاصمة بلا طابع
استمعت منذ يومين في إذاعة فرنسا الدولية على موجة الـ (FM) إلى تقرير طريف و عميق الدلالة عن “الأصوات و الروائح” في مدينة “باريس” خلال القرن الثامن عشر؛ تقرير مهني بامتياز بديع الحبك و مدعم بأرشيف حي ناطق من جليل التوثيق الثري المتواصل بالأصوات و النصوص و الصور. استوقفني الوصف الدقيق لصخب هذه العاصمة العريقة إذ ذاك و كثرة الأصوات العالية التي كانت ترتفع من كل أرجائها فلا تهدأ ليل نهار في شوارعها و أزقتها، و مثلها مختلف الروائح التي كانت تنبعث من جميع أرجائها و تملأ كل ركن من جيوب الأنوف لتعلق في شعيراتها.. و لولا تنوع الاختصاص في تلك الحياة الباريسية النشطة و حَمل الهَم بكل إملاءاته و تجلياته و ظهور الإبداع في محمل تلك الأصوات الجادة في خلق التميز و لفت الأنظار، و كثرة و تداخل الألوان و سحر جمالها لأَيقنتُ أن هذا التحقيق مُعد عن “نواكشوط” في القرن الواحد و العشرين بفارق نتانة الروائح التي تمزج بين دخان عوادم الخردة السامة الملوثة و القمامة المقرفة و فضلات الحمير و الغنم و الكلاب السائبة و خفاضات الرضع المبعثرة في كل الأزقة من ناحية، و انعدام أي متنفس للراحة و التسلية أو فضاء أخضر يريح النفوس و يهون على العيون قتامة المنظر العام… فحتى واقع عديد الشعوب في القرن الثامن عشر يفوق حسنا و حيوية عجزنا عن أي مظهر من مظاهر التحضر و بناء كيان مدني له طابع مميز بثوابت الخصوصية و مطاطية التغيير في حينه.
عندما تكون المقاومة قبلية
لا شك أن الجهاد الذي أشعل فتيلَه في هذه البلاد رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه جدير بالتناول والإحياء في الذاكرة الجمعية و بالتخليد بالذكر الحسن لأسمائهم الناصعة و بطولاتهم الكبيرة في المناهج المدرسية و متن التربية المدنية و بالحضور المادي في الواجهة العامة للبلد بدأ بشوارعها و ساحاتها و مؤسساتها العمومية من جامعات و معاهد و داخل مناهجها الأكاديمية كمادة ترمي إلى إبراز معالم الخصوصية و تنمية الروح الوطنية و دعم الوحدة و اللحمة و الأمن و الاستقرار، و على واجهات و في ردهات المستشفيات و كل المتاحف العامة و أخرى تخصص لها.
لكن بعض الجهات التي نصبت نفسها وصية على المقاومة تصر على اتباع منهجية أقل ما يمكن من القول عنها أنها تثير النعرات و الحزازات القبلية و توقظ الحساسيات الضيقة التي كادت أن تتلاشى بفعل الوعي الذي حدث مع دخول البلد عصر الدولة المركزية و حيز المدنية السامية و ما أتاحته من انتشار التعليم على نطاق شامل فأسهم في تفتح العقول و تنويرها.
عندما تغيب روح الفروسية
تمتلك أغلب شعوب العالم ـ كالتبتيين و المغول و الهنود الحمر و أهل الجزيرة و المغرب و الأوروبيين في إيطاليا و فرنسا و بريطانيا و في روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية و غيرهم كثير في نيجيريا و أثيوبيا و مالي ـ فصائلَ متنوعة من الخيول تميزها و قد تماهت، على مر العصور، معها في انسجام عضوي و معنوي منقطع النظير. و تقوم هذه الشعوب منذ غابر الأزمان باستعراض خيولها في المناسبات الوطنية و في التظاهرات الخاصة بموروثها التارخي و إبراز الخطوط العريضة لهويتها الخاصة بعدما سطرت بها ملامح بطولية في المعارك كبير الأحداث و صنع التاريخ ( الفتوحات الإسلامية، حملات نابليون، غزوات المغول، الحرب الأهلية الأمريكية، إلخ… ) .. خيولٌ يمتطي صهواتها فرسانٌ درجوا على ذلك منذ الصغر و قد صاحب مسارهم و سياستَهم خيولهم دَفقٌ وطني حسي و عضوي يستوطنان النفوس و يقويان هذا التقليد العريق في اصطحاب ملازم لحب الوطن و السعي الدائم إلى الرفع من شأنه. و في كل بلد من هذه البلدان تُصَدِّق خيوله العريقة المُساسة بجدارة و محبة و عناية قصصَ الفروسية الذائعة فيها و مواقفَ الفرسان المسجلة جزأ حيا من هويتها. و أما عندنا فالحديث عن الخيول و الفروسية و الغزوات و الملاحم فهو أقرب إلى الأسطورية في السرد منه إلى ملموس وجود إلا ما يكون من بقايا إرث المرابطين عندما وصلوا المغرب الأقصى مع يوسف بن تاشفين و لم يرجعوا؛ إرث خلخله الإهمال و سوء التقدير و غياب الحفظ. و الفروسية الحقة لا تموت بحضور الخيل التي امتدح الرسول الكريم (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) و هي لثَلَاثَة: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ، و لأنها الملهم الدافع إلى بروز أعراضها و نبل مقاصدها.. فهل منا فرسانا في عصر يستغيث فيه البلد من نير العالة رعاء الشاي و هم يتطاولون في البنيان؟
تنميق الكلام و هجر الفعل
عجيب أمرنا و غريبة أطوارنا و صادمة مسلكياتنا و متناقضة أفعالنا مع أقولنا. حقيقة كالعلقم لكنها حقيقة ماثلة لا يطالها الشك. كل مقابر الدنيا من حولنا و تدعى “المقابر” واحات خضراء و نسق القبور المنتظم فيها يثلج صدور الزوار الذين يبتغون لحظات من السكينة للتحرم على أرواح أحبائهم و قد فارقوهم و للاطمئنان على سلامة قبورهم من عبث عناصر الطبيعة و ساكنيها. و أما عندنا فالمقابر تدعى “الصالحين” و ما جمله من إسم يحمل كل الدعاء بالرحمة، لكنها في واقع الأمر عبارة عن تقاطعات من القبور العارية أغلبها و الآيل إلى الزوال بعضها الآخر، لا يكاد يجد الزائر لها ممرا إلا على ظهورها. و لإن كان المدفونون في مقابرنا “صالحين” فإن طريقة دفنهم و عشوائية رياضهم غير صالحة، و في ذلك تجاوز على الأحبة و قد تركوا مواطن الخلاف و النزاع و التغابن و الإساءة.. فهل من لفتة إلى مقابرنا و تصليح لحوزتها حتى لا نضيع حقهم علينا و لا يُضيع حقنا عليه من سيسأل عن قبورنا إذا صرنا مثلهم… أم أننا سنظل ننمق الكلام و نهجر الفعل.