أمين بن مسعود / كاتب ومحلل سياسي تونسي
من المجانب للصواب أن نحصر زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تونس والتي تنتهي الخميس في الزاوية الاقتصادية الصرفة على الرغم من تضمنها جزءًا من الحقيقة، فالمال والأعمال لا يغيبان عن طاولة اجتماعات المسؤولين التونسيين الفرنسيين خاصة في هذا السياق بالذات، ولكن الزيارة تتفرع إلى أكثر من ملف ثنائي وإلى أبعد من الجغرافيا التونسية.
فالشطر الشمالي من القارة الأفريقية يمثل الصداع الاستراتيجي لأوروبا عامة، ولباريس خاصة، فلا تزال السواحل التونسية والليبية تقذف بآلاف الشباب المعدم والمفقر إلى الضفة الجنوبية من القارة العجوز وسط قصور وعجز واضحين من السلطات الرسمية المغاربية عن استقطاب الشباب واستيعابهم ضمن عجلة التنمية المتعثرة أصلا.
القارئ لبيان وزارة الخارجية التونسية وللحوار الصُّحافي الذي أدلى به ماكرون لصحيفة تونسية خاصة يتبين الخطوط العريضة لزيارته تونس، تعزيز للتعاون الثنائي المشترك، وتطارح للموضوع الليبي الشائك والمتشابك، ومشاركة متقدمة في الحرب على الإرهاب.
ذلك أن الوفد المصاحب للرئيس ماكرون والمتضمن لمجموعة من الوزراء والأكاديميين ورجال الأعمال، وجدول الأعمال المزدحم بالمواعيد السياسية والاستثمارية يشيران إلى أهمية الزيارة لباريس “الجديدة”.
تدرك باريس أن تونس التي تعاني حاليا من أزمة مالية خانقة، تعمد إلى تفعيل مبدأ تعدد الخيارات الاقتصادية من الشرق إلى الجنوب، وتسعى إلى استحثاث كافة الفرص التنموية مع الدول الاقتصادية الصاعدة سيما في آسيا وأفريقيا، وهو جهد محمود مرجعه لا فقط تخلي العواصم الغربية عن تونس في محنتها الاقتصادية والسياسية والمدنية، ولكن أيضا طبيعة الشراكة التونسية الأوروبية (1995)، والتي أضرت بالاقتصاد الوطني بشكل كبير.
صحيح أن باريس ساهمت وخاصة في عهد الرئيس فرنسوا هولاند ماليا ولوجستيا في تسهيل المرحلة الانتقالية، بل واحتضنت بشكل من الأشكال حوار باريس بين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي وحولت العديد من الديون إلى استثمارات، ولكن ذلك بقي دائما دون المأمول من الشريك الاقتصادي الأول لتونس خاصة وأن الكثير من الشركات والمؤسسات التجارية والاستثمارية الكبرى الفرنسية غادرت البلاد نحو المغرب الشقيق.
كما أن الكثير من الوعود التي تم إطلاقها في مؤتمر 2020 للاستثمار بقيت حبرا على ورق، خاصة من قبل الشركاء التقليديين والتاريخيين لتونس، الأمر الذي دفع إلى تجرع كأس سم الاقتراض من صندوق النقد الدولي والقبول بكافة الاشتراطات حتى وإن كان العنوان الكبير “اقتراحات عملية لإصلاح الاقتصاد الوطني”.
في هذا المفصل تنخرط باريس بمجموعة من الاتفاقيات الهامة وتدفع بثلة من رجال أعمالها لاستجلاء السوق التونسية وتفحص فرص الاستثمار، وهي على علم بأنها لا تزال الشريك الأول والأساسي ولكنها ليست الشريك الوحيد، وفي حال استمر التردد الفرنسي على بعض الأسواق المغاربية المنافسة لتونس، وتواصل التلعثم الأوروبي في تصحيح مسار اتفاقية السوق المشتركة فمن المرجح أن تقفز قوى إقليمية كبرى إلى أعلى سلم الشراكات المالية مع تونس.
على المقلب الثاني من الزيارة يكمن الملف الأمني المرتبط بالإرهاب كواحد من العناوين الكبرى، ففرنسا الغارقة في المستنقع الإرهابي في مالي والتي أنشأت في ديسمبر الماضي قوّة الساحل الأفريقي لمحاربة التنظيمات الإرهابية في هذه المنطقة المشتعلة، تعرف أنه لا أمن في منطقة الساحل من دون أمن واستقرار في ليبيا. ذلك أن الترابط بين التنظيمات الإرهابية في الجنوب الليبي والنيجر وتشاد ومالي تأسيسا على الوحدة الجغرافية الصحراوية الواسعة وعلى استغلال التهريب وحتى استنادا إلى التقارب في مستوى الوحدة الاثنية، حول مالي إلى “أفغانستان جديدة”
هكذا يعمد الرئيس الفرنسي ماكرون إلى تجفيف منابع الإٍرهاب في الساحل الأفريقي عبر إغلاق المنبع الليبي أو تطويقه على الأقل، من خلال دعم مخرجات العملية السياسية في ليبيا بقيادة السفير غسان سلامة ودعم الجيش الليبي في حربه على الإرهابيين في الشرق والجنوب.
وهنا أيضا مطمح فرنسي من خلال تونس إلى إطفاء الحريق الليبي عبر التوصل إلى اتفاق نهائي حول التسوية ودعم عمليات الجيش في الجنوب، ومطمع باريسي إلى الانخراط في إعادة الإعمار في ليبيا والظفر بعقود نفطية لكبريات الشركات البترولية، وبالتالي العودة إلى المشهد الاقتصادي الليبي ولم لا الحصول على ذات الحصة التي كانت تتمتع بها خلال عهد القذافي.
باتت تونس بوابة لكل من يرنو إلى تسجيل مقعد متقدم على الخارطة الاقتصادية القادمة في ليبيا الغد، هكذا تصرف رجب طيب أردوغان خلال زيارته الأخيرة وهكذا يشير أداء الرئيس ماكرون، وهكذا يتصرف اللاعبون الكبار عندما تتحول العواصم الإقليمية الكبرى إلى ملاعب في لعبة الأمم.