الإستقلال الثقافي (2) / السيد محمد حماه الله
انتهينا في تعريفات وتفريعات الاستقلال بأن المصطلح نفسه لم يكن مستخدما في سياق الفكر العربي الإسلامي وإن عبر عن مفهوم الاستقلال ومضمونه بإصطلحات مغايرة ذات حمولة دينية مثل مفهوم الولاء والبراء
وإن كان المعنى يكاد يكون متطابق إلا أن الأمانة العلمية تحتم إثبات أن الإستقلال كلفظ دارج الإستخدام اصطلاحا على معاني الإرادة والحرية مؤرخ بترجمة العلم السلبي في الإنجليزية (Independent) الذي يعني غير المعتمد أو غير التابع ( مع تجذر مضمون الإستقلال في العقل العربي الإسلامي بتعابير وإحالات أخرى)
وفي الأدبيات السياسية يكون الاستقلال هو التعبير الفصيح عن الحرية والإنعتاق وعدم الخضوع لأي سلطة أو ضغط أو تأثير
ومن هذا التعريف نجد أن الإستقلال جاز الى إحالات الفكر والسياسة والاقتصاد والقانون وكل مناحي الحياة ما بين التنظير والتطبيق فكلها يمكن فيها رصد الإستقلال كظاهرة تلازم حضور الذات حرة مريدة لا تعاني قهر مستغل ولا دونية تبعية .
وبما أننا نحاول في هذه المفاكرة استكناه الإستقلال الثقافي وقد انتهينا في عرض موجز لمضمون الإستقلال ندلف الآن الى إستعراض مسنود الإستقلال عندنا الثقافة التي هي مناط تحقق وجود المجتمعات وبطاقة تعريفها من بين الأمم بناءا نرجو منه أن يكون لبنة أساس في استقلال الأمة هوية وثقافة محافظة على شخصيتها وحضورها التاريخي
الثقافة :
الثقافة بما تعنيه اليوم من مضامين ومفاهيم متعلقة بالظاهرة الإنسانية مصطلح وافد (كما الإستقلال) على العقل العربي الإسلامي فالثقافة في درج العرب الى عصر النهضة بعد الهجمة الأوروبية لم تكن تعني ما تعنيه اليوم ولم تكن تبارح بساطة اللفظ الذي ينتهي الى معناه سلاسة دون تعقيد ولا تركيب فالثقافة عند العرب كانت لفظا ولم تكن مفهوما
لذا نجد أن الثقافة تعرف في المعاجم بأنها مصدر من الثلاثي ثقف (ينطق بكسر القاف وضمها) والثقف عند العرب هو الحصيف الفطن
والثقف أيضا يطلق على النظيف وعلى قلة استعمال لفظ الثقافة خارج أوزان الأفعال فإنها قليلا ما استخدمت لتدل على النظافة والثلاثي منها على وسم الذكاء والفطنة
وقد لقبت العرب قسي بن منبه القبيل المعروف وجد أبرز الجذام الكبيرة في هوازن بثقيف الذي استوطن (ومن بعده قومه) الطائف وقد كان منهم مشاهير في العرب ووجهاء قوم كعروة بن مسعود رضي الله عنه أحد عظماء العرب في الجاهلية والإسلام وهو من أحتج به المشركون رفقة الوليد بن المغيرة عظيم مكة في قوله تعالى 🙁 وقالو لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) وأيضا سيف بني مروان الحجاج بن يوسف الثقفي وفاتح السند محمد بن القاسم
وأيضا تقول العرب ثقف الشئ إذا ظهر عليه وأصابه وتمكن منه كما في قوله تعالى :(اقتلوهم حيث ثقفتموهم)
والثقافة كمصطلح أستنبت في حراكنا وفعلنا المعرفي مستلف من الغربيين الذين تدل عندهم المفردة التي تعني الثقافة (Culture) على الزراعة أو الحرث بإرتباط الثقافة عندهم بالزراعة كلازم الإستقرار لأن الإستقرار يصنع الشخصية بتمكن الإرتباط بالأرض وإنصهار الأفراد بتشابك علائقهم ونشاطاتهم فيغدو المجتمع هو الفرد الأكبر في علائقه وتشعباته
وبما أن الثقافة مصطلح وافد نجد لزاما علينا في محاولة تعريف الثقافة أن نستنطق المصطلح في سياق نشوئه وتشكله الأول
نجد أن كلمة ثقافة في اللاتينية الأولى التي هي فصحى أوربا الغربية والتي كتبت بها العلوم والآداب والمعارف تستخدم دلالة على حرث الأرض وزراعتها وفيما بعد استخدمت دلالة على تهذيب العقل وتنميته وأستمر هذا التعريف حتى القرون الوسطى عندما أعتمدته فرنسا للتعبير عن الطقوس الدينية وفي عصر النهضة أطلقت كلمة الثقافة على الدراسات المختصة في التربية والإبداع وفي القرن السابع عشر ونضوج عصر النهضة عمد الفلاسفة الى تخصيص مبحث لمناقشة مفهوم الثقافة كنشاط ذهن الإنسان تدريبا وتزكية وعمل بهدف تطوير ذاته إثراءا للعقل بالعلم والتجربة
والثقافة كفعل عقلي هي لازم الظاهرة الإنسانية إذ أن المفهوم ليس حديث بقدر ما هو لفظ الثقافة . فكل الأمم عبرت عما نسميه اليوم ثقافة بتسميات أصطلحت عليها ولا مشاحة في الإصطلاح كما يقول الأصوليون .
والثقافة كمفهوم أستلهم الزراعة وتجوز بدورها الأساس في معاش الناس ليصف ارتقائهم القيمي والأخلاقي مفهوم سابق لنحته وهو ما يؤكده ما مضينا إليه فمثلا نجد أن العقاد يؤرخ للثقافة كفعل للعقل بأنها منتج عربي إذ يدلل على ذلك أن أرقى مخترعات الإنسان الكتابة في أساسها أو فيما يخص الكتابة الغربية (كون المحاججة والسجال عنده ” كما عندنا” بين عرب وغرب) هذه الكتابة يونانينها ولاتينيها ما هي إلا أحرف عربية في الشكل والمعنى .
ضبطا لمفهوم الثقافة نستعرض بعضا من محاولات تعريف الثقافة كمفهوم أصيل في فهم وإستيعاب الظاهرة الإنسانية نجد من أقدم تعريفات الثقافة ومن أكثرها شمولا هو ما قدمه السير إدوارد تايلور (مؤسس علم الانثربولوجيا) بعد أن أحصى أكثر من مئتي تعريف للثقافة أستخلص بأنها :
(هي ذلك المفهوم الكلي الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعادات والقدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في مجتمع )
ومن منظور علم الإجتماع يأخذ التعريف اللغوي في التوسع والتعمق عند جل علماء الإجتماع البارزين (ماكس فيبر، ماركس..) ليشير الى طريقة الحياة التي تتمكن جماعة بشرية من تأسيسها لتكون مقبولة من جميع أفراد الجماعة وملائمة لهم كمجموع متضمنة أساليب الإدارة وآلياتها ونمط التفكير وآداب السلوك والمعتقدات أو منظومة الأخلاق والقيم التي تحكم الجماعة وكذلك اللغة ونمط العيش من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومن علاقات وأنظمة سلوك تؤسس التواصل بين الفرد والفرد وبين الفرد والجماعة وبين الفرد البيئة وبينه والوجود .
وأيضا عرفها بعض المفكرين تبسيطا بأنها الرقي في مختلف الأفكار النظرية
ومن أحدث التعريفات المتفق عليها للثقافة هو ما تم إنجازه في مؤتمر مكسيكو عام 1982 بأن الثقافة هي :
كل السمات المادية والروحية والعاطفية التي تتيح لمجتمع ما أو لفئة منه أن تتميز بتلك السمات عن غيرها من الفئات في ذات المجتمع أو عن غيره من المجتمعات.
وفي المؤتمر العام للتنوع الثقافي الذي نظمته اليونسكو تم التأكيد على أن الثقافة هي مزيج من السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية ويتوسع المفهوم ليشمل أساليب الحياة ومنظومات القيم والتقاليد والمعتقدات
وبما أننا قررنا سلفا أن الثقافة مصطلح جديد لمفهوم قديم متجذر في كل المجتمعات الإنسانية نجد أن كل ما استعرضناه من تعريفات للثقافة يتفق وما ذهب إليه مؤسس علم الإجتماع أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الذي نجده يميز بين حياة “ثقافة” البداوة وحياة “ثقافة” المدن وعد الأخيرة أرقى (ارتباط الثقافة بالإستقرار كما أكدنا سلفا) أيضا نجده يقرر أن آداب الناس في أحوالهم في المعاش كالعمران والصنائع والفنون والدراية في مجالات الحياة اليومية في حين تتشكل آداب الناس بالتعليم والإكتساب وإعمال الفكر
والثقافة عند مالك بن نبي هي فلسفة وقيم خلقية فردية واجتماعية تؤثر في تكوين وتنشئة الفرد منذ الطفولة بحيث تصبح نمطا لصيقا بحياته ووسما مميزا لسلوكه يعيش بها كل دقائق حياته وفق النمط الذي تتشكل فيه
ونختم في استعراض الآراء حول مفهوم الثقافة بما انتهى إليه الأستاذ على عزت بيجوفيتش الذي يرى أن الثقافة إرتباط الميتافيزيقا بالواقع المادي إذ يمايز بين الحضارة كإرتباط بعالم الأرض أو الطبيعة والعناصر المادية والثقافة عنده تبدأ بالتمهيد السماوي بما اشتمل عليه من دين وأخلاق وفلسفة وستظل الثقافة تعنى بعلاقة الإنسان بتلك السماء التي هبط منها
ختاما نقول
أن الثقافة سعي في مدارك الإنسان الكامل الذي كرم في الملكوت واصطفى دون كل المخلوقات لتحمل أمانة الخالق إستخلافا عنه بعمارة كونه وصلاح خلقه
نواصل