الفِرقة الناجية.. بين النص والتأويل / د. محمد البشاري
حديث افتراق الأمة، الذي ينص على انقسام المسلمين إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ظل أحد أكثر النصوص إثارة للجدل في الفكر الإسلامي. وهذا الحديث، بما يحمله من أبعاد دينية وتاريخية، لم يكن مجرد نص مروي، بل أُسيء تأويله واستخدامه في مراحل متعددة لتبرير الانقسامات المذهبية والسياسية وإقصاء الآخر.
وعند تناول هذا الحديث، من حيث السند والمتن، نجد أن علماء بارزين، مثل ابن حزم والشوكاني وغيرهما، أشاروا إلى ضعف واضطراب بعض أسانيده. كما أن العبارات التي يُعتَقَد أنها أُلحقت به، مثل «كلها في النار إلا واحدة»، غالباً ما تُعتبر إضافة تفسيرية قام بها بعض الرواة. وهذه الإضافة أسهمت في استغلال الحديث لتبرير الانقسام بين المسلمين، حيث أصبح أداةً لتكريس الهيمنة المذهبية والسياسية.
وقد شهد التاريخ الإسلامي أمثلةً عديدة على استخدام مفهوم «الفرقة الناجية» كذريعة لادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. والجماعات التي تبنت هذا المفهوم غالباً ما أفرزت نزاعات داخلية وزعزعت استقرارَ المجتمعات، مدعيةً أن النجاة مرتبطة فقط بالانتماء إليها. وهذا الفهم يُعد خروجاً عن جوهر الإسلام، الذي يقوم على قيم الوحدة والرحمة. فالقرآن الكريم يدعو المسلمين إلى الاعتصام بحبل الله وعدم الفرقة، كما في قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا» (آل عمران: 103).
والحديث عن النجاة، باعتبارها امتيازاً لفئة دون أخرى، لا يتسق مع روح الإسلام التي تؤكد أن النجاة تتحقق بالإيمان والعمل الصالح. قال تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره» (الزلزلة: 7). هذه الرؤية الشمولية تعارض التفسيرات التي تُقصي الآخر وتُرسخ خطاب الكراهية. لكن، عبر العصور، تم تأويل حديث الفِرقة الناجية بمعزل عن مقاصد الشريعة الإسلامية، مما أدى إلى تكريس الإقصاء وزيادة الخلافات بين المسلمين.
وفي كتابي «الفرقة الناجية.. وهم الاصطفاء»، الصادر عن دار نهضة مصر، قدمتُ دراسة معمقة حول هذا الحديث، حيث تناولتُ النصوص الشرعية المرتبطة به من حيث السند والمتن، ووضعت الحديث في سياقه التاريخي والاجتماعي. وركزت في الكتاب على أهمية تصحيح المفاهيم المغلوطة، ودعوت إلى فهم جديد للنصوص يعزز قيم الوحدة والرحمة، ويبتعد عن القراءات التقليدية التي كرست الانقسامات.
ومن التحديات الكبرى التي ترتبت على سوء فهم هذا الحديث، استغلال الجماعات المتطرفة له لتبرير العنف والإقصاء. فهذه الجماعات استخدمته لتضليل أتباعها، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الفكرية والمذهبية في العالم الإسلامي. وهنا تظهر أهمية الخطاب العلمي المتوازن، الذي يعيد قراءة النصوص في ضوء مقاصد الشريعة. وهذا الخطاب يجب أن يكون مدعوماً برؤية شمولية، تعزز التعايش بين المسلمين، وتتصدى لأي فكر يهدد أمنهم الفكري والروحي.
إن إعادة النظر في حديث «الفرقة الناجية» يجب أن تأخذ بقواعد الصناعة الحديثية وآلياتها في التحقق من صحة النصوص، واستحضار السياقات التاريخية والدينية التي أحاطت بهذا الحديث تحديداً. هذه النظرة المتوازنة من شأنها أن تساهم في تجاوز الأزمات الفكرية التي لازمتْ الأمةَ الإسلامية لقرون طويلة، وأن تعيد النصوص إلى مكانها الصحيح كدعوة للوحدة والتسامح، بدلاً من أن تكون أداة للتفرقة.
وبهذا الفهم المتجدد، يمكن تجاوز إرث الانقسامات الفكرية والمذهبية، واستعادة روح الإسلام الجامعة التي تتسع لجميع المسلمين، وتحقق الغايات الكبرى للشريعة الإسلامية، القائمة على الرحمة والسلام والمحبة.
المصدر : الاتحاد