الأخبارمقالات و تحليلات

الهوية الوطنية بين خصوصية الثوابت وعالمية المعايير / بقلم :د.علي بن تميم

تعتبر قضية الهوية الوطنية من أهم، بل من أخطر القضايا التي يواجهها العالم في اللحظة الراهنة. فمع التغيرات التكنولوجية المتسارعة، واتساع رقعة العولمة التي حولت العالم إلى أقل من قرية صغيرة، والتحديات التي فرضتها سطوة مواقع التواصل الاجتماعي عالمياً، وما فرضه كل ذلك من وجود هويات قاتلة، وهويات مركبة، أصبح الحديث عن الهوية الوطنية ومحدداتها أمراً ضرورياً، بل مصيرياً.

 

ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الجديد للمفكر الإماراتي الدكتور جمال سند السويدي نائب رئيس مجلس أمناء مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية “الهوية الوطنية في دولة الإمارات العربية المتحدة بين خصوصية الثوابت وعالمية المعايير”

والهَوية، بفتح الفاء من الفعل هَويَ، قد تكون هاوية فتقود إلى التطرف والتشدد، أو هوى بحيث ينفلت منها الإنسان كلياً فيفرط بذاته فيختفي تماما، وحتى تكون الهُوية بضم الهاء ينبغي أن توصف بكونها متعددة ومتنوعة وحيوية غير مستقرة وتتبدل وتتغير مع الحفاظ على جوهرها الفريد والناصع.

د.علي بن تميم 

ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الجديد للمفكر الإماراتي الدكتور جمال سند السويدي نائب رئيس مجلس أمناء مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية “الهوية الوطنية في دولة الإمارات العربية المتحدة بين خصوصية الثوابت وعالمية المعايير” والصادر أخيراً عن الأرشيف والمكتبة الوطنية، والذي يؤصل فيه لمفهوم الدولة الوطنية الإماراتية، بهدف استيعاب التطورات العالمية والتكنولوجية والاجتماعية بشكل متزامن ومتوازن، من دون أن تفقد الشخصية الوطنية المميزة هويتها وخصوصيتها، واستشراف مستقبل هذه الهوية الوطنية في ظل التحديات الجديدة.
وانشغال د. جمال سند السويدي بقضية الهوية ليس جديداً، فقد كانت إحدى انشغالاته الفكرية التي نتحدث عنها كلما التقينا، كما كتب عنها كثيراً في مقالاته، وأسس لها في عدد من كتبه التي تحدثت عن دولة الإمارات، وكيف لا، وقضية الهوية الإماراتية هي جوهر فكر الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه، حين تحدث عن أن “المصير واحد، ما فيه مصير لإمارة، ومصير لإمارة أخرى، ولا مصير لفرد أو لأفراد، والآخرون لهم مصير. إن المصير واحد والحرص واحد، والمصلحة واحدة”، وإذا كانت هذه القضية في لب انشغالات فكر الأب المؤسس منذ اللحظات الأولى لقيام الاتحاد، فإنها كانت أول ما تحدث عنه الشيخ محمد بن زايد رئيس الدولة، في أول خطاب له عند توليه مقاليد الحكم في 13 يوليو 2022، في إشارة دالة على أهمية هذه القضية له، حين قال: “سيبقى تاريخنا وهويتنا وموروثنا الثقافي جزءاً أساسياً في خططنا للمستقبل”.
ونلحظ هنا أن الأب المؤسس تحدث عن الهوية باعتبارها مصيراً واحداً، كما أن رئيس الدولة تحدث عنها باعتبارها جزءاً أساسياً من استراتيجية دولة الإمارات للمستقبل، وهذه الرؤية المتطابقة لديهما تكشف لنا مدى أهمية هذه القضية لدى قادة دولة الإمارات، التي لم تبدأ هويتها مع تأسيسها عام 1971، بل بدأت قبل ذلك بمئات السنين، فقد تشكلت عبر قرون ـ وفق السويدي ـ هوية مشتركة لأبناء هذه المنطقة بحكم الجغرافيا والعادات والدين والعادات والتقاليد والتاريخ المشترك، لكنها استقرت بشكل تام، وتبلورت بصورة واضحة عند إقامة الاتحاد عام 1971، إذ أصبح هناك وطن يضم الجميع، تشكلت معه وبه هوية وطنية جديدة، يؤمن بها كل أبناء دولة الإمارات.
ويذكرني هذا، بتعريف قدمه الشريف الجرجاني للهوية في كتابه المسمى “التعريفات” حين قال إنها “الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النُّواة على الشجرة في الغيب المطلق”، ولعل هذا التعريف يلخص ما استطاعت الإمارات إنجازه منذ تأسيسها وحتى الآن، وكيف استطاعت النواة، التي زرعها الشيخ زايد طيب الله ثراه، أن تثمر هذه الشجرة العملاقة اليانعة التي ينعم بظلالها الملايين حول العالم، وأصبحت ذات سمة وهيئة واضحة وفريدة يرنو لها الجميع إعجاباً وفخراً.
إن الهوية الإماراتية وفقاً لما سبق تتكون من عدة محددات، تشمل الهوية الوطنية والوحدة والسيادة والاستقلال والعدالة، كونها الجامع لهوية المواطن الإماراتي وتاريخه وإرثه القومي ومكتسباته وتطلعاته ومستقبل الأجيال التالية، لكني أود أن أتوقف عند محدد “اللغة العربية” الذي أفرد له الكتاب مبحثاً خاصاً، كونه أحد أهم محددات الهوية الوطنية.
وتولي دولة الإمارات العربية المتحدة اهتماماً كبيراً للغة العربية، كونها اللسان الوطني للدولة، وهي في هذا تبذل وافر الجهد في تعزيز مكانتها وضمان عدم مزاحمة اللغات الأجنبية لها حتى لا تفقد سيادتها، وتثبيتها جزءاً أصيلاً في تفكير المواطن وسلوكه الحضاري.
وعلى الرغم من أن دولة الإمارات، تتسع لأكثر من 200 جنسية عالمية، ما جعلها تذخر بمثلها وأكثر من اللغات واللهجات العالمية المختلفة، فإنها وفي إطار حفاظها على هويتها أطلقت عشرات المؤسسات والمبادرات الداعمة للحفاظ على اللغة العربية ليس في الإمارات فقط، بل في العالم كله، مثل “مركز أبوظبي للغة العربية”، الذي يضع الخطط والاستراتيجيات للنهوض باللغة العربية، ويدعم البحوث والدراسات لتعزيز استخدام اللغة العربية في الأوساط العلمية والثقافية والإبداعية، وأيضاً “مشروع كلمة” الذي قام بجهد جبار في إحياء حركة الترجمة وزيادة معدلات القراءة باللغة العربية على المستويين المحلي والإقليمي، وهو مبادرة ثقافية أطلقها الشيخ محمد بن زايد رئيس الدولة قبل أكثر من 17 عاماً. وهناك أيضاً “ميثاق اللغة العربية”، و”جمعية حماية اللغة العربية”، ومبادرة “بالعربي”، و”المجلس الاستشاري للغة العربية”، و”مجمع اللغة العربية بالشارقة”، و”جائزة محمد بن راشد للغة العربية”، و”تقرير حالة اللغة العربية ومستقبلها”، و”المعجم التاريخي للغة العربية”، و”معجم محمد بن راشد للغة العربية المعاصرة”، و”تحدي القراءة”، وعشرات المبادرات، التي تؤكد مدى اهتمام دولة الإمارات بأحد محددات هويتها الوطنية، وحرصها على دعمه وتشجيعه.
وإذا كان الكتاب قد سلط الضوء على أبرز معالم الهوية الإماراتية، ومدى انسجامها من حيث الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، مع مسارات التطور التي مرت بها المفاهيم التقليدية والقانونية للمواطنة في التاريخ الحديث عبر منهجية استنباطية قدمت تأطيراً نظرياً وتأصيلاً تاريخياً لنموذج الهوية الإماراتية، فإنه في الوقت ذاته ألقى الضوء على أبرز التحديات التي تواجهها، في مرحلة ما بعد النفط، وسعي الدولة لتحويل مواطنيها إلى رواد أعمال نيوليبراليين مكتفين ذاتياً، وهو ما يلقى ترحيباً عالمياً، بوصفه تطوراً واعداً في العالم العربي.
يأتي صدور الكتاب في لحظة شديدة الحساسية  يشهدها العالم، فصراع الهويات على أشده، ليس فقط بسبب الحروب المشتعلة في أكثر من مكان، بل بسبب استخدام طرائق ووسائل شتى لفرض هويات محددة لا سيما على الأجيال الجديدة، أو تمييع وتشويه هويات أصيلة، باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى التحولات والتغيرات المرتبطة ببروز جيل إماراتي جديد يؤكد حضوره على أرض الواقع يوماً بعد يوم، واختلاف سلوكه وذوقه وعاداته وتطلعاته وقيمه عن العادات والتقاليد والثوابت التي استقرت وتغلغلت في أفئدة الأجيال، وهو ما تتنبه له دولة الإمارات، وتضع لمواجهته استراتيجية لغوية رقمية وطنية موحدة ومتكاملة، تثري المحتوى الرقمي العربي، وتستشرف مستقبله، وتحافظ على الهوية الوطنية وتدعم روافدها وأسسها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى