د محمد بشاري يكتب .. مدونة الأسرة المغربية: تأصيل فقهي وتجديد تشريعي في ضوء المصالح المرسلة ومبدأ الكد والسعاية
يشكل تعديل مدونة الأسرة المغربية محطة بارزة في تطور التشريعات الإسلامية، حيث يعكس التوازن الدقيق بين الحفاظ على الثوابت الشرعية والاستجابة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية. ويمثل اعتماد مبدأ “لن أحلل حرامًا ولن أحرم حلالًا”، الذي أعلن عنه أمير المؤمنين الملك محمد السادس، إطارًا شرعيًا لهذا التعديل الذي يعزز من مكانة المرأة وحقوقها، دون المساس بجوهر الشريعة الإسلامية.
إن أبعاد هذا التعديل لا تقتصر على كونه جهدًا تشريعيًا محضًا، بل يتعدى ذلك ليكون تجديدًا فقهيًا أصيلاً مستمدًا من أصول الفقه المالكي، وبالخصوص المصالح المرسلة، التي تُعد من أهم أدوات الاجتهاد لتحقيق العدالة في كل زمان ومكان
يُعد الفقه المالكي أحد أكثر المذاهب الإسلامية مرونة وواقعية، حيث يتبنى أصولًا اجتهادية، مثل المصالح المرسلة، التي تُتيح معالجة القضايا المستجدة التي لا نص فيها، بما يحقق المصلحة العامة ويُراعي تطور المجتمعات. وقد استند المغرب إلى هذا الإرث الفقهي الغني لتطوير تشريعات مدونة الأسرة، مستلهمًا من اجتهادات فقهاء المالكية المغاربة الذين أسسوا رؤى اجتهادية عميقة تعكس روح الشريعة الإسلامية.
أحد أبرز المفاهيم التي أُعيد إحياؤها في التعديلات الجديدة هو مبدأ “الكد والسعاية”، الذي يعود بجذوره إلى الفقه المالكي، وتحديدًا إلى اجتهادات العلامة أحمد بن عرضون. هذا المبدأ يقر بحق المرأة في نصيب من الثروة المكتسبة أثناء الحياة الزوجية، بناءً على إسهاماتها، سواء أكانت مادية أو معنوية.
\
في كتابي “حق الكد والسعاية: مقاربات تأصيلية لحقوق المرأة في الإسلام”، عملت على تأصيل هذا المفهوم من الناحية الفقهية والشرعية، مع ربطه بواقعنا المعاصر. يُبرز الكتاب أن الشريعة الإسلامية، التي تكرّس العدالة فطططططططي جميع أحكامها، تُلزمنا بإقرار الحقوق المالية للمرأة الناتجة عن جهدها وعملها داخل الأسرة، وهو ما تم تطبيقه في تعديلات مدونة الأسرة.
اعتمدت مراجعة مدونة الأسرة المغربية على هذا المبدأ كإطار شرعي يضبط حدود الاجتهاد، حيث تضمن احترام النصوص القطعية، مع إفساح المجال لتكييف القضايا التي تقبل الاجتهاد وفق مقاصد الشريعة. ومن خلال هذا التوجه، استطاعت التعديلات أن تعالج العديد من القضايا التي ظلت عالقة لعقود، منها:
1. الاعتراف بمساهمة المرأة في الثروة المشتركة:
يمثل هذا الإجراء تطبيقًا عمليًا لمبدأ الكد والسعاية، الذي يُقر بأن الجهد المبذول من قِبل المرأة داخل الأسرة يُعادل العمل الخارجي.
2. حماية بيت الزوجية من الدخول في التركة:
جاء هذا التعديل لضمان استقرار الأسرة بعد وفاة أحد الزوجين، ومنع النزاعات التي قد تنشأ بين الورثة.
3. تنظيم ديون الزوجين المشتركة:
يهدف هذا الإجراء إلى تقنين العلاقة المالية بين الزوجين، بما يحفظ حقوق الطرفين.
4. تمكين الأم الحاضنة من الولاية القانونية على أطفالها:
خطوة تعكس تطور التشريعات لتلبية احتياجات الأسرة المعاصرة.
يمثل التحكيم المولوي الشريف في مراجعة مدونة الأسرة ضمانة شرعية ووطنية لإنجاح هذا المشروع الإصلاحي. إن مؤسسة إمارة المؤمنين ليست فقط الضامنة لثوابت الشريعة الإسلامية، بل هي أيضًا صمام أمان لجميع المغاربة، بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم.
لقد استطاعت إمارة المؤمنين أن توحّد الرؤى الشرعية والقانونية في إطار من التوازن، مما أنهى أي انقسامات أو خلافات أيديولوجية قد تعيق عملية الإصلاح. هذا التحكيم المولوي، المستند إلى عقيدة الأشعري وفقه مالك وطريق الجنيد السالك، يجسد رؤية عميقة لتحقيق مصلحة الأمة، ويؤكد أن التشريع الإسلامي قادر على الاستجابة لمتغيرات العصر.
لا يقتصر أثر هذه التعديلات على تحسين التشريع، بل يمتد إلى تسهيل عمل القضاء في معالجة النزاعات الأسرية. إن اعتماد مبدأ الكد والسعاية كإطار قانوني ساهم في:
• تقليل التناقضات في الأحكام القضائية.
• توفير إطار قانوني واضح يسهل تصوير النوازل وتكييف الأحكام.
• تعزيز العدالة داخل الأسرة من خلال حماية حقوق الطرفين.
هذه التعديلات تضع القضاء أمام نصوص واضحة ومنظمة، مما يُخرج العمل القضائي من حالة الارتباك الناتج عن غياب إطار قانوني دقيق في قضايا الأسرة.
تبرز التجربة المغربية في تعديل مدونة الأسرة كنموذج يُحتذى به للدول الإسلامية التي تسعى إلى تطوير قوانينها الأسرية. لقد أثبت المغرب أن الاجتهاد الشرعي، إذا أُحسن استخدامه، قادر على تقديم حلول عملية تراعي مقتضيات العصر دون المساس بثوابت الدين.
إن تعديل مدونة الأسرة المغربية يمثل تجديدًا تشريعيًا مستنيرًا يستند إلى أصول الفقه المالكي، وبالخصوص المصالح المرسلة، التي تُعد من أبرز أدوات تحقيق المصلحة العامة. وقد أسهمت مبادئ مثل الكد والسعاية في تعزيز حقوق المرأة وتحقيق العدالة داخل الأسرة، بما يتماشى مع مقاصد الشريعة الإسلامية.
في النهاية، يبقى التحكيم المولوي الشريف، بقيادة أمير المؤمنين الملك محمد السادس، الضامن الحقيقي لهذه الإصلاحات. إن مؤسسة إمارة المؤمنين ليست فقط حامية للثوابت، بل هي أيضًا الراعي للمصلحة العامة وصمام الأمان لكل المغاربة، بمختلف مشاربهم. هذا الدور الريادي يؤكد مكانة المغرب كدولة تجمع بين الأصالة والتجديد، وتقدم نموذجًا يُلهم العالم الإسلامي في تطوير قوانين الأسرة بما يحقق الاستقرار والعدالة.