رسائل في طريق السلام رؤية فكرية من منطلق القرآن الكريم / بقلم – المستشار أحمد عبد الله الوالي
الحلقة الثانية؛ صلاح الفرد يعني انتشار السلام
المحور الأول؛ محور النظر إلى الذات:
التغذية الروحية الصحيحة:
إن الله تعالى حينما خلق الإنسان خلقه لهدف عظيم، وهذا الهدف هو الخضوع التام لقانون السماء؛ الذي يكفل للشخصية الإنسانية سعادتها، ويحفها بعزتها وشموخها، وذلك كله من خلال اتباع المنهج السليم، والاقتياد للتعاليم الربانية.
ومن هنا كان على الإنسان دوما الاحتكام إلى العقل والعاطفة الإنسانية الصافية، وذلك لأنه بذهابه هذا المذهب يحمي نفسه من متغيرات الحياة المادية؛ التي من شأنها تقوية جانب المادة على جانب الروح؛ إذ أننا نحن المسلمين نعتقد اعتقادا جازما أن الإنسان كتلة متحركة تجمع عنصرين هامين لا تتحقق الحياة البشرية إلا بهما؛ هما الروح والجسد.
وإن النظر إلى الإنسان بهذا المنظار يختصر عليه مسافات شاسعة؛ لتوفير احتياجاته الوجدانية والمادية، دون تغليب جانب على جانب، فالروح لها متطلبات، والجسد كذلك، وطغيان جانب على جانب يؤد إلى خلل توازني في ضبط سير حياة الإنسان، فكان لزاما أن يعتني بروحه وبجسده، ولكن ليس اعتناء عبثيا؛ بل اعتناء ناتج عن صحة فهم فلسفة الحياة الإنسانية الحضارية السليمة.
وهذا الأمر أشارت إليه الفلسفة الأفلاطونية اليونانية؛ من خلال نظرية المُثـُل، فأفلاطون يرى أن العالم ينقسم إلى قسمين اثنين عالم المثل، وهو عالم غيبي لا يدرك بالحواس، وعالم الحس الذي يدرك بالحواس؛ والذي يعد انعكاسا تطوريا لعالم المثل، وبالتالي فإن الحياة الأرضية ستقبى في تطور مستمر؛ على قدر قوة استلهامها حقائق الغيب -عالم المثل-. وهذه الإشارات الأفلاطونية نستشف منها؛ أن الإنسان عنصر أرضي لا يمثل الحقيقة الإنسانية بجسده وحده، بل هناك أمر غيبي هو من جنس عالم المثل؛ التي تُحاكى على قدر العلم البشري؛ الذي لن يصل إلى درجة الكامل إلا بوصوله إلى عالم المثل.
وإن كان أفلاطون يقول ذلك؛ فهو بفعل غوصه في النظر في فلسفة الحياة الوجدانية والمادية؛ التي يهتدي إليها الإنسان بفضل ما أوتي من فطرة سليمة وعقل راشد. وإننا نجد في الإسلام أن الله تعالى خلق الإنسان من مادة أرضية هي الطين، ثم بعث فيه الحياة بالعنصر الثاني وهو الروح. قال تعالى:﴿الَّذي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسانِ مِن طينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسلَهُ مِن سُلالَةٍ مِن ماءٍ مَهينٍ ثُمَّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فيهِ مِن روحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَالأَفئِدَةَ قَليلًا ما تَشكُرونَ﴾ [السجدة: ٧-٩].
وهذه الآية تؤكد لنا التالي:
1– خلقُ الله تعالى يتميز بغاية الحسن والجمال.
2– عنصر بداية الإنسان الأب من الطين.
3– عملية تكاثر الإنسان عملية تزاوجية.
4– مادة خلق الإنسان الابن تدل على ضعفه الشديد، وعجيب قدرة الله تعالى.
5– الروح جانب مهم للحياة إذ بدونها لا يمكن أن يستفيد من سمعه ولا من بصره ولا من كمال تسويته.
وبالنظر السليم إلى ماهية الإنسان؛ فإنا نستطيع أن نمشي بخطى حثيثة نحو إخراج الإنسانية من ضنك العيش الذي يسيطر عليها، ويجعلها أسيرة للمادة وحدها، وهنا أستحضر كلمة للمفكر البوسني الرئيس علي عزت يرحمه الله تعالى؛ إذ يقول: “التطور بطبيعته.. لم يستطع أن ينتج إنسانا وإنما حيوانا مثاليا، أو أنه جُعل كذلك ليصبح عضوا في مجتمع..إن الإنسان بصفة أساسية هو عنصر روحي وليس عنصرا بيولوجيا أو اجتماعيا”. ويقول: “قضية أصل الإنسان هي حجر الزاوية لكل أفكار العالم. فأي مناقشة تدور حول كيف ينبغي أن يحيا الإنسان، تأخذنا إلى الوراء إلى حيث مسألة أصل الإنسان“.
والناظر في حضارة المسلمين الطويلة؛ التي ما زالت آثارها حية شاهدة لهم بحيوية نتاجهم وحفظهم للحياة البشرية قرونا طويلة، يستشف نظرهم الثاقب لطبيعة الإنسان بعنصرية الروحي والمادي، واهتمامهم بتغذيتهما تغذية ذات مصدر سليم.
حقيقة الروح وطريقة تغذيتها:
إن أعلى درجات الصفاء في الإنسان، هي درجة الانبعاث الوجداني؛ التي تستوقفه في خلوة من خلواته، وعندها يستطيع أن يدرك أن الجسد وحده لا يعبر عن كنه الإنسان أبدا.
وإن الحديث عن الإنسان وأصله عملية تفكيرية صعبة، لن توصل المفكر إلى الحقيقة السليمة، دون أن يكون هناك تدخل مباشر من خالق الإنسان، وذلك أن الإنسان حينما يفكر بمعزل عن الوحي الرباني فإنما هو يبحث عن نفسه في فضاء بعيد عن ماهيته، ومثله مثل الذي يبحث في لوح أسود عن نقطة سوداء، أو في لوح أبيض عن نقطة بيضاء.
وقد كفان الله تعالى البحث عن ماهية تكوين الإنسان بعد العنصر الطيني؛ فقال: ﴿ثُمَّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فيهِ مِن روحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَالأَفئِدَةَ قَليلًا ما تَشكُرونَ﴾ [السجدة: ٩]. وإني هنا أتساءل ثلاثة أسئلة هي:
1– ما شأن هذه الروح؟.
2– ما كنهها؟.
3– ما غذاؤها؟.
الإجابة:
1– أما عن شأنها فهي قادمة من عالم الملكوت العلوي.
2– وأما عن كنهها فهو أمر غير معين ولا يمكن أن نصل إليه لخفاء أمرها، وغاية ما يمكننا هنا هو أن نعرف أنها أمر من الله تعالى.
3– وأما عن غذائها؛ فما دامت أنها من العالم العلوي، ومن أمر الله تعالى فغذاؤها الوحي الرباني.
يقول الله تعالى: ﴿وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلًا﴾ [الإسراء: ٨٥].
إن العلم الذي بين أيدينا لن يمكننا من الوصول إلى معرفة أسرار الروح، فالآية جمعت بين التوجيه إلى سر الروح وبين قلة العلم المعطى للبشر، ليقف الحديث عن تفاصيل الروح، ويبدأ الانشغال بتغذيتها. وأعظم غذاء لها -بل هو الأوحد في شأنها- هو ما نزل من العلو الذي نزلت منه، ألا وهو الوحي الرباني؛ الذي أحاطها بكل ما تحتاجه لتقوم ببدن صاحبها القيام السليم، قال الله تعالى:﴿وَكَذلِكَ أَوحَينا إِلَيكَ روحًا مِن أَمرِنا ما كُنتَ تَدري مَا الكِتابُ وَلَا الإيمانُ وَلكِن جَعَلناهُ نورًا نَهدي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهدي إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢].
ومن خلال هذه الآية والتي قبلها فإننا نستشف التالي:
1– وجود أمر خفي في جسم الإنسان يقوم به إلى الأعلى هو الروح والذي إذا نزع سقط الإنسان. وبوجوده يكون حيا وبعدمه يكون ميتا.
2– الوحي الذي أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو روح من أمر الله تعالى. وقد جعله الله تعالى نورا يغذى به الجانب الروحي في الإنسان.
3– الهداية التي يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هي طرق مستقيم لتحقيق السلامة والسلام.
ومن النقاط السابقة نعرف أهمية تغذية الروح بالطريقة الصحيحة السليمة، وبالتالي يستطيع الإنسان أن يقف على الطريق السلام، وإذا وقف عليه بهذه الكيفية فإنه سيكون برنامجا عالميا لتغذية الحياة أينما حل وارتحل.