الأخبارمقالات و تحليلات

شبكات التواصل وسيكولوجية الجماهير د.عبدالله بن موسى الطاير

وكأنك تجول في مدينة جميلة، تنتقل من حي إلى آخر بمتعة اكتشاف الأمكنة، وفجأة تأخذك خطاك إلى الممرات الخلفية والأحياء المهمشة، فتجد نفسك تنسى لحظات الجمال والمتعة التي عشتها للتو، وتغشاك مشاعر الخوف على حياتك، وتتملكك رهبة المكان وساكنيه، ويخيل إليك أن فسحة العالم قد ضاقت إلى الحد الذي لا ترى فيه سوى مجموعة من الهمج، والمدمنين، والمجرمين، والمستهترين الذين يرون فيك فريسة سهلة.

شبكات التواصل الاجتماعي لا تختلف عن هذه التجربة كثيراً، فتغريدة جميلة على منصة X، ومتابعين يشبهونك في التفكير والاهتمام، تشعرك بالراحة والاطمئنان، حتى تجد نفسك على حين غرة تدلف إلى المساحات المظلمة؛ متابع يندس خلف اسم مستعار، أو مهايط جاء إليك من عالم مختلف عن عالمك، أو مختل عقليا أو نفسيا يوسعك شتما وقذفا على شيء قرأه لك ولم يفهمه، والأدهى والأكثر إيلاماً من ذلك العملاء المستأجرون والمكلفون بالقمع وتسفيه الأحلام والتهديد أو التلويح به.

يقول جون كوبر، المستشار القانوني للملكة البريطانية الراحلة:»إن الغالبية العظمى من الأشخاص الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي هم مثل المجتمع؛ معظمهم أناس محترمون، أذكياء، وملهمون، المشكلة تأتي من أقلية صغيرة، كما هو الحال في المجتمع، الذين يفسدون الأمر على الجميع».

كنت أحسبني متصالحا مع البيئة التي أتردد عليها في منصة X، حتى وجدت نفسي صدفة اطلع على مواد ربطتها الخوارزميات بمهرجان الملك عبدالعزيز للإبل، تلك المبادرة الأصيلة، التي تصل الأجيال ببعضها، وتقدم منصة للتنافس والترفيه تخلب ألباب المهتمين بالإبل، لكن هذا المجتمع لم يسلم من فئة قادرة على إفساد كل شيء، فما قرأته وشاهدته حول النعرات القبلية والجغرافية يتعاظم ليوشك على إفساد الفكرة النبيلة للمهرجان لولا قوة أجهزة تطبيق النظام.

لا يجب أن ننظر لرواد شبكات التواصل الاجتماعي بمعزل عن سيكولوجية الجماهير لجوستاف لوبان، حيث تتحول منصات التواصل الاجتماعي المفتوحة إلى ميادين تجمُع افتراضية، تحشد فيما بينها، وتهيج المشاعر، وتستدعي الحمية القبلية، والنزعات الطائفية، وفي لحظة حاسمة تدفع بها «شيلة» أو قصيدة إلى الميادين والشوارع، وعندها تكون كالسيل الهادر الذي يجتاح ما يقف في طريقه.

تسمح الطبيعة المفتوحة لهذه المنصات بالانتشار السريع للمعلومات الكاذبة أو المضللة، والتي غالبًا ما تكون مصممة للتلاعب بالرأي العام أو بث الفتنة، وهذا يمكن أن يخلق ارتباكًا، ويؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات، ويغذي الاضطرابات الاجتماعية. وكما أنا وغيري ننجذب نحو الأفراد والمجموعات ذات التفكير المماثل على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يعزز معتقداتنا ويحد من التعرض لوجهات نظر غوغائية، فإن الطرف الآخر يتشكل ضمن دائرة التماثل في التفكير والاهتمام مما يؤدي إلى زيادة وتيرة تعرض البسطاء إلى المعلومات التي تؤكد تحيزاتهم، وتحفز حماسهم، مما يجعلهم أكثر عرضة للتلاعب بهم. ومع الوقت قد يؤدي هذا المجتمع الذي تشكل على الهامش إلى تكريس تصور مشوه للواقع، وتطبيع الأيديولوجيات المتطرفة، والنعرات السامة، فتزداد حدة الاستقطاب الذي عصف بالاستقرار الاجتماعي لكثير من البلدان، كان آخرها المملكة المتحدة التي عانت بعد فوز العمال بالانتخابات العامة من ردود فعل اليمين.

لقد أصبح من السهولة ومن أجل اشتراك مالي شهري أن تحصل على علامة توثق حسابك الوهمي، وهو ما زاد من انتشار المعلومات المغلوطة على وسائل التواصل الاجتماعي وقوض الثقة في المؤسسات التقليدية مثل وسائل الإعلام والخبراء، وسهل على الجهات الخبيثة نشر رواياتها والتلاعب بالرأي العام عن طرق تعزيز التحيزات القائمة والحد من التعرض لوجهات النظر المتنوعة.

لا أعتقد أنه سيفهم من هذا الطرح أنني ضد شبكات التواصل الاجتماعي، فهي حقيقة ماثلة ومفيدة بدون شك، إلا أنها خلقت مجتمعات وقناعات وولدت سلوكيات قد تضر بالمجتمعات، ولذلك فلابد من تحميلها المسؤولية عن المحتوى الذي تستضيفه والخوارزميات التي تستخدمها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى