طَحين وحِطّين / عبد الناصر بن عيسى
عندما تشاهد بألم عشرات الآلاف من الفلسطينيين في طابور جوع، لأجل الحصول على كمية من الطحين العابر للقارات من الذي “تصدّقت” به بعض الدول، حتى كادت يسارها تعلم به يمينها وكل أعضاء الجسم، لا بدّ من أن تتساءل إن كانت هذه الأمة، التي ترضى لإخوانها بطحين الذل، هي فعلا من سطّرت معركة حطّين التي طحنت بها الذين استولوا على بيت المقدس، منذ تسعة قرون، أم إننا نعيش ردّة كبرى، ولا صِدّيق لها؟
لا يُمكن أن تُستفزّ الأمم في كرامتها كما حصل في الحرب المعلنة على الفلسطينيين في غزة، ولا يمكن للعدوّ، أي عدوّ، أن تكون له الجرأة إلى هذا الحدّ، كما حدث في العدوان على غزة، ومع ذلك بقيت الأمة نائمة، وبقي العدوُّ يرتكب الجرائم ويعيث فسادا، إلى أن بلغنا شهر الجهاد والشهادة، وما تغيّر شيء، ماعدا أرقام الشهداء الفلسطينيين وأرقام أيام الدمار والتهجير والتجويع.
يروي التاريخ في عز معركة حِطّين التي استرجع فيها المسلمون بيت المقدس، كيف أن صلاح الدين الأيوبي كان يهدف إلى الاستيلاء على إحدى القلاع التي يتملكها “رينالد دي شاتيون”، القائد الغدّار الذي كان يترصّد الحجيج ويستولي على أموالهم ويقتلهم، وعندما باشر صلاح الدين حصاره للقلعة وقصفها بالمنجنيق، صادف زمنُ المعركة حفل زفاف كبيرا، حضره الصليبيون من كل مكان، فاستغاثت والدة العريس بصلاح الدين، بعد ما بلغها عن إنسانيته وأخلاقه، وأرسلت له صحونا من الطعام، تؤكِّد له أن القلعة تعيش حدثَ عرس ابنها، فسألها صلاح الدين عن البرج الذي يقام فيه العرس، ومنع قصفه، وأمر بتفاديه، وحقَّق نصره الكاسح واستولى على القلعة وحرّر بيت المقدس، وأكرم الأسرى حتى اعتنق غالبيتُهم دين الإسلام واعتنق معهم العريس وأمه.
وبقي بيت المقدس في أيدي المسلمين يقدِّم أسمى صور التسامح، إلى أن قررت بريطانيا الصليبية غرس الكيان اليهودي، لتتكفل أمريكا الصليبية أيضا بحمايته، وتنقلب تلك الصور الإنسانية التي قدمها صلاح الدين الأيوبي، رأسا على عقب، في حرب قتلوا فيها البراءة من دون رحمة وحوّلوا الأعراس إلى مآتم، فلا استغاثة هند ولا عائلة الدحدوح ولا مرضى المستشفيات وجدت من يرأف بها، فما بالك بالذين برمجوا أو أرادوا إكمال نصف دينهم.
يخطئ من يظنُّ أن صور طوابير الطّحين المُذلّة، إنما هي إهانة للمسلمين في شهرهم العظيم فقط، بل هي إهانة لمرتكبي الجرائم وللعالم -الذي يزعم التحضُّر- بأسره، ويخطئ من يظن بأن ما قام به صلاح الدين الأيوبي في حطين، إنما هو صفحة في كتاب التاريخ، قُلّبت أو مُزِّقت، فأداء المقاومة الفلسطينية برجالها الأبطال منذ خمسة أشهر ونصف شهر، إنما استمدّت من بطولات صلاح الدين، ولأن من سار على الدرب وصل، فإن وصول المقاومة سيكون الآن أو بعد حين، وما حققه صلاح الدين الأيوبي بالجهاد والاجتهاد، سيحققه ضيف ويحيى وإسماعيل وإخوانهم، طال الزمن أم قصُر..بل سيقصُر هذه المرة.
الشروق أونلاين الجزائرية