الأخبارالصدى الثقافيمقالات و تحليلات

في بريد الإستقلال / السيد محمد حماه الله

السيد محمد حماه الله

إن الإستقلال والتحرر هما أساس كيان الأمة وقوامها الذي عليه تبنى وترتفع تمايزا عن غيرها من الشعوب والأمم ذاتا يشار إليها بشخصيتها وخصوصيتها الثقافية والتاريخية والحضارية
فلا أمة إلا بإستقلال وهوية متميزة تعبر عن كينونتها وفرادتها
ونحن في هذه الأيام نحتفل شعب موريتانيا بذكرى إستقلالنا الرابعة بعد ستة عقود من قيام دولتنا الوطنية وطرد جند المستعمر الفرنسي
مناسبة كبيرة للإحتفاء والتبجيل لذاتنا المنتصرة تجاه أشكال التعدي والإستغلال ومع عظمة نشوة الإنتصار لابد من المراجعة والمساءلة
بعد ستة عقود ونصف من الزمان
أين نحن اليوم من السابع والعشرين من نوفمبر 1960
ماذا تغير
وماذا أنجزنا مما كافحنا من أجله كثيرا منذ أن وطئ جند فرنسا تراب البيظان مستعمرين كما يزعمون مستخربين كما هي الحقيقة وان تباينت وجهات النظر تجاه هذا الزعم الذي له من الحجج ما يجعله يقينا مؤكد
ماذا تغير
وماذا أنجزنا

كنت دائما ما أفتخر وانا الشنقيطي المغترب المنشأ أن أهلي هم الوحيدون الذين لم تكسر فرنسا قناة هويتهم وإعتزازهم بأنفسهم فأرض المنارة والرباط أعتصمت بمحظرتها في وجه هجمات التفرنس والتغرب الممنهج الذي درجت عليه فرنسا في كل مستعمراتها وهو أمر له كثير من الشواهد ويكفي فيه أن موريتانيا تكاد تكون هي الدولة الوحيدة التي قاومت الاستعمار عسكريا وثقافيا وكان لكل فرسانه ما بين السنان والبيان
الكدية والمحظرة
المدفع والقلم
الأمير والطالب
سيدي ولد عبدوكة وبكار ولد سويد احمد واحمد ولد فراري وولد احمد عيدة جنبا الى سيدي ولد مولاي الزين ومحمد محمود ولد الغزواني ومحمد الأمين ولد زيني والشيخ ماء العينين
المقاومة الثقافية كانت إبداعا موريتانيا بإمتياز هذا الشعب الذي تكور على هويته درعا واقيا تجاه كل أشكال الإستلاب والتفسخ الهوياتي راسما أعظم لوحات الإعتزاز والإباء
وعلى عظم ما رسخته لوحة الصمود العظيمة للموريتانيين في وجدان صبي ما زال يتلمس خطاه في أقصى جنوب المشرق العربي كانت الصدمة الكبيرة حين خطوت أولى خطواتي في أرض الأجداد النبلاء (كما تعني مفردة موريتانيا في اللاتينية القديمة) وانا لا أجد أحد يتكلم بكلمتين إلا تكون إحداهما فرنسية وكثير من أشكال التعبير لا تجدها إلا فرنسية في بلد المليون شاعر حافظة الإسلام وذخيرة العروبة في لحظات التدهور الحضاري
موريتانيا التي ينظر إليها في المشرق أنها حرز الأمة المصون الذي لا تطاله أيدي التغريب والتبعية
صدمة مذهول لا يصدق ما يعايش ويرى
هذه فردوس الإسلام والعروبة الذي نتغنى به
ترطن بكلام الفرنجة وتعلم بكلامهم أيضا والى عهد قريب كانت كل دواوين الدولة تتعامل بالفرنسية
أين هذا الإستقلال إذن
ولماذا أخرجنا فرنسا ونحن نتمسك بذيولها
بل نريد أن نكون نسخا (وربما أمساخا) منها
في 28 نوفمبر 1960 ربما تحررت الأرض (ولو نسبيا) لكن لم يتحرر الإنسان بعد

لم يتحرر الشنقيطي بعد
لم يتحرر المرابط بعد
لم يتحرر الموريتاني بعد

أسست الدولة ولم يتأسس الفكر الذي يغذي روح الإستقلال ويجسد ويرسخ الهوية في لا وعي فاعل البلاد
لم تتأسس الثقافة كإستعادة روحية للأمة بما تتميز تختص به لنفسها وتدلي بدلوها في مسيرة التقدم الإنساني
فلا إستقلال بدون تحرر الفكر من الاغتراب والاستلاب
ولا إستقلال بلا تمكن الثقافة وسيادتها
فالفكر والثقافة هما ما يعكسان ويؤكدان قيمة التحرر وبإنتفائهما ينتفي الإستقلال ويكون بلا معنى كما نعايش للأسف لأن بإستقلال شعوبنا المزعوم حملنا عن الغرب مؤونة وكلفة الإستعمار المباشر الى الإستعمار بالوكالة الذي هو أخطر من إستعمار الجيوش والحكومات إذ أننا تقربنا بوجداننا وهويتنا وشخصيتنا في محراب الغرب نسبح بحمده نقتل أنفسنا في رضاه لتتضاعف خسارتنا بدل الإستعمار المباشر الذي كان فيه المستعمر وإن تمكن منا اخر مغاير لنا نقاومه وندافعه ونعتز بهويتنا تجاهه
لكن للأسف نحن في عصر لم يعد مستعمرنا عدو يرى يمد عداوته بإغتصاب أرضنا والتحكم بها وإستغلال خيراتنا وثرواتنا وتقليل كرامتنا وتحجيم ثقافتنا وتراثنا القيمي والحضاري
الإستعمار اليوم لم يعد ينحصر في هذا التصور الذي هو على بشاعته إلا أنه أكثر رأفة بنا من ذبحنا لأنفسنا في غواية المستعمر الذي تمكن وتجذر وتعددت صوره وأساليبه وأشكاله من خلال تركيزه وتصويبه على بناء المستعمر المهزوم نفسيا المكون على عقدة النقص والدونية الذي يقتل نفسه ويمحق ذاته ليكون تابعا للغرب يفكر بمصالحهم وينظر بمنظارهم ولا يرى إلا ما يرون دافعا نفسه ان يكون من غزية العولمة والتغريب حتى في تحدياته واشكالياته تجده مغتربا عن نفسه وواقعه منعزلا عن محيطه غارقا في هوامش فتات الحضارة الغربية في شيخوختها
فربما طالعنا شيخ يتوكأ مدفعه حاملا مصحفه مرابضا على ثغور هويته ودينه من أواسط القرن الماضي وينظر الى ما انتهى إليه إستقلالنا لتنهد آسفا
ليتهم لم يستقلو

ليت
وليت يقولها المحزون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى