الأخبارالصدى الثقافيمقالات و تحليلات

قراءة فكرية لإشكالية الدين والدولة من منظور محمد عابد الجابري (2) / السيد محمد حماه الله

السيد محمد حماه الله

انتهينا في الجزء الأول من هذه القراءة الى إعتماد الجابري لعمل الصحابة كمنهج يؤسس عليه بناء النظرية السياسية في الإسلام متضمنا مجموع ممارساتهم السياسية والتشريعية العملية والقولية مما يجعلنا أمام تجربة تاريخية ممتدة زمانيا ومكانيا بكل تبدياتها الثقافية والإجتماعية ومن هنا ينتهي الجابري الى استخلاص تجربة الصحابة في خمسة حقائق :

 

الحقيقة الأولى : أن العرب لم يكن لهم نظام سياسي جامع ولم يكن لهم ملك ولا دولة كأرض ذات حدود معلومة وجماعة من الناس وسلطة مركزية تنوب عن المجتمع في الإدارة وفقا للقوانين والشرائع والأعراف المنظمة للمجتمع وتحتكر العنف

 

الحقيقة الثانية (الأهم) : مع البعثة المحمدية بدأ المسلمون يمارسون الدين ليس كموقف فردي إزاء الرب المعبود (الله) وإنما كنظام إجتماعي منظم تتداخل فيه العلائق ما بين الله والفرد والمجتمع فالفعل السياسي أضحى معادلة تطلب الرشد والإصلاح وفق ما يرضي الله

وقد كان هذا السلوك يتسع ويزداد تنظيما مع تطور الدعوة الإسلامية الى أن بلغ ذروته في المدينة “دولة المدينة”

ومع أن الرسول فعليا كان القائد والزعيم السياسي للمجتمع الناشئ إلا أنه كان يرفض رفضا باتا أن يسمى ملكا أو رئيس دولة وكان يعتبر نفسه كما يعتبره المسلمون “رسولا نبيا” والفرق بين الوضعيتين هو أن الزعيم السياسي يقصر إهتمامه على شأن الدنيا وحدها شؤون الحكم والسياسة وما يرتبط بهما من أمور اقتصادية واجتماعية يؤول أمرها وتنتهي الى تدبير الوجود البشري جلبا للمصالح ودفعا للمفاسد

أما النبي الرسول فهو يركز دعوته وإهتمامه على كل ما سبق في موازنة تحدد وفق المصير وما بعد الدنيا على اليوم الأخر على تنظيم الحياة بين حق الله (العبادات) ولازم الإجتماع (المعاملات) وايضا ما يقتضيه العمل على نشر الدعوة وتوطيد أركانها والعلاقات مع الديانات والملل الأخرى مدافعة ومسالمة

 

الحقيقة الثالثة : تطور الدعوة قد أدى في النهاية بحكم الأمر الواقع وتبدل موازين القوة الى دولة أو شبه دولة وقد أدرك الصحابة أن غياب الرسول سيترك غيابا مؤسساتيا (فراغ دستوري) فإذا كانت النبوة اصطفاءا من الله (فضل الله يؤتيه من يشاء) لا يمكن لأحد أن يرثها عن رسول الله فإن التنظيم السياسي والاقتصادي والإجتماعي القائم والذي نما بنمو الدعوة لابد من الحفاظ عليه بطريقة تنظم فيه هيكل القيادة والممارسة السياسية التي تعمل لصالح الجميع وبما أن طور النبوة قد انتهى بارتقاء رسول الله  الى الرفيق الأعلى فإن البناء السياسي الذي سيخلفها سيحتكم أو في جزء منه الى شروط السياسة بمنطق المحددات الظرفية التي يتقرر وفقها الأنفع والأصلح

مع حقيقة ان التنظيم القائم لم يكن ملكا لنفور الرسول من هذا الوسم المدان دينيا في القرآن والسنة (دائما ما يذكر الملك في مقابل النبوة مقابلة نفي وتضاد) بإعتبار أن الملك لله وحده ولا مالك (ملك) في الوجود إلا الله سبحانه و تعالى

الملك متعلق بالله سبحانه و تعالى أما غيره فلا يكون إلا قيما على أمر عظم هذا الأمر أو انحصر فالملك أو الرئيس حسب الطرح الإسلامي ما هو إلا ولي أمر ( أولي الأمر منكم) من باب تسمية الشئ بوظيفته فوظيفة رئيس الدولة هي (إصدار الأوامر)

فالحاكم أمير وما روي من أدب سياسي في العصر الأول من الإسلام لم يكن يعرف إلا الإمارة خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الأنصار لنفر المهاجرين الذين لحقوهم في السقيفة منا أمير ومنكم أمير

 

الحقيقة الرابعة : القرآن تحدث مرارا وبوضوح عن الأمة ولم يتحدث إطلاقا عن الدولة ككيان سياسي ناظم لجماعة الناس وحتى المرات القليلة التي ذكر فيها الدولة أو مشتقاتها في القرآن كانت دلالة على التداول والعقبى في المال

اما الكيان السياسي والاجتماعي القائم على دعوة الإسلام فإن القرآن يصطلح عليه بتعبير الأمة أمة الإسلام (كنتم خير أمة أخرجت للناس )

وبما أن القرآن قد قرر تشريعات وحدود حرم وحلل وفرض فروضا منها ما يقوم به المرء بنفسه ومنها ما هو عمل جماعي ومنها ما يحتاج في تنفيذه الى سلطة وقوة متحكمة نافذة الأمر والسطوة نيابة عن الأمة ولاية للأمر تلتمس شرعيتها من متابعة القرآن كنص مؤسس يحكم اجتماع الأمة المسلمة التي جعل ولي الأمر فيها قيما على شأن الجماعة بعقد بيعة ثلاثي بينه والامة والله الذي ألزم بطاعة من يتولى أمر الجماعة ما دام في طاعة الله والرسول (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)

كما ندد القرآن بالاستبداد والإستكبار وأثني على الشورى والأمانة والعدل (الذين استجابو لربهم واقامو الصلاة وأمرهم شورى بينهم) لكن مع ذلك لم ينص على أن أمة الإسلام يجب أن يتطابق معها ملك الإسلام أو دولة الإسلام

ولم يعين خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم في تدبير شؤون الأمة والدعوة (خلافا لوجهة النظر الشيعية التي تقول بتعيين الإمام)  وإن كان وضع محددات تأهيلية وشرعية يجب توافرها في شخص الإمام لكنه ترك تحديد شخص الإمام للأمة فهو ولي الأمر(منهم) لا عليهم

بل هناك من منظري الإسلام المعتبرين من لم يعتبر قيام الدولة ضرورة إذا تحققت الفضيلة الذاتية للجميع وسؤال الحكم يعتبر من بين المصالح التي يراعى فيها التحولات الظرفية والموازنة بين الحوجة والمقصد مداراة ومدافعة يحكمها وينظمها قول المصطفى عليه افضل الصلاة والسلام : ( أنتم أدرى بشؤون دنياكم )

 

المصدر : الكاتب / جريدة الصدى الموريتانية الورقية الصادرة هذا الاسبوع 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى