ما بعد العصر الديمقراطي / د. السيد ولد أباه
تساءلت صحيفة «فايننشال تايمز»: هل دخل الغرب مع العام المنصرم (2017) عصر الشعبوية «ما بعد الديمقراطية»؟ معتبرة أن كل الانتخابات التي نظمت في الفترة الأخيرة في أوروبا نجحت فيها الأحزاب الشعبوية باستثناء فرنسا التي صعد فيها التيار اليميني المتطرف إلى الشوط الثاني من الاقتراع.
رئيس الوزراء المجري «فيكتور أوربان» احتفى بهذا المنعرج الذي أطلق عليه لفظ «الديمقراطية غير البرلمانية»، ويعني به فصل النظام التعددي الانتخابي عن القيم الحداثية التنويرية التي تشكل الإطار القيمي للديمقراطيات المعاصرة، داعياً للعودة إلى الهوية المسيحية التقليدية التي هي عماد الخصوصية الثقافية الأوروبية.
العبارة نفسها استخدمت في روسيا بديمقراطيتها «السيادية» حسب عبارة الرئيس «بوتين» التي تعني إخضاع المجتمع لسلطة الدولة المطلقة الحارسة لهوية الأمة والمجسدة لخصوصيتها الحضارية المتعالية على التنوع السياسي والحزبي. في تركيا حالة مماثلة بعد أن أفرغ «أردوغان» النظام الديمقراطي من مضمونه الليبرالي التعددي واستخدم الهياكل المؤسسية القضائية والإدارية لتصفية خصومه السياسيين.
الديمقراطيات غير الليبرالية تمددت إلى عدد من دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا وتشيكيا، ووصلت مؤخراً إلى النمسا، وهي في عمومها تتميز بسمتين كبيرتين:
أولاهما: الدور المحوري للزعامة الفردية إلى حد شخصنة النظام السياسي من منظور فكرة «الشخص -الأمة»، أي تجسيد القيادة الحاكمة لروح الشعب، وهي مقولة لا تتناسب مع المنظور الليبرالي القائم على الهوية القانونية التعاقديّة للجسم السياسي المنظم. إن هذا التحول الجوهري يتعلق بدلالة فكرة «التجسد» نفسها التي تعني في الديمقراطيات الليبرالية تعبير الدولة، من حيث هي منظومة سياسية مدنية، عن الهوية الجماعية المشتركة، في حين أصبحت في الأنظمة الشعبوية مرتبطة برمزية فردية تلتقي حولها مختلف مكونات المجتمع على تمايزها واختلافها. النتيجة الكبرى لهذا التحول هي تحوير نوعي في مفهوم الهوية نفسها، بتحولها من النموذج الاجتماعي إلى النموذج الثقافي (القومي والديني) بما يترجم أيديولوجياً بالخروج على منطق التنوع والصراع السائد في الحقل الاجتماعي، بما يولده من حاجة إلى آليات تمثيل سياسي تعددية، إلى منطق التجانس والتكتل والتوحد، بما يحتاجه من نقل التصادم والمواجهة إلى الآخر (ومن هنا العداء للمهاجر واللاجئ والأقليات الدينية والعرقية)، ولا تختلف هنا الشعبويات اليمينية عن الشعبويات اليسارية التي حكمت جل بلدان أميركا الجنوبية، ومن أهم من بلور خط «الشعبوية اليسارية» الفيلسوف الأرجنتيني «إرنستو لاكلو» الذي اعتبر أن المجتمعات المعاصرة خرجت من الصراع الطبقي الاقتصادي الذي وصفه «ماركس» في القرن التاسع عشر إلى صراع بين الأوليغارشيا المالية وبقية الأطياف الاجتماعية التي يجب عليها الائتلاف في شكل هوية شعبية مشتركة لمواجهة تحكم القوى المعولمة المهيمنة (يتبنى حزب بوديموس الإسباني الصاعد هذه الأفكار، وكذا حركة «فرنسا المتمردة» في فرنسا).
ثانيتهما: الانتقال من نموذج الأحزاب السياسية التقليدية التي عبّرت تاريخياً عن الحركية الاجتماعية الأيديولوجية الثابتة إلى نمط «الحركة الشعبية» ذات الإيقاع الحدثي السريع الذي قد لا يتجاوز ردود الفعل الظرفية أو المرحلية الانتخابية، بيد أنها أثبتت فاعليتها العملية كما بينت تجربة «برلسكوني» في إيطاليا و«ماكرون» في فرنسا.. ما نشاهده بوضوح هو انهيار الأحزاب السياسية الأوروبية العريقة التي تتمحور حول عائلتين سياسيتين كبيرتين، اليمين الليبرالي المحافظ، واليسار الديمقراطي، بما يعني انحسار الوسائط الاجتماعية التي بلورتها النظم الليبرالية بين دائرة الإرادة الفردية الحرة والدولة بمفهومها الكلي المشترك، وهكذا أصبح من الطبيعي إعادة إنتاج الهويات العصبية والقومية والدينية لسد هذا الفراغ المؤسسي، بالإضافة إلى الهويات الجزئية الجديدة المغلقة المستندة للمدونة الحقوقية لا منطق الاندماج الاجتماعي المشترك.
النتيجة الأساسية لهذا التحول هي تغير الآلية الانتخابية نفسها التي لم تعد الأداة الإجرائية الأساسية في العملية السياسية، بل فقدت جانباً كبيراً من قوتها الشرعية لتراجع كفاءتها التمثيلية، ومن هنا الميل المتزايد إلى الاستفتاءات الشعبية والاستحقاقات الانتخابية المبكرة والتحالفات الحزبية المؤقتة للتأقلم مع الزمن السياسي الجديد الذي لم يعد يتلاءم مع الزمن الانتخابي الطويل. وكل عام وأنتم بخير.