مقالات و تحليلات

مروحية الرئيس تسقط فوق عمامة الولي الفقيه / بقلم : البراق شادي عبد السلام

البراق شادي عبد السلام

المصدر : الكاتب /

نتفق جميعا على أن مصرع إبراهيم رئيسي بحادث مروحية وخلو منصب الرئيس في نظام الولي الفقيه لا تأثير مباشرا له على سير مؤسسات الدولة في إيران، فالرئيس ترتيبه الثالث في هرم السلطة بطهران، بعد رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام صادق لاريجاني والمرشد الأعلى للجمهورية آية الله علي خامنئي، لكن هذا الحادث يعيد مرة أخرى طرح إشكالية “الخلافة” وسؤال “انتقال السلطة” في نظام تحكمه مؤسسة المرشد الأعلى للثورة بيد من حديد منذ أكثر من أربعة عقود.

 

لذا تحييد الرئيس إبراهيم رئيسي رجل التوافقات بين مختلف أذرع النظام المتصارعة وبشكل خاص التيار الأصولي المتشدد في حادث المروحية يخدم مصلحة رجل واحد في إيران هو مجتبى خامنئي أحد الأبناء الأربعة للمرشد والأكثر قربا لجنرالات الحرس الثوري والمخابرات الإيرانية والمقرب جدا من رجل الدين المتشدد أحمد جنتي رئيس مجلس خبراء القيادة وهو الهيئة الأساسية في النظام الإيراني الذي عهد إليه الدستور مهمة تعيين وعزل قائد الثورة الإسلامية في إيران.

 

فكما هو معلوم، إبراهيم رئيسي كان من أبرز القيادات الإيرانية قربا لمنصب الولي الفقيه حيث استطاع طوال مساره في هياكل النظام الإيراني أن يجمع حوله مجموعة من العناصر المتشددة والمتطرفة في رسم السياسة الخارجية الإيرانية، وبرفعه لشعار محاربة الفساد ووضع مسافة مع العديد من المصالح المتداخلة في النظام الاقتصادي الإيراني الذي يشكل مجالا للمنافسة بين مؤسسة “خاتم الأنبياء” الذراع الاقتصادية للحرس الثوري الإيراني التي يديرها الجنرال عبدالرضا عابد اليد اليمنى للجنرال حسين سلامي قائد التنظيم ولجنة تنفيذ أوامر الإمام الخميني (ستاد) الذراع الاقتصادية لمكتب المرشد الأعلى التي تنشط في المجال الخيري وتبلغ القيمة الإجمالية لأصولها أكثر من 95 مليار دولار ويترأسها نائب الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي والرئيس الحالي محمد مخبري منذ 2009.

 

الصراع بين أجنحة النظام الإيراني ليس جديدا لكنه اليوم سيأخذ أبعادا متعددة في ظل وضع إقليمي دقيق يقترب بشكل رهيب نحو المواجهة المفتوحة بين طهران وتل أبيب، لذا فحادثة مقتل الرئيس ستكون فرصة أمام مختلف الأطراف داخل إيران لاستخدامها من أجل تحقيق مكاسب سياسية وتنظيمية في ظل نظام ثيوقراطي لا يؤمن إلا بأوامر الولي الفقيه باعتبارها أوامر إلهية كما صرح خامنئي في زيارة سابقة لعائلة الجنرال قاسم سليماني القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني بالحرف: “لقد كان لساني، ولكنه كلام الله”. مما أثار العديد من ردات الفعل داخل إيران وخارجها. وأي شخص يتحدى سلطة المرشد الأعلى يكون مصيره السجن أو التصفية كما حدث مع شخصيات بارزة في الحوزة الدينية “قم” منها آية الله حسين علي منتظري الذي كان أول نائب للمرشد الأعلى زمن الخميني وآية الله محمد كاظم شريعت مداري أحد أكبر المرجعيات الدينية وأبرز أساتذة الخميني.

 

النظام السياسي الإيراني مقسم بين المؤسسة الدينية والحكومة، للمرشد الأعلى سلطة اتخاذ القرار في جميع السياسات الرئيسية والقرارات المصيرية فيها. وتعتبر هيكلية السلطة في إيران عملية معقدة دستوريا تتداخل فيها التنافسات السياسية بين مؤسسات الدولة والطموحات الشخصية للقيادات الدينية وكبار المسؤولين في الحوزات العلمية وأذرعها الاقتصادية.

 

تقليديا في ظل نظام الولي الفقيه يدور صراع بين التيار الإصلاحي وحليفه التيار المعتدل المطالب بالانفتاح على الغرب وتخفيف السياسات الخارجية العدائية والباحث على توافقات في البرنامج النووي لتخفيف الحصار الاقتصادي ورفع العقوبات، وبين التيار المحافظ المؤمن بفلسفة تصدير الثورة وتمويل الميليشيات والمقرب جدا من المرشد الإيراني وذراعه العسكرية الحرس الثوري.

 

– التيار المحافظ: يتبنى فكرة ولاية الفقيه المطلقة، أي الاعتراف بسلطة القائد الأعلى (المرشد) كحاكم مطلق. هذا التيار يعارض أي محاولات لتقييد صلاحيات المرشد الأعلى وزيادة دور رجال الدين في الحياة السياسية والحكم وبالتالي يرفض أي تيارات أو أفكار منافسة لرؤيتهم الأيديولوجية باعتبارها تهديدًا للنظام الإسلامي. وفي السياسة الخارجية، يبني التيار المحافظ عقيدته على معاداة الولايات المتحدة وحلفائها وسياستها في المنطقة ويعتبرها العدو الأساسي لإيران والثورة الإسلامية، لذلك فقيادات هذا التيار تعارض الاتفاق النووي الحالي بالدعوة إلى صياغة اتفاق جديد يكون تحت قيادة شخصية موالية لها.

إبراهيم رئيسي كان ينتمي إلى التيار المحافظ حيث يسيطر المحافظون حاليا على مجلس الشورى الإسلامي، ومجلس خبراء القيادة وعدد من مجالس المدن، والمؤسسات غير المنتخبة مثل مجلس صيانة الدستور، وأهم الشخصيات فيه مجتبى خامنئي ومحمد باقر قاليباف رئيس مجلس الشورى الإسلامي الإيراني والجنرال محسن رضائي أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام وعلي أكبر ولايتي مستشار الشؤون الدولية لقائد الثورة الإسلامية وسعيد جليلي الشخصية البارزة في مجمع تشخيص مصلحة النظام وعلي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني من 2008 إلى 2020 وكبير المفاوضين الإيرانيين في المسائل المتعلقة بالأمن القومي كالبرنامج النووي الإيراني سابقا وهو حاليا عضو في مجلس تشخيص مصلحة النظام بالإضافة إلى قيادات الحرس الثوري والجيش الإيراني.

 

– التيار الإصلاحي: ويمثل المعارضة الرئيسية للتيار المحافظ، وأهم سمات التيار الإصلاحي الدعوة إلى إصلاحات سياسية وتقييد سلطات المرشد الأعلى والحرس الثوري، فهذا التيار يرفض مبدأ ولاية الفقيه المطلقة، ويطالب بتوسيع المشاركة الشعبية في الحياة السياسية وتعزيز الحريات المدنية واتباع سياسة خارجية أكثر اعتدالاً تجاه الغرب، والسعي لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة واستعادة الاتفاق النووي بالإضافة إلى دعم الحقوق والحريات للمرأة وتشجيع مشاركتها السياسية والاجتماعية.

ومن أبرز قادة هذا التيار الرئيسان السابقان محمد خاتمي ووزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف ومير حسن موسوي ومهدي كروبي، ويُعتبر التيار الإصلاحي قوة سياسية مؤثرة على الرغم من المعارضة الشديدة له من قبل المحافظين.

 

 -التيار المعتدل: يمثل موقفًا وسطيًا بين التيارين المحافظ والإصلاحي، وأهم ملامح هذا التيار الدعوة إلى إصلاحات متدرجة دون المساس بأسس النظام السياسي الإيراني. حيث لا يطالب بتغييرات جذرية مثل التيار الإصلاحي والحفاظ على العلاقات الخارجية المعتدلة مع الغرب، بما في ذلك الحفاظ على الاتفاق النووي الحالي، مع تجنب التصعيد ودعم زيادة مشاركة الشعب في الحياة السياسية، والموازنة بين الاعتبارات الأيديولوجية والمصالح الوطنية الواقعية. وهو أكثر انفتاحًا على الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية الملموسة، ومن أبرز ممثلي هذا التيار الرئيس السابق حسن روحاني. ويحظى التيار المعتدل بتأييد محدود من قبل النخب السياسية والاقتصادية وكان زعيم هذا التيار علي أكبر هاشمي رفسنجاني، حيث كان الرجل الثاني في الدولة بعد المرشد الإيراني خامنئي، وأحد أعمدة النظام في إيران وينظر إلى ابنه محسن هاشمي رفسنجاني الرئيس السابق لمجلس بلدية طهران على أنه خليفته في التيار المعتدل.

بالعودة إلى الرئيس إبراهيم رئيسي وفهم الموقف الشعبي الرافض لسياسات النظام، هناك أربعة مؤشرات تظهر الوضع الحرج الذي يعيشه التيار المحافظ والأصولي، أولها نسبة المشاركة لم تتجاوز 48 بالمئة، وثانيها فاز إبراهيم رئيسي بالمنصب بعدد أصوات يصل إلى 18 مليون صوت، أي بنسبة 30.4 في المئة وهي أقل نسبة يحصل عليها رئيس في تاريخ الجمهورية الإسلامية، وثالثها نسبة الأصوات الباطلة بلغت بحسب الإحصاءات نحو 12.9 في المئة، ورابعها مقاطعة أكثر من 30 مليون إيراني العملية الانتخابية مما جعل أغلب المراقبين يعتبرون رئيسي “رئيس أقلية” أو مرشح مكتب المرشد الأعلى المفضل.

 

الأدهى من هذا أن النظام الإيراني قبل الانتخابات بأسابيع كان على إدراك تام برفض الشارع الإيراني للعملية الانتخابية بسبب الوعي الكامل للشعب بأن منصب الرئيس شرفي ولا يرقى في اختصاصاته ونفوذه إلى  منصب مدير مكتب المرشد، مما يضع شرعية النظام الذي يبني أطروحته السياسية على الدعم الشعبي الثوري على المحك، ولطالما استمد شرعيته من المشاركة الواسعة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، مثلا في الانتخابات الرئاسية عام 1997 و2017 وصلت نسب المشاركة ما بين 70 إلى 85 في المئة، مما عجل بتدخل مباشر للمرشد الأعلى خامنئي قبل أسبوع من يوم الاقتراع مذكرا الشعب الإيراني بوصية الخميني بأن التصويت واجب ديني، وتم تحريك قيادات الجيش والحرس الثوري للقيام بزيارة ولقاء إبراهيم رئيسي في رسالة مبطنة إلى الشارع بأنه المرشح المفضل للمؤسسة العسكرية الإيرانية.

 

تحييد آية الله إبراهيم رئيسي من المشهد السياسي، وهو الشخصية التي كانت الأقرب لتولي منصب المرشد الأعلى في حالة الوفاة المرتقبة لعلي خامنئي، يطرح العديد من الأسئلة والإشكالات أمام المتدخلين الأساسيين في صياغة القرار السياسي: المجمع الديني والمؤسسة العسكرية بأفرعها وشركاتها العملاقة ومكتب المرشد الأعلى بامتداداته الدينية والاقتصادية الذي يسيطر عليه مجتبى خامنئي برتبة دينية متوسطة (حجة الإسلام) وهو الأمر الذي قد يحول دون توليه منصب الولي الفقيه. في الواقع إشكال نقص الخبرة العلمية لدى مجتبى خامنئي تم تجاوزه قبل أكثر من ثلاثة عقود، بعد وفاة الخميني في يونيو 1989، حيث اختار مجلس خبراء القيادة علي خامنئي ليكون المرشد الأعلى الجديد، على الرغم من أنه لم يحقق الرتبة العلمية التي نص عليها الدستور وهي آية الله العظمى، ولتجاوز التنافي الدستوري تم تعديل الدستور ليشترط فقط في المرشد أن يكون له “علم إسلامي كاف لتدبير أمور الأمة” كما تمت ترقيته بشكل مباشر من رتبة حجة الإسلام إلى آية الله.

 

وفاة رئيسي قد تشكل مدخلا لتشكيل واقع جيوسياسي جديد في الشرق الأوسط، حيث المواجهة على مسافة صفر بين الجيش الإسرائيلي والجيش الإيراني مما ينذر بحرب إقليمية شاملة، أصبحت مشهدا عاديا في وسائل الإعلام. واستهداف العمق الإسرائيلي انطلاقا من قواعد داخل التراب الإيراني يشكل أحد التحولات الكبرى التي عرفها السلوك العسكري الإيراني في عهد رئيسي، فطوال الأربعين سنة الماضية اقتصرت المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية على حروب الظل باستخدام الوكلاء الإقليميين أو عناصر مخابراتية تنفذ عمليات دقيقة في العمق الإيراني أو داخل إسرائيل. هذا التحول أزعج مختلف الأطراف داخل إيران وأطراف إقليمية أصبحت ترى في سياسات رئيسي المتشددة برميل بارود قد يحرق الأخضر واليابس.

 

الأكيد أن مجتبى خامنئي ومعه قيادات الحرس الثوري يفضلون “انتقالا هادئا” للسلطة يساعد على إعادة ترتيب رقعة الشطرنج في طهران، والمناورة الوحيدة المطروحة أمام النظام وأركانه هي إخراج أحد الوجوه الإصلاحية لتولي منصب الرئيس للقيام بمهمة رئاسية واحدة هي عقد تسوية إقليمية تعطي المجال الزمني والحيز الجيوسياسي المناسب أمام قادة النظام لترتيب البيت الداخلي وضمان تماسكه في حالة وفاة المرشد الأعلى الذي يعتبر صمام أمان استمرار مصالح الجميع.

 

سياسة العداء الإقليمي انتهت بغرق المجتمع الإيراني في أزمة اقتصادية خانقة وفساد مزمن ينخر مفاصل الدولة والاقتصاد ويؤجج مشاعر الغضب في الشارع الإيراني الرافض لنظام الملالي وسيطرته المطلقة على مختلف مناحي الحياة في الدولة.

 

في داخل هذا النظام الشمولي الرافض لكل الدعوات الإصلاحية برزت قيادات إصلاحية انتهت في السجون أو الإقامة الجبرية، وفي العديد من الأحيان يكون حبل المشنقة مصير كل من يتجرأ على انتقاد النظام.

 

تبديد ثروات الشعب الإيراني في سياسات التسليح الفاشلة وتمويل الميليشيات في مختلف الدول العربية والإسلامية لتنفيذ شعار تصدير الثورة الذي رسمه الخميني، واستمر خامنئي في تنزيله وفق مخطط مدروس للهيمنة الإقليمية والتشبث بوهم إعادة بناء الإمبراطورية الفارسية والتحكم في مفاتيح السياسة الإقليمية، ومحاولة التدخل على الفواعل والديناميكيات

 

المؤثرة في الأمن البشري لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتمويل وتسليح وتدريب الميليشيات والحركات الانفصالية، انتهت كلها بتورط إيران في ظل حكم الملالي في مجموعة من الحروب والمواجهات الإقليمية، سواء بشكل مباشر كما هو الحال في حرب الثماني سنوات ضد النظام في العراق (1980 – 1988)، أو بشكل غير مباشر عبر وكلائها في لبنان والعراق واليمن وسوريا، والثمن يدفعه المواطن الإيراني الغارق في الخطابات الأيديولوجية والأزمة المجتمعية الخانقة وضيق الأفق نتيجة الحصار الاقتصادي و السياسي .

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى