غير مصنف

مفهوم الشورى في التشريع السياسي الإسلامي./الكاتب خير الدين هني

./ خير الدين هني:كاتب وباحث الجزائري

اختلفت المدارس الفكرية في المجتمع الإسلامي منذ أمد بعيد، بما فيها المدارس الفقهية والسياسية في شأن مفهوم الشورى الذي أقره القرآن الكريم، فهم يتفقون بالإجماع على أن الشورى أمر مقطوع به في التشريع السياسي الإسلامي، ولا يمكن الاستغناء عنه أبدا، لقوله تعالى: “وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ”، (آل عمران:159)، وفي قوله جل ذكره:” وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ”، (الشورى:38). وفيما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها”، قال حديث غريب.
والشورى التي أمر الله، تعالى، النبي الكريم صل الله عليه آله وسلم بالعمل بها، لا تشمل أحكام العقيدة والتشريع للعبادات والمعاملات، فهذه أمورٌ توقيفية حكم فيها القرآن الكريم أو السنة الصحيحة، وإنما يراد بها ما يتعلق بالحياة العامة للمسلمين في السلم والحرب والحياة الاعتيادية، كيما يظهر، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه بأنه بشر مثلهم يأخذ بآرائهم ويستعين بمشورتهم عند الخطوب والملمّات، من باب الواقعية الإنسانية التي توجبها آداب الصحبة والعِشرة، والمشاركة في التفكير وطرح الآراء عند الأزمات.
لتقاسم المسئوليات والنجاحات والإخفاقات هذا من جهة أولى، وليقرّبهم ويتألفهم ويُطيّب خواطرهم، ويُشعرهم بأنهم أحرار في الإرادة والتفكير والرأي والاختيار فيما لا حكم شرعي مقطوع فيه، وأنهم غير مقيدي الحركة والتفكير والنشاط من جهة أخرى، وإن كان، صلى الله عليه وآله وسلم، غنيا عنهم وعن مشورتهم، لاتصاله بالسماء وتلقيه الخبر بالوحي.

وعلى هذه القاعدة الواضحة في التشريع السياسي الإسلامي، حول مفهوم الشورى اتّفقت المدارس الفكرية والفقهية والسياسية عبر التاريخ الإسلامي، إلا أن المعاصرين اختلفوا على الطبيعة التنظيمية لمؤسسات الشورى في أجهزة الدولة الحديثة، في حال التزمت بقواعد الحكم بمبدأ الشورى، المنصوص عليه في التشريع السياسي الإسلامي، فكل مدرسة فهمته على نحو خالفت فيه المدرسة الأخرى، ومردُّ الاختلاف في ذلك يعود إلى الأصول التي كان يقوم عليها نظام الشورى في عهد النبي، صلى الله عليه وسلّم، والخلفاء الراشدين من بعده، إذ كانت لا تخضع لنظام إداري وهيكلي، ينظّم إدارتها وقواعد العمل بها عند الاقتضاء.

والنبي، صلى الله عليه وسلّم، حينما عمل بمبدأ الشورى، لم يكن اهتمامه يتجّه نحو وضع أطر تنظيمية كالذي عرفته الدول المنظمة في عهده، وإنما كانت غايته ترمي إلى إرشاد المسلمين إلى ضرورة العمل بقواعد الشورى، حتى لا ينفرد المسئولون بالرأي ويستأثروا به، دون غيرهم من أهل النباهة والحصافة والرأي في الدولة.

لذلك، عمل بما كان شائعا به العمل في الحياة العربية، إذ ينعقد مجلس الشورى حيث يقيم شيخ القبيلة، أو يخصَّص له مكان يُطلَق عليه اسم معين كدار الندوة عند قريش، أوفي المكان الذي تعترضهم فيه المشكلة، مثلما حدث في الطريق إلى بدر قبل نشوب المعركة، وكذا في المدينة بالمسجد النبوي قبل غزوة “أحد”، أو بالمسجد النبوي حين استشار الخليفة أبو بكر كبار الصحابة في شأن المرتدين، أو كالذي فعله عمر بن الخطاب عند الاستشارة عمن يستخلفه عندما طعِن.

والنبي، صلى الله عليه وسلم، أخذ برأي الفرد الواحد، حينما رجح لديه الصواب في رأي الحُباب بن المنذر قبل غزوة بدر، أو برأي الأغلبية مثلما وقع في المسجد قبل غزوة “أحد”، وقد تجهَّز للخروج لملاقاة المشركين من غير أن يتراجع عما أجمعوا عليه، بعدما تبيّن لأصحابه خطأ ما أقدموا عليه عندما دخل إلى بيته لأخذ العدّة للحرب.

والاختلاف الكبير بين المدارس الفكرية والسياسية اليوم، في شأن وجوب الشورى من استحبابه، هو تباينهم الكبير في فهم دلالة الشورى بمخرجات التأويل، وهل هي ملزِمة ويجب التقيّد بها في التشريع السياسي لأصول الحكم، أم إنَّ الأمر القرآني للنبي، صلى الله عليه وسلم، لا يقتضي الوجوب، وهي على وجه الاستحباب والاستئناس ليس إلا. (كما يقال في أيَّامنا استشارة غير ملزِمة).

واستدلّ أصحاب المدرسة غير الملزمة بالشورى، بمخالفة أبي بكر الصديق لرأي الصحابة الذين لم يجوِّزوا قتال القبائل المرتدّة، عند امتناعها عن دفع الزكاة بعد وفاة النبي مباشرة، وقد أنفذ الخليفة جيوشا لقتالهم حتى ردَّهم إلى الإسلام.

على أن أصحاب المدرسة الموجبة للشورى، فهموا الدلالة من الأمر الإلهي على أنه يلزم الوجوب وليس الاختيار، وبدلالة ما فعله النبي، صلى الله عليه وسلم، وتمسك به عند ما اجتمعت كلمة غالبية الصحابة من الشباب المتحمسين على الخروج إلى أحُد، خلافا لرأيه، صلى الله عليه وسلم، ورأي أقلية من كبار السن من الصحابة ممن كانوا على رأي النبي في أفضلية البقاء بالمدينة، والدفاع من داخل أسوارها، مما أعطى دلالة الوجوب بأخذ رأي الأغلبية وإن كان مخطئا، تسننا بهدي النبي وإرشاده وتوجيهه، وحفاظا على التماسك الجماعي ووحدة الصف، وتحمل المسؤولية الجماعية التي هي الصائبة في غالب الأحوال والظروف.

بعض الزعامات الإحيائية الملتزمين بالحرفية، لا يقبلون التأويل ولا التكييف مع النظريات الوضعية، ولا يجوِّزون الإدماج بين الشورى والديمقراطية لنفور العلاقة التأسيسية والغائية بينهما، ويتشدد بعضهم في تكفير النظريات الحديثة، لكونها تعادي الدين والقيم الأخلاقية، على نحو ما نجده عند شيوخ المدخلية الذين ابتلي بهم المسلمون اليوم.

واعتبارا لذلك يمكن القول: إنَّ المبدأ في العمل بالشورى، واعتبار ما يسفر عنه من منافع سياسية واقتصادية واجتماعية، وقطع الطريق على أصحاب النزعة الفردانية، ممن تتوق نفوسهم إلى التمركز حول الذات والتفرُّد بالرأي والقرار، هو الأصل الذي اعتمده التشريع السياسي الإسلامي بصيغة الوجوب، انطلاقا من النصوص القرآنية التي تضمّنت معنى الأمر، وكذلك من سنة النبي، صلى الله عليه وسلم، التي سنها عند الاقتضاء، وعمل بها ولم يخالف ما رجح لديه أو أجمع عليه أصحابه.

والقرآن الكريم حينما تناول الشورى بصيغة الأمر، إنما كان يروم مقاصد عظيمة تنفع المسلمين في عصور ما بعد النبوة، لقطع الطريق على المستبدين الذين يستلذُّون متعة العمل بالرأي الأوحد الملهِم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وفي تاريخنا المعاصر الذي اختلطت فيه المعاني الشرعية، بالمفاهيم التي استحدثتها النظريات السياسية في الغرب؛ فقد أثر ذلك الخلط على المفكرين الإحيائيين، فوقع بينهم خلاف عميق بما له علاقة بين الشورى والديمقراطية، وهل هما متوافقتان ومنسجمتان في فلسفة التشريع وغاياتها المقاصدية، أم إنهما مختلفتان ولا تجمعهما صلة، لتباينهما في الأهداف التأسيسية والمرجعية والغائية؟

ولهذا، نجد بعض الزعامات الإحيائية الملتزمين بالحرفية، لا يقبلون التأويل ولا التكييف مع النظريات الوضعية، ولا يجوِّزون الإدماج بين الشورى والديمقراطية لنفور العلاقة التأسيسية والغائية بينهما، ويتشدّد بعضهم في تكفير النظريات الحديثة، لكونها تعادي الدين والقيم الأخلاقية، على نحو ما نجده عند شيوخ المدخلية الذين ابتلي بهم المسلمون اليوم، وغايتهم ليس الدين وإنما استرضاء أولياء نعمتهم ممن تعرفونهم.

أما أصحاب المدارس الإحيائية ممن شاركوا في تجربة الحكم، فإنهم نظروا إلى الديمقراطية من وجهة نظر نفعية، إذ اعتبروا التشريع السياسي الإسلامي، يبيح الاستفادة من أي تجربة خارجية تفيد المسلمين، إذا كانت تقبل التكيّف والمطاوعة مع الأهداف الشرعية، والشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية، كلاهما يستهدف غاية واحدة، وهي تحقيق الحرية والعدالة والمساواة، وتكافؤ الفرص بين الجميع، في إبداء الرأي من غير تفاضل بين الناس، في أي تنظيم سياسي وهيكلي وإداري.

لذلك قبلوا الانخراط في العمل السياسي ضمن هذه المقاربة، ولم يروا حرجا في التوفيق بين الفلسفتين، أما فيما له علاقة بمرجعية التشريع العامة، فإنهم اقتنعوا بما هو موجودٌ من تشريع في الأحوال الشخصية والأوقاف والمواريث والمعاملات المالية ضمن البنوك الإسلامية.

وهو التشريع المعمول به في النظام العربي والإسلامي حاليا، وأرجأوا النظر في التشريع الجنائي والمدني إلى أوقات مواتية، اعتمادا على مبدأ التدرُّج الذي يُعدّ من أهم مبادئ التشريع، من غير تسرّع أو عجلة كما يحلو للبعض، وهذا هو المذهب المرجّح الذي عليه رأينا.

 

 

ب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى