مكافحة الفساد… فرس رهان المأمورية / الولي سيدي هيبه
“الجمهورية – بالنسبة لشخص يمكن أن يضحي اليوم بكل شيء من أجل المصلحة العامة، يوجد الآلاف والملايين ممن لا يعرفون سوى متعتهم وغرورهم. ينال الشخص في باريس احترامه بسبب سيارته وليس بسبب أخلاقه” – نابليون
هل من الضروري التذكير بأن التمسك بموقف مسيء أو معارضة سلبية لا يخدم سوى أعداء الأمة ومنتقديها؟
يجب أن تحظى مكافحة الفساد والتصدي بحزم لممارسيه بالموافقة والدعم غير المشروطين من الجميع، بل وبالمباركة والمرافقة الرسمية الدائمة. إنهما ليسا فقط مسؤولية النظام الحاكم وحده، بل ذلك واجب دائم يستوي فيه الجميع، ما يعني أنهما مسألة توافقية بامتياز.
فأي منطق يبرر ترك الحبل على الغارب لنهب مدخولات الثروات الهائلة وتبديد ميزانيات القطاعات وصرف النظر عن معاناة الشعب من جراء الفقر والعوز، وعن تأخر البلد بفعل هذه الممارسة الشنيعة واستدامتها بمنطق اللا وطنية “ظاهرة” حاكمة على الدولة بالترهل والإنهاك؟
أو ليس استمرار هذه الظاهرة بمثابة “الخيانة العظمى” التي تستوجب أقصى وقسى العقوبات؟ ليس عقوبة الاعدام التي قد تكون رحيمة، بل الفضح والتشهير والفصل والمساءلة نتيجة عادلة وقرارا منطقياً.
إن موريتانيا، في حالتها الفريدة، تبين عن تناقض عبثي صارخ، فلا يوازي فقرها -إلى الحد الأدنى إلا غناها لدرجة إقبال دول العالم العظمى عليها طمعا في مشاركتها استغلال ثرواتها الكثيرة:
– معادن، ذهب، حديد، نحاس، فسفات، تربة نادرة وغيرها،
– نفط وغاز،
– ثروة سمكية هائلة تتكاثر في بيئة بحرية متجددة فريدة،
– إمكانات زراعية كبيرة على ضفة نهر خصبة، ومطرية في أرجاء واسعة، وتحت واحات النخيل المنتشرة في عدد من الولايات،
– ثروة ماشية كبيرة متنوعة،
وبالطبع فلقد لفتت ثروات البلاد هذه – قبل أكثر من ستة عقود – أنظارَ عديد الجدات الإقليمية والقارية. لكن في الوقت الذي كانت فيه الدول الأكثر فقراً تبذل جهوداً جبارة، بفضل إرادة “نخبها” المتعلمة والمثقفة والعاملة والسياسية الملتزمة والواعية، للتغلب على تحديات التخلف والاعتماد على الخارج، كانت موريتانيا على الرغم من هذه الثروات تراوح مكانها بسبب الفساد، والمحسوبية في ظل حماية الاعتبارات القبلية، وغياب مفهوم الدولة.
ولقد كانت الأحزاب السياسية التي نشأت -بغض النظر عن دوافع تأسيسها – قبيل الاستقلال حاملة لمسببات “إجهاض” مشروع الدولة السوية وممتنعة عن الالتزام بمقوماتها، بل وظل قادة ومؤسسو هذه الأحزاب يعبرون عن إرادة الإبقاء على “الأحادية” القيادية، وتوشحوا بنطاق الانتماء القبلي والعشائري والطبقي والعرقي والطائفي والإقليمي؛ توجه وخيار لم تغير فيهما الأيديولوجيات التي اعتنقواها وعادوا بها من مرافئ التعلم وفي رحاب الجامعات والمعاهد العالمية وقد تقمصوها على شكل حركات نضالية.
وتحت شعار الديمقراطية، الذي رفعه الجميع لم تعمل، قط معا، هذه الحركات والأحزاب السابقة عليها واللاحقة على ترسيخ المبادئ المشتركة للعمل السياسي في ظل دولة القانون العادلة؛ وهي المبادئ التي كانت لترتفع جميعها فوق اختلافاتهم في الطرح والفلسفة والخطاب والمنهجية والبرامج.
واليوم، أكثر من الأمس، يفتقر وبشدة واقعها إلى هذا الدافع في ظل إصرار البعض على الحفاظ على الوضع المختل المتمثل في مقاومة تأثير الانفتاح الفكري على إسهامات الشعوب من حولنا في قرن استثنائي يقدم كل الفرص للخروج من بؤر الجهل والتخلف والتأخر عن ركب الأمم وعن دوائر الظلامية وجميع اعتباراتها الزائفة.
أو ليست أنسب الطرق لترسيخ الفساد بشكل دائم إبقاء جميع الفاعلين السياسيين والأطر والموظفين ضمن ثنائية الممارسة الفعلية الصارخة له، وترك العنان لانتقاده النظري الجريء في تناقض بغيض ومكشوف؟
أو ليس كذلك هذا التناقض هو السبب الفعلي في تعطيل مسار الدولة – بغض النظر عن الإرادة المعلنة والمحاولات الجادة- وهو الذي يقوض كل جهود وبرامج التصدي له “داء” لا يستثني أحدا، من أو في أي موقع يتواجد فيه داخل دوائر وقطاعات الدولة، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو من خلال الانتماء القبلي، أو الطائفي أو الاثني أو اللوبياتي؟
كيف يمكن إذن، في ظل هذه الحالة الشاذة من التناقضات النفسية والفكرية، وفي ظل غياب الثقافة المدنية وضعف الحس الوطني، أن يحدو الأملُ الشعبَ في نجاح أي جهد لمكافحة الفساد المستشري؛ فساد لا يبدو أن شيئا يمكن أن يكسر شوكته، اللهم أن تتواصل الإجراءات الجادة التي تتخذها هذه الأيام الحكومة الجديدة لمحاربته وقوامها طاقم كفء وغير ملطخ بقضايا الفساد الكثيرة التي ما زال الشعب يطالب بمحاكمة أصحابها ممن أفلسوا قطاعاتهم وعطلوها عن أداء مهامها الوطنية.
وفعلا فإن الخطوات الأولى للحكومة برئاسة الوزير الأول المختار ولد اجاي قد أحيت هذا الأمل في إمكانية تنقية المسار العام ومشاهدة انعكاس عملها الجاد على التنمية الفعالة والمتوازنة، وكذلك مشاهدة تسيير معقلن للمقدرات بحيث يتحسن معها الوضع الاقتصادي المترهل ويرتفع المستوى المتدني للمواطن من ناحية على خلفية ضمان العدالة والمساواة للفئات الهشة والمغبونة، وتتسارع وتيرة تشييد البنى التحتية الضرورية ويتم تشغيل الشباب وتكوينه وتأطيره من ناحية أخرى.