ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ذكرى لإشعاع نور الهداية الربانية على العالم/د. محمد عبد الرحيم البيومي
انَّ المتأمل في ميلاد النبي، صلى الله عليه وسلم، يجده ذكرى لإشعاع نور الهداية الربانية على العالم والبشرية جمعاء، ذلكم النور الذي يحمل مستويات عدة في إشراقه على الكون والوجود كله. فهناك النور المتمثل في الشخصية النبوية المطهرة، وهُناك نور النبوة وإشراق الرسالة، الذي أخرج به الله سبحانه العالم من الظلمات إلى النور، ومن الهداية إلى الرشاد، يقول سبحانه (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، وحقاً ما قيل: أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم ومعنى ذلك أن مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، ورسالته يؤذن بأنها جاءت لتجعل البشرية تعيش في كنف الله تعالى ورعايته التي بها يتطلع الناس في كل أمر من أمورهم إلى وحى منزل من عند الله، به يتحركون، وبه تقوم حياتهم على تقوى من الله ورضوان يستشعرون فيه يد الحنو والرحمة التي تمتد إليهم في كل وقت وحين، آناء الليل وأطراف النهار، لتأخذ بنواصيهم إلى طريق الله عز وجل، وتقود خطاهم إلى صراط الله المستقيم. ولعلَّ السر في ذلك أن قائد البشرية صلوات الله وسلامه عليه قد صنع على عين الله، وأدب بتأديب الله، وأعد برسالته وفق منهج خاص موحى به من الله تعالى. يقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلا إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا). وسائل الإعداد ومعنى ذلك ووفق هذه الآيات أن الحق سبحانه وتعالى قد دبر لنبيه، صلى الله عليه وسلم، هذه الفترة التربوية ليعده فيها، لحمل الأمانة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية التي قوامها كما نطقت الآيات، قيام بالليل إذا ما غارت النجوم ونامت الجفون، وترتيل للقرآن في عصر افتقد الناس فيه الوحي من السماء، وذكر لله في زمن اتخذ الناس فيه الأوثان والأصنام أرباباً من دون الله عز وجل، كل ذلك يأتيه النبي صلى الله عليه وسلم في خلوة تعبدية قوامها التبتل لرب الأرض والسماء لتصفو النفس وتشرئب الروح لاستقبال هدى السماء. وكأنَّ الحق سبحانه وتعالى في هذه الآيات يريد أن يقول: إن اتصال النبي، صلى الله عليه وسلم، بالملأ الأعلى سيستمر لتبليغ شرع الله إلى كافة خلق الله. وهذا الاتصال لا بد أن تسبقه تهيئة خاصة يتم فيها تمام التجرد وطلاقته لله لتستوعب بذلك الروح الطاهرة فيوضات الأنس الإلهي، والمدد الرباني حتى تتصل بطهرها إلى الله سبحانه فتذوب بذلك كل العلائق الحسية، والمعاني الأرضية، فتصفى النفس من الهانات والصغائر التي لا تتفق مع نورانية الحق سبحانه، والجلال الأكبر لله رب العالمين. منهج تدريبي ومعنى ذلك أن ما أمر به النبي، صلى الله عليه وسلم، من ربه هو في حقيقته تربية وإعداد وفق منهج تدريبي محكم يتصل فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، بخالقه والناس نيام، ذاكراً فيه اسم ربه ومولاه، وقد سكن الوجود وغاب النائمون، فيرتل القرآن ترتيلا ويصل بعذب صوته النبوي أجواء الأرض بأسماع السماء. ووفق ذلك المنهج يمضى رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فيقوم الليل إلا قليلا، ويرتل فيه القرآن ترتيلا، ويلهج لسانه بذكر ربه بكرة وأصيلا. وهنا تأتى المرحلة الجديدة التي تحمل في طيها التشريف والتكليف، والتنفيذ والقيام بأعباء الوظيفة التي لأجلها صنع النبي، صلى الله عليه وسلم، على عين الله، وربى وفق حكمته ومنهجه، والتي يقول الحق سبحانه وتعالى عنها (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر قُمْ فَأَنذِر). وهنا تبدأ رحلة الدعوة إلى الله، والمتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أن الدعوة إلى الله سبحانه قد أتت وفق مراحل أربع: الأولى وهى التي عبر الحق سبحانه وتعالى في الآية السابقة، وتمثل هذه المرحلة دور العمل السري، وإعداد القيادة التي تتحمل مع النبي، صلى الله عليه وسلم، نشر الدعوة وتبليغ الرسالة، فربى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة رجالاً استعذبت أرواحهم رسالة الإسلام فمنحوها النفس والنفيس، وآثروها على الوجود كله حتى سموا بأنفسهم فوق المجتمع الجاهلي بماديته ومعنوياته. أما المرحلة الثانية، فيعبر عنها الحق سبحانه وتعالى بقوله (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ). وتمثل هذه المرحلة كما يقول العلماء بداية العمل الجهري، ففيها أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالجهر بالدعوة، وعلة ذلك أن إنذار الأقربين من عشيرته، صلى الله عليه وسلم، إيذان بإقامة الحجة عليهم. الحجة ومعنى ذلك أن الحجة إذا ما قامت على عشيرته وأقربائه صلى الله عليه وسلم تعدت إلى غيرهم، يروى الإمام الطبري والإمام البيهقي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، صعد على الصفا – فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بنى عدي… لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو..؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال أنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. وبهذا يثبت أن نقل الدعوة من طورها السرى إلى طورها الجهري كان بإذن من عند الله حيث أمر – صلى الله عليه وسلم – بأن ينذر عشيرته الأقربين، فثبت أن الدعوة تسير في رعاية الله وكنفه. المرحلة الثالثة ويعبر عنها الحق سبحانه وتعالى بقوله (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا). ويقصد بها كما قال العلماء “مكة ومن حولها شرقاً وغرباً”. يروى ابن هشام في سيرته أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم ما بعث به من قبل خالقه ومولاه، ويبلغ رسالة ربه ولهم الجنة فلا يجد أحداً ينصره أو يجيبه فعل ذلك مع بنو كلب وبنو حنيفة، وذهب بذلك إلى الطائف وأهلها فلم يجد إجابة إلا من نفر من الأنصار آمنوا به وصدقوه فلما قدموا المدينة إلى قومهم كانوا خير سفراء لدين الله حتى فشا الإسلام فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك تم توصيل الدعوة إلى ربوع الأمة العربية. نعم رفضها المطموسون بظلام الجاهلية، ولكن قبلها المشركون بصفاء النفس، الممنوحون نعمة السمع حتى شاء الله لهم أن يكونوا لها أجناداً مصطفين أخياراً، والله ذو الفضل العظيم. وتأتى المرحلة الرابعة وهى التي عبر الحق سبحانه وتعالى بقوله (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور). وهى مرحلة عالمية الدعوة، حيث جمع النبي صلى الله عليه وسلم قومه ثانياً ثم خطبهم قائلاً: إنَّ الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة. وهذا إعلان لعالمية الدعوة إلى الله التي تمثل قانون الله تعالى للإنسان. يقول سبحانه (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ). ويقول سبحانه (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِه وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، ثم تأتى الهجرة بعد ذلك إلى الحبشة وإلى المدينة لتكون بمثابة التطبيق العملي لتلك العالمية التي أعلنت عنها آيات القرآن الكريم.
المصدر : الاتحاد الاماراتية