وماذا بعد؟ (2) / محمد محمود ولد بكار
بعد التوجس من حجم المغامرة، يبدو أن عزيز يتوجه نحو السيناريو “ب” الذي هو التوريث. وهنا تجدر الإشارة إلى التعريج على الخلاف الكبير بين تصور عزيز للموضوع وفهم بقية الناس للمسألة ـ حتى صديقه الوحيد وثلث شريكه ـ وهو ما قد يشكل بوادر أزمة ثقة في هرم السلطة، ذلك أن عزيز لا يفكر في استمرار النظام لأن النظام لا ووجود له في نظره أصلا ، إنما هي عناصر اختارها خلال طريقه،وقد أسقط بعضها أثناء المسار وقد يستغني عن البقية،
ولهذا بالضبط لا يشعر، بل لم يوجد ولن يوجد من له منة عليه في طول نظامه وعرضه. وهكذا يعتبر أن التوريث هو تنصيب الشخص الذي يساوي طموحه واستمراره هو في السلطة بكل صلاحياته السابقة باستثناء البروتوكول والجلوس على كرسي الرئاسة فقط، ولا دخل لأحد في اختياره أو تحديد ملامحه السياسية ، لتبقى جميع خيوط السلطة مربوطة بخيط واحد في يده، خاصة القدرة على متابعة الفرص واختطافها دون أي منافسة وممارسة باقي هوايته في متابعة الناس وحرمانها وترويضها. إنه سيناريو كابوسي بحق… بينما ترى البقية ـ وهو رأي متداول على أوسع نطاق ـ أن التوريث هو الأخذ في الحسبان الخروج الآمن لعزيز أي حمايته من المساءلة بالدرجة الأولى، بواسطة شخص من رحم “النظام”، يحظى بشبه إجماع، أو قابل للتسويق، ويمثل استمرارا للنظام، ويعمل على انسجام طيفه السياسي، ويغير من مقاربة عزيز الاستثنائية ويضخ دما جديدا في قنوات الحكم ، ويـُدّوِر طاولة اللعبة: أي يفتح الطريق لمشاركة أشمل ولتبادل أوسع للمنافع داخل الأغلبية، بل الحزب الحاكم نفسه، بل المجموعة التي واكبت عزيز وأسست معه لهذه الحقبة وتحملت محنها وتجاوزاتها وأخطاءها، وقد يكون هذا الفهم هو السبب الوحيد الذي يحمل الكثير من المصدومين من تسير عزيز الفرداني والمهمشين والمظلومين ، على البقاء ضمن هذا “النظام”، تحسبا لهذه الخطوة لا غير، ولا يتوقع أن يكون إحباطا لهذا المخطط، إن حصل، من أجل بلادهم. وقد يكون عزيز (وهذا مالا يعرفه أحد باليقين أي لا يدرك إلا في ضوء متابعة وتحليل الأحداث ) قد وقـّع – ضمن تجاهله للرأي العام الوطني الضاغط بأقصى مشاعره – برضوخه للحركات والتنظيمات اللاهوتية المسيحية واليهودية، “صفقة القرن” الموريتانية أي مقابل إطلاق سراح ولد امخيطير وتهجيره للغرب كمواطن إيطالي، حصل على ضمان قبول انتخابات مزورة بل تسويق نتائجها في الغرب. وهكذا يكون كسب أكبر رهان بالنسبة للتوريث على طريقته ،تجاوزا لكل الموريتانيين، وهو الرهان الخارجي، بيد أن الرهان الداخلي باليد حسب ما درجت عليه عادة الأحداث هنا في البلد ، وربما كان ذلك وراء عدم إعلانه عن نيته ولو لفريق ضيق من الشركاء، وعلى أي حال، فإن الاختلاف في تقييم الموقف معاش خلال أيامنا هذا وقد ينشب كأول بوادر الخلاف في المراكز “العليا” ليُظِل باقي الطيف، ولا يوجد أي شيء داخلي قد يؤثر على عزيز أو يشكل عقبة أمام التوريث بمنطقه أكثر من ذلك. وهذه هي أول مشكلة عميقة سيواجهها التوريث بمنطق عزيز قبل الدخول في تفاصيل اختيار الشخص وجملة القيود التي ستوضع أمامه وطريقة تمريره خاصة عندما تبرز شخصية مهمة من “النظام” تكون مستعدة لقيادة هذا الرأي، فحينها يكون أول انقلاب ديمقراطي حتى وإن كان قائده عسكري. ويُطرح بحماس داخل أوساط الأغلبية وباندفاع إسم ولد الغزواني ضمن هذه المقاربة كدلفين للنظام: فقد ظل بعيدا عن الممارسة الفعلية للسلطة بتناقضاتها التي تثير الكثير من المواقف والإنطاباعات، وعن الملفين المالي والسياسي. بصفة مكشوفة، كما يحسب له نجاح المقاربة الأمنية التي تكاد تكون العمل الوحيد في جعبة النظام الذي تحظى أهميته بشبه انسجام الموريتانيين، وينتمي لمنطقة تتلمس دورها في السلطة كشعور طبيعي بعودة الأمور إلى نصابها. وقد نسبت لمحمد يحظيه ولد ابريد اللّيل المنظر للنظام عند البداية والمعروف بعمق التحليل، الفكرة في تحليل سابق، وبالرغم من ذلك لا يعدو بالنسبة للمعارضة كونه استغاثة بالرمضاء من النار، ذلك أن ولد الغزواني هو حاضنة النظام من خلال دوره المتميز في الحفاظ على السكينة داخل الأغلبية أثناء غياب عزيز أثناء ماقيل عنه -إعماره إطويل – ولا يزال يقوم بتأمين الحكم له وهو الكثير الغياب عن البلد وعن انواكشوط بصفة أكثر، وتقع كل التجاوزات المالية والسياسية الخطيرة بالنسبة لمستقبل البلد ولانسجام المجتمع بين ناظريه، بل يقدم لها كل الدعم في الخفاء، وبالتالي هو امتداد لنفس النظام وإن بنسخة أقل وطأة، وأكثر من ذلك -وهو مدعاة لتمرد النخبة الشابة- أنه استمرار لسيطرة مؤسسة عسكرية يسعون للقطيعة معها. إن عملية التوريث، وفق رؤية عزيز، ستكون أسوأ من بقائه في السلطة، ليس لأنها غير مضمونة وحسب ـ في جو يحرض على الفوضى ـ بل لأنها ستأخذ بعين الاعتبار معايير احترازية دقيقة من أجل تحديد رجل قش حقيقي يتمتع بميزات ومواصفات تحت الطلب، أي أن لا يملك أي ماض ولا مجتمع ولا تجربة ولا محيط، ويتذكر كل لحظة أن كل ما لديه هو هبة من عزيز وحده، وأن لا يشعر مع ذلك أنه أسير، بل مرتاح في أغلاله، بل يحتفظ بصورة مطهرة له، وبالتالي هي مسألة خالصة لعزيز من دون كل الناس والوطن والكتلة السياسية والعسكرية. وهذا يحمل إذلالا لنظامه وكل داعميه أي قطاع واسع من واجهة المجتمع ومن النخبة الوطنية ومن الجيش ومن “الشركاء” السياسيين ، ونكوصا بالدولة وبالديمقراطية خاصة أن عزيز يستبطنه الخلط بين “الدعم والتبعية”، وسواء قبلت الأغلبية أم لم تقبل، فإن إرثا مشحونا بازدواجية الحيف والفساد يصعب تسيره جماعيا أو حتى من طرف “الأمير” الذي يجب أن يكون أسدا وثعلبا في آن واحد حسب الوصف الشهير لمكيافيل، فبالأحرى برجل يسير من الخلف . ليس عزيز في الواقع هو المسؤول الوحيد عن وضعية داعميه أو “شركائه” الهامشية، فلقد تعود من أول وهلة على ممارسة ما يَعرف في “ثقافته” العسكرية بـ “إصدار الأوامر” دون المشاورات، لكن الطبقة السياسية و”الشركاء” لم يحاولوا توقيفه ولو مرة واحدة. إنه طليق وهم مصفدون، فلم تكن كل تلك التغييرات التي لا تصادف قبول كل الناس في الأغلبية ولا في “النظام” بمشاورات مع أحد، ومع ذلك ظلت الأغلبية تمنح لعزيز شرعيته السياسية بصفة دائمة وتلقائية، بل وتوقع له صك غفران وتلتزم بدور الدعاية والترويج والتعبئة الجماهيرية لأي عمل يريد القيام به بطريقة تصوفية لا يحصل أصحابها على تحقيق مكاسب سياسية ملموسة، ولا إمكانية التدخل فيها لإصلاحها أو تقويمها مثلهم مثل “عيسو” التوراتي الذي باع بكوريته بصحن من عدس، فأي مآثر شخصية هذه !!!. وهكذا لا يتوقع عزيز الضغط عليه من طرف الأغلبية للتخلي عن فكرة التوريث حسب رغبته حتى وإن كان ذلك مثل باقي الأمور التي لم تكن راغبة فيها. إن الفراغ الذي تتركه الأغلبية في لعب دور الشريك بدل التابع الخاضع، وهي تملك مخزونا كبيرا من الطاقات والأوزان والخبرة، وقبولها بالمقاعد الخلفية، واعتصامها بالخنوع طوال الوقت، وتجرع كأس التهميش، وأكثر من ذلك تحمل أعباء الارتجال وجريرة القرارات بوصفها وعاء شرعية النظام، أخلاقيا وسياسيا، لا يمكن فهمه في أي أمر من أمور الدنيا خارج القبول بالمهانة.
لا يختلف وضع الجيش عما عليه الأغلبية، فبالنسبة للجنرالات فهم فعلا يرتدون بزات ذات تطريز وبهرجة تختلف عن باقي الجند تعظيما مبالغا فيه للرتبة ، لكنها في الواقع ليست إلا عطية دون أن تضمن لصاحبها أي شراكة حقيقية في ما يدور بالنسبة لمستقبل البلد ودون أن يكونوا شركاء في السلطة يقررون الحال والمآل خلف الستار كما في السابق، بل يحافظون على السلطة ليمارسها عزيز وحده، وذلك هو السبب في توجيه الاتهام لمؤسستهم ـ وهو اتهام في محله ـ بأنها هي الجاثمة على المسار بوصفها صاحبة التأثير الحاسم على السلطة والرافضة لأي تناوب ديمقراطي حقيقي، وأنها نكثت عهدها مع الشعب خلال المرحلة الانتقالية السابقة التي منحت فرصة جيدة لإعادة تحديد خطوط التوافق والمسؤوليات اتجاه الدولة والنظام، خاصة أن الذين شكلوا مركز الأحداث منذ 2005 ما زلوا في واجهة السلطة جاثمين على المؤسسة يحملونها تراكمات الفشل السياسي وتبعات قرارات السلطة وتناقضاتها ويتصرفون باسمها بوصفها هي الحقيقة والباقي إنما هو كليشيهات أي تمثلا للمسلمة القائلة ان “المصدر الحقيقي للسلطة ليس صناديق الاقتراع بل فوهات المدافع” وفق التعبير الشهير لماوو اتسي تونغ. وهذا ما يفسر أكثر من أي شيء آخر استمرار تسيير سلطة ساخنة تموج في الاضطرابات والأزمات وتستمر في ممارسة السيطرة والاحتفاظ بمظاهر القوة رغم ضعف كافة المؤسسات المدنية. صحيح أن المؤسسة العسكرية ظلت تحتفظ بالسلطة منذ 1978 لكنها في سياقات وبأنماط تختلف كل الاختلاف عن وضعها اليوم. إنها مرحلة استثنائية في تاريخ البلد من موت الشهامة وانعدام تحمل المسؤوليات الوطنية والتاريخية، ويمر من خلالها البلد على دروب مفزعة، وهو يساق نحو حتفه، وذلك بمباركة من البناء الداخلي “للنظام” الذي يعطي لعزيز الاستمرار في امتلاك زمام المبادرة الدائم ويعطيه فسحة في تحديد تاريخ الأمر الواقع، حصرا. وهكذا يتصرف عزيز براحة تامة، عكسا لما يذهب إليه أصحاب المماحكات من محاولة الربط بين الحديث عن التوريث وتجديد هياكل الحزب الذي ظل يواجه انعدام موارد ودعاية مضادة من قلب النظام جعلته هامشيا حقبة من الزمن، وكان الاعتقاد سائدا بأنه سيتبع مصير المحكمة السامية عندما تم إنشاء عدة أحزاب للترشحات من تحت عباءات أو لحاف شخصيات نافذة من طرف النظام وتم ركن الحزب في زاوية من دون أي وظيفة في “النظام “، ولم تسند له أي مهمة، ولم يملك أي استقلالية كحزب سلطة، وقد ظل منذ تأسيسه حزبا شخصيا لعزيز ، فقد أسسته المجموعة التي انسحبت من حزب عادل بأوامره في أتون الصراع مع الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، وليس من أحزاب البرامج أو المواقف أو الرؤى، وليس ثمرة لقاء مجموعة من الشخصيات أو نقاش حول رؤى أو تصورات معينة. إنه حزب أسسه رجل في السلطة من أجل بعض المهام التي يحددها هو ولا يمكن الخروج عنها. وهذه هي الفكرة السائدة عند العسكر عن الأحزاب، ولا يمكن أن يكون موضعا لتسيير السلطة أبدا. وفي هذا الصدد يظل عزيز -شاء أم أبى- أحد تلامذة معاوية الذي أخذ عنه بكل ترسخ فكرة تركيز السلطة في يد شخص الرئيس وتمييع قوة ودور باقي المراكز في الدولة والسياسة والأشخاص، وقد أدلى واحد أكبر الشخصيات استقامة خلال حكم معاوية أن معاوية قال له بالحرف ان “المسؤولية لا تتجزأ” وأنها “لا تترك في يد أي أحد بل يجب أن تبقى في يد شخص واحد” هو الرئيس. وهكذا لم يتمتع الحزب في يوم من الأيام بقوة المركز إبان الديمقراطية العسكرية، ففي السابق عقب انتخابات 2001 تم التخلص من أمين عام الحزب الجمهوري حينها، ليس لأن الحزب انهزم في أماكن كان لابد أن ينهزم فيها مثل نواكشوط وازويرات وسيلبابي، لأسباب موضوعية منها أن ولد الطائع فقد دعم أكثر من ثلث الناخبين منذ 1992 بسبب سوء الحكامة وتأثير ذلك على المدن الكبيرة، وكذلك التنازلات التي جسدتها الإصلاحات الانتخابية في ضوء شعار المساومة مع النظام الذي تبناه اتحاد قوى التقدم، أو لأن الحملة كانت فاشلة، بل لأن محمد يحظيه ولد المختار الحسن أضاف جرعة إستقلالية قليلة على هامش تسيير الحملة وفرض بعض الترشيحات خروجا على توصيات لجان الحزب حينها، وأخذ يضفي وزنا طفيفا على الحزب مرتبطا بشخصه، فتم إخراجه من النظام تماما . وهكذا فالأحزاب السياسية في عهد الديمقراطية العسكرية ليست وظيفية ولا مؤسسية ولا تدخل في لعبة التوازنات بالنسبة للسلطة، لكنها ضمن مظهر الديمقراطية الشكلية التي تـُزَور فيها الانتخابات وتغلق فيها القنوات الفضائية وتسلب فيها حريات الأشخاص حتى أصحاب الحصانة البرلمانية، وتبرم الدولة علاقتها مع الدول الأخرى على أساس مضايقة أو تسليم مواطنيها لأسباب لا تتعلق بأمن الدولة بل شخصية لأبعد الحدود.
إن فكرة تفعيل الحزب أو تحضيره ليلعب دورا مميزا في التهيئة للمستقبل، في ضوء الحديث عن التوريث، غير واردة لأن المناخ والوضع غير صالحين بصفة عامة لكي تلعب الأحزاب أدوارها بفاعلية، ولا يتوقع أن تكون هي الكرسي للمناسب للإستمرار في تسير السلطة على طريقة عزيز ، فهي لا تعطي أي نفاذ حقيقي على التسير اليومي للدولة ولا تمكن من دوام تسير قوات الأمن ،خاصة الحرس الرئاسي ،كما أن وضعا غير هذا الوضع لا يناسب طموح أصحاب السلطة الحاليين وتفكيرهم المستقبلي، فيجب أن يظل الوضع غير صالح للمنافسة ولا لصراع الأفكار والبرامج، لكي لا تجد القوى الوطنية الفرصة للتتوحد خلف مرشح مستقل مثل ما وقع في كثير من البلدان كالسينغال وغامبيا ومالي وبوركينا فاسو، بل من أجل أن تظل القبضة صارمة على المسار، وهكذا فإن إعادة تنظيم الحزب ليست إلا توبيخا لطيفا لولد محم، دون أدنى سبب، ويندرج في سياق تبني قرار جديد في ضوء الضغوط على عزيز من أجل تغيير بطانته التي كانت السبب في “الوضع القائم”، وهو مخرج يهدف لتزكية عزيز وتجديدا لمصداقيته الشخصية تروج له بطانته الخاصة، وقد انتظرت الساحة تغييرا كبيرا لتزين الخراب بعد عودته ـ من عطلة لم يبرحها أصلا ـ لكي يتبنى قرار شاملا يحمل الحكومة أو الحزب إو كليهما الفشل السياسي والاحتقان ومظاهر الأزمة الإقتصادية ، لكن يبدو أنه يشك في وجود أي شيء من ذلك ويملك سببا خاصا للاحتفاظ بالقطبين الشكليين المهمين حوله: رئيس الحزب والوزير الأول الذيْن شكل عدم تفاهمها تقهقرا دون شك لأهداف التنسيق يصعب معه الخروج بمفهوم واضح “للنظام “، وقد ناثرا أوراق عزيز نفسه على نحو يصعب جمعها بعده دون مسح الطاولة. وهكذا تكون تلك الخطوة ليست سوى لمجة إعلامية في انتظار وليمة غير محضرة دون أن تكون ضمن أي رؤية أو استجابة لوضعية سياسية، فلا يشعر عزيز لحد الآن بالحاجة لأي تغيير ما دام ينوي ترك الأمور على ما هي عليه، خاصة أنه لا يشعر بأي ظروف ضاغطة لكي يجد نفسه مضطرا للتعاطي مع ما تريده أغلبيته أو على الأقل ما تريد سماعه ،