الأخبارمقالات و تحليلات

الأخلاق في زمن فيزياء الكم / بقلم : أحمد المسلماني

أحمد المسلماني
كاتب مصري- رئيس مركز القاهرة للدراساتالاستراتيجية.

ما الذي سيحدث في العالم لو انطفأت الشمس فجأة؟.. حسب كثير من العلماء فإن الشمس تسير إلى نهايتها، ولكن الوصول إلى نقطة النهاية قد يستغرق خمسة مليارات سنة. ولكن ماذا لو حدث ذلك الآن وبشكل مفاجئ؟

ترتبط الأرض بالشمس من حيث الضوء والجاذبية، فالأرض تدور حول الشمس بفعل جاذبية الشمس، وتقوم الحياة على الأرض استناداً للضوء القادم منها، فهو الذي ينير القمر، ويضيء العالم، ويحفظ الحياة البشرية والحيوانية والنباتية.
وفي حال الانطفاء المفاجئ للشمس ينتهي ضياء الأرض في أقل من 10 دقائق، كما ينتهي نور القمر، وستستمر الحياة على الأرض طبيعية لمدة ثماني دقائق ونصف دقيقة، وهى المدة التي يستغرقها الضوء للوصول من الشمس إلى الأرض، إذْ يسير الضوء بسرعة 300 ألف كم في الثانية، وتبعد الأرض عن الشمس 150 مليون كم، وما إنْ يصل آخر ضوء للأرض حتى تنطفئ أنوارها، ويسودها الظلام الأبدي.
 وبانتهاء الجاذبية والضوء يصبح الكوكب هائماً في الفضاء، وسيظل كذلك إلى أن يصطدم بكوكب آخر، أو أن تكتب له الحياة من جديد إذا ما اجتذبته شمس أخرى وبمقاييس مناسبة. وحتى ذلك الحين سيكون عالمنا كوكباً جليدياً أسودا.. ثلوج بلا حياة ولا ضوء.
 وفي الضفة الأخرى من الفيزياء لا يدرس العلماء حالةَ النجوم والكواكب وحركة الأفلاك والمجرات، ولكنهم يدرسون الجسيمات الصغيرة للغاية، كالذرات والجزيئات، والعوالم دون الذرية. ويسمى الحقل الذي يدرس تلك الأشياء متناهية الصغر بـ«ميكانيكا الكم».. وهو فرع من فروع الفيزياء الحديثة، لكن قوانينه مغايرة لقوانين الفيزياء الكلاسيكية.
بين الفترة والأخرى يرصد العلماء جديداً غريباً في ذلك الحقل، وهو ما يسميه الإعلام «غرائب عالم الكم». والمثال الأشهر على ذلك هو ما يُطلق عليه العلماء اسم «التشابك الكمي».. حيث يمكن لجسيم ما أن يوجد في أكثر من مكان في وقت واحد، ويمكن أن توجد علاقة أو ترابط بين جسيم في الأرض وآخر في الفضاء في الوقت نفسه، ومن دون اتصال بينهما!
ويشير مصطلح آخر هو «ازدواجية الموجة والجسيم» إلى أن بعض الجسيمات تتصرف كموجات وأيضاً كجسيمات في الوقت نفسه. وهناك مصطلح ثالث هو «عدم اليقين الكمومي» حيث لا يمكن معرفة الحالة التي عليها الجسيم إلاّ عند لحظة القياس فقط، فقبل ذلك لا يمكن القياس، إذْ لا قوانين حاكمة أو ثابتة أو عامة مثل قوانين الفيزياء الكلاسيكية.
يبدو الأمر وكأن كل القياسات في عالم الكم غير صحيحة، فهي متغيرة دوماً، ومرتبطة بلحظة القياس، ولا يمكن البناء على ثباتها. وإلى حد كبير يمكن القول بسقوط المنطق في عالم الكمّ!
لقد أصبحت فيزياء الكم مهمة ومثيرة، ثم إنها فيزياء المستقبل. وحسب بعض مؤرخي العلم، فإن «العصر الرقمي» الذي نحياه ليس نهاية التاريخ، فهناك العصر الكمي أو العصر ما بعد الرقمي. ويشهد العالم الآن الانتقالَ من «الإنترنت الرقمي» إلى «الإنترنت الكمي»، والذي يسمى «البرين نت»، حيث يرتبط المخ البشري بأعمال الحاسوب.
 وهنا نأتي إلى «الحاسوب الكمي»، أو بتعبير أصعب «الحوسبة الكمومية»، حيث يتم تطوير حاسوبات مذهلة لا يمكن مقارنتها على الإطلاق بإمكانات الحاسوبات الحالية.
 يواصل العلماء إبهارنا يوماً بعد آخر، وقد ذهب بعضهم بعيداً، حيث قال بتعدد الأكوان والعوالم، وبأن الشخص نفسه موجود في العديد منها في وقت واحد!
قبل سنوات طويلة التقيتُ الكاتب المصري أنيس منصور في مكتبه بصحيفة «الأهرام»، وكان من بين كتبه التي تحدثنا عنها كتابه «هذه الأشياء الصغيرة». وقتها قال لي أنيس منصور: عليك أن تعلم أن الصحافة والسياسة والحياة بأكملها.. ليست هي الأشياء الكبرى والعبارات الشاهقة، بل هي التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل.. هي هذه الأشياء الصغيرة. ثم قال: الأشياء الصغيرة هي في الواقع الأشياء الكبيرة.
وقد استمعتُ لاحقاً لأحاديث الدكتور أحمد زويل عن الأشياء متناهية الصغر، ولطالما تحدثتُ معه في وحدات المكان النانونية ووحدات الزمان الفمتوية.. ولم أكن قد قرأتُ في فيزياء الكم ما يصل إلى حد إبطال قوانين الفيزياء في ذلك العالم الجسيمي متناهي الصغر.
وقبل أسابيع قرأتُ لأحد العلماء رؤيتَه في أن الوعى والضمير الإنساني هو وعي كمّي، وأنه يمكن تعديل وإصلاح الضمير عبر التدخل الكمي واستخدام الحاسوب الكمي! فذلك الحاسوب لن يفيد في القضاء على أمراض مستعصية وخطيرة فحسب، بل سيمكنه العمل أيضاً في الوعى والإدراك.. بقدر العمل في الدواء والمجالات الأخرى.
يا إلهي.. لقد قضى العصر الرقمي على نسبة كبيرة من القيم والأخلاق، فقد أظهر الناسُ للناس ما كانوا يقولونه في حجرات منازلهم أو مقاهي قراهم أو بين حفنة قليلة من أقرانهم. أصبح السَّفه الشخصي المحدود سفهاً عاماً يطير إلى جنبات الأرض بسرعة الضغط على الهاتف.
ماذا عسانا أن نكون إذن في العصر الكمي، وما الذي ستكون عليه أخلاق الإنسان المعاصر، حيث يصبح ممكناً التدخل الكمي في الوعى والقيم؟
ما أمتع العلم وما أخطره، وما أعظم العلماء وما أتعبهم.. إنهم يخطُون كثيراً في معاملهم، ويتخبّط العالم في أخطار نتائجهم.. يصنعون المجدَ ويحصدون الجوائز، ويتباهون بسيرهم الذاتية.. ثم يتركون عالماً يمتلك كل شيء ولا يمتلك أي شيء.. يمسك أسباب السطوة بإحدى يديه، وأسباب النهاية في يده الأخرى!

المصدر : الكاتب + الاتحاد الاماراتية 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى