الاعلامية البارزة زينب الجد تكتب للصدى : احتفالية انواكشوط: الذاكرة، الهوية، العمران..!!

المصدر : الكاتبة /
أتى تنظيم فعالية انواكشوط عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي لعام 2023، في إطار برنامج منظمة العالم الإسلامي للتربية والثقافة والعلوم، (إيسيسكو)، للاحتفاء بعواصم الثقافة في العالم الإسلامي.
وتتسلم الحكومة الموريتانية مشعل عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي هذا العام، بعد أن اعتذرت سنة 2011 بسبب عدم جاهزيتها لتنظيمها، وتضمن حفل الافتتاح عرض فيلم وثائقي عن الدبلوماسية الثقافية الوطنية، في استعراض للدور الذي لعبه الموريتانيون منذ القدم في نشر الوعي والثقافة وبث العلوم والمعرفة في قارة أفريقيا خاصة.
ومن أهداف الاحتفالية الرئيسة، التعريف بانواكشوط القديمة التي يعود تأسيسها إلى الألف الأولى قبل الميلاد، عندما هاجرت قبائل بربرية قادمة من شمال أفريقيا إلى المنطقة، وهيمنت عليها وجعلت منها جسرًا للتواصل بين غرب أفريقيا ووسطها، وجلبت هذه القبائل معها الجياد والجمال التي سهلت التبادل التجاري.
وتحتفظ المدينة الأطلسية بمخطوطات عربية تعود أقدمها إلى القرن التاسع الميلادي ولا يزال العمل جاريًا على جمعها وحفظها ورقمنتها، أو هكذا يقول القائمون عليها، حيث تقدر إحصاءات «المعهد الموريتاني للبحث العلمي» حسب المعلومات التي توفرت لدينا، أن عدد المخطوطات الموريتانية بقرابة أربعين ألفا، موزعة بين مكتبات المدن الأثرية الكبرى الموريتانية.
كانت انواكشوط قد تخلت عن تنظيم نفس التظاهرة في العام 2011، بحجة عدم الجاهزية.
فهل ياترى كانت انواكشوط جاهزة هذه المرة لهذه الاستضافة، التي تتطلب كما هائلا من المدعوين وتقديم “قائمة نوعية” عليها يقتات هؤلاء الضيوف طيلة مقامهم ومنها يخرجون بثمرات؟.
بتعبير آخر هل ستختتم هذه السنة بتوصيات تشفي غليلنا، فنمير موروثنا، ونحفظ ثقافتنا ونزداد تعريفا بأنفسنا في المحافل الدولية؟
لايمكن الحديث عن نشاط كهذا دون الأخذ في الحسبان لهذه الأبعاد الأساسية بعين الاعتبار، والتي من ضمنها مثالا لا حصرا:
– بنية تحتية عمرانية راقية ومطواعة
– وذاكرة جماعية عليها يستند في الرواية والقراءة، وهذان هما الرافدان المشكلان للهوية الجماعية التي هي متكأ وجود أي مجتمع ثقافيا وحضاريا.
وبما أن الهوية هي مجمل السمات التي تميز شخصا او مجموعة او ثقافة، كل منها يحمل عدة عناصر هي المشكلة لهويته، وبما أن الهوية مفهوم حركي ديناميكي يمكن أن تسود بعض مكوناتها او كلها في مرحلة معينة، وقد تتنحى في أحايين أخرى.
والعناصر التي تبلور هوية جماعية كثيرة أهمها اشتراك الشعب أو المجموعة في الارض، اللغة، التاريخ….،فإلى أي حد تمظهرت هوية بلاد شنقيط تاريخيا وثقافيا؟
لهذه البلاد خصوصيتها في الهوية الثقافية وهي أنها في الغالب ثقافة شفاهية ومنفصلة، مرتبطة بالظعن والترحال، وفي قول المختاربونه الشهير خير دليل على ذلك.
فهي ثقافة انتجاعية، يشرق أصحابها ويغربون وهم على ظهور العيس، الشيئ الذي منع من تشكل هوية عمرانية ذات خصوصية محلية.
فباستثناء الحواضر التاريخية المعروفة والتي تتسم كل واحدة منها بفن معماري يكتسي طابعه من منبعه في الحضارة العربية والاسلامية، أو ماكان من تقر متواضع في منطقة او اثنتين ، باستثناء ذلك ظلت هذه الثقافة رهينة الصناديق والملكيات الشخصية دون بلوغ مرحلة تبني عمومي لهذه المكتبات أو الثقافة، أو في أدمغة أصحابها يعلمون منها البعض تلقينا، ويرحلون بالباقي.
وجدير بالذكر أن هذه المسألة تأثرت كثيرا بطبيعة الحكم السياسي في البلد.
فقد تميزت بواكير نشوء الدولة الحديثة بحضور للروح الوطنية ومحاولة جمع المخطوطات والتراث والمحافظة على ذلك.
وفي مرحلة لاحقة، ومع تتالي الانقلابات فقد شهد مفهوم الدولة نفسه ارتكاسات ألقت بظلالها على المنحى الثقافي في البلد.
فكم عالم، وحافظ متون، ومجيد في اللغة والنحو والشعر، دفن معه علمه،؟
وكم متنا جرفته السيول، وكما كتابا ظل حبيس صناديق أسرة إلى أن التهمه التلف والبلى، ولم تعد الاستفادة منه ممكنة؟
ففي الوقت الذي كانت الحضارة العربية والاسلامية تشهد كبوة وانحسارا، كان المد الاسلامي والثقافي والتعليمي على أوجه في بلاد شنقيط، إلا أن عدم الاستقرار والظعن المتواصل لأهل هذه الربوع، بالغ الأثر في انتفاء عمران او استقرار، أحرى أن يتشكل عمران يحمل هوية محلية.
هذا البعد بالتداخل مع غيره، حال دون وجود تجمع سكاني حاضن، ذلك أن نقاط المياه ووفرة الكلأ هما بوصلة سكان هذه الأرض، فحيثما يمم البرق يرسلون رائدا وينتجعون على أثره، الشيئ الذي لم يقتصر تأثيره على عدم الاستقرار فحسب بل ألقى بظلاله على ثقافة وسلوك الأفراد ونفسياتهم.
كل هذه العوامل ساهمت في عدم تشكل وعي جماعي بضرورة التقارب والارتباط، بل احتفظت كل قبيلة بحيزها الجغرافي.
وعلى الرغم من ذلك فإن الهوية الثقافية لهذا المنكب في بعدها النظري والتعليمي امتدت من هنا إلى حوض النيجر ومصر مثالا لا حصرا( ولد التلاميذ، لمجيدري ) وغيرهم وانتشرت على طول شريط الصحراء الكبرى، إلى الكغرب، و حدود تندوف.
ولكن هل كان لهذا الانتشار الأفقي انعكاس على المستوى المحلي (الوطني فيما بعد)؟
يمكن الجزم بوجود هذا الامتداد إلا أنه لم ينحسر عن وجود عمران، وبالتالي فإن الحاجات التي كان من المفترض أن يولدها العمران أو التمدن لم تحصل؛ ذلك أن الانسان الاجتماعي هو من يصنع للمكان قيمته ومكانته وكذلك الثقافة لا تفهم من خلال المكان بل العكس، والفكر هو الذي يفسر الظواهر الاجتماعية والثقافية ويعكس الصيغة النهائية للثقافة.
ولذا فإن انعدمت هوية عمرانية محلية متميزة، وظلت دلالة الانتماء ضعيفة، الشيئ الذي ظهر جليا في عدم وجود أحياء سكنية متراصة ذات دلالة على تماسك الافراد داخل المجتمع الواحد.
فلم يكن هناك ارتباط تراكمي بالمكان إلا نادرا( الحواضر التي سبقت الاستقلال).
كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى ضمور الهوية العمرانية في هذا البلد.
هذه الوضعية التي تحدثنا عنها ومع موجة الجفاف، لجأ الناس إلى الهجرة من البادية إلى العاصمة والتي هي في الحقيقة ليست سوى ريف متقر، أو قرية ريفية.
هذه العاصمة مازالت إلى اليوم تنصب الخيمة أمام البيت “وتدجن” الإبل، و يكثر” اخيامها لكبارات” الرماد على طريقة صخر الخنساء.
مع ما لهذه القيمة(الكرم) من شحنة إيجابية، فإن هذه الحواضر الريفية لم تنجح في تهذيبها مدنيا وفي ذلك دليل آخر على ظاهرة استنساخ كل ماهو بدوي، ومحاولة استنباته في ” العاصمة الريفية” ( المدينة). الشيئ الذي لم تسلم منه احتفاليات انواكشوط لهذا العام، فقد خلدت هذه التظاهرة بأعلام قبلية وليس علماء وطنيين؛ ذلك أن سكان هذه الأرض والقائمين عليها سياسيا لم يتذكروا الجرم الذي اقترفوه في حق الدولة الوطنية التي يفترض أن يكونوا حماتها، لم يتذكروه إلا بعد أن كثر اللغط على وسائل التواصل الاجتماعي حول انتماء كل علم لإتنيته في تحد صارخ لمفهوم الدولة الوطنية والتي تم تنظيم التظاهرة أصلا من أجل سيادتها، أو هكذا يفترض.
هذه العوامل مع جوانب كثيرة أخرى لا يتسع المقام للحديث عنها هي التي أضاعت تراث هذا المنكب والذي تفرق أيدي سبأ، فلكل دولة من دول الجوار قسطها الذي استأثرت به وبقيت موريتانيا تغني سمفونية القبيلة والجهة والشرائحية.
فهل ياترى ستقف الدولة الوطنية على قدميها وتتكفل بحفظ السيادة الثقافية والاقتصادية والأمنية للبلد؟
أم أن الشعب سيظل رهينة؟
أم أن أباطرة الإفساد وحداة الإبل وتجارالرذيلة والمشعوذين سيواصلون التمسك بكلمة السر في هذه البلاد، عاكفين على أصنامهم؟