عصرنة نواكشوط: إنجازات سطحية أم رؤية بنيوية؟ عالي محمدولد ابنو

تشهد العاصمة نواكشوط خلال هذه الفترة حملة واسعة لسفلتة الشوارع في مختلف المقاطعات، وهذه الخطوة رغم ظاهرها الإيجابي، تطرح سؤالًا أساسيًا .. هل يُعقل أن نُعبّد الشوارع قبل إنشاء شبكة الصرف الصحي؟
في مدن العالم الحديثة يبدأ التخطيط من عمق الأرض عبر شبكات تصريف المياه والمجاري الصحية؛ لأنها الركيزة الأساس التي تُبنى عليها الطرق والمنشآت. أما في نواكشوط، فالمعادلة تبدو معكوسة؛ تزويق السطح وتجاهل العمق .. فقط لأن الشوارع تُصوَّر وتُسوَّق للجمهور، بينما الصرف الصحي لا يُرى، ولا يُدرّ أرباحًا سياسية سريعة
فكما هو معلوم، لا يُعقل أن تُعبَّد الشوارع قبل أن تُؤسَّس تحتها شبكات الصرف الصحي؛ فكل مدينة تبدأ من تحت الأرض، لا من فوقها، لأن الأساس البنيوي لأية حياة عمرانية سليمة يبدأ من معالجة مياهها وتوجيه صرفها، لا من تزويق طرقها.
صحيح أن تعبيد الشوارع مشروع مرئي وجذاب للعين، يُمكن تصويره وتسويقه للرأي العام بسهولة، بينما تظل مشاريع الصرف الصحي مخفية عن الأعين وأكثر تكلفة وتعقيدًا؛ ولهذا السبب غالبًا ما يُفضّل بعض المسؤولين أو أصحاب القرار المشاريع السطحية التي تمنحهم مجدًا سريعًا ومؤقتًا، حتى وإن كانت تلك المشاريع لا تصمد طويلًا أمام أول زخة مطر.
والنتيجة معروفة .. شوارع جديدة تنهار خلال موسم الأمطار، تتشقق وتُجرف، لا لشيء إلا لأن أساسها كان هشًّا، بل معدومًا في بعض الحالات؛ فما إن يحل الخريف، حتى تتحول الإنجازات إلى مستنقعات، وتتشقق الطرق الحديثة، ويتكرر المشهد الذي حفظه المواطن عن ظهر قلب.
ولعل الأخطر من كل هذا ليس الجانب العمراني فحسب، بل المخاطر الصحية الكارثية التي تنجم عن غياب شبكة الصرف الصحي؛ إذ يؤدي اختلاط مياه الأمطار بمياه الصرف المنزلي الراكدة إلى تكوُّن برك آسنة تنبعث منها الروائح الكريهة، وتتحول إلى بيئة مثالية لتكاثر البعوض والحشرات الناقلة للأمراض .. في مثل هذا المناخ تنتشر أمراض خطيرة مثل الملاريا، وحمى الضنك، وحمة التيفوئيد المعروفة محليا ب”حمة لمصارين”، والكوليرا، والجرب، وأمراض الجهاز التنفسي، خاصة في الأحياء الفقيرة والمكتظة بالسكان، وتتحول نواكشوط، بدلًا من أن تكون مدينة عصرية، إلى بؤرة تهدد صحة سكانها ومستقبل أجيالها.
وإذا نظرنا إلى البعد المالي التربُّحي للمسألة، فقد نفهم لماذا تميل بعض الجهات النافذة إلى تفضيل مشاريع السفلتة على حساب مشاريع البنية العميقة. فالسفلتة، خصوصًا عندما تُنفّذ بمواصفات منخفضة الجودة، لا تحتاج إلى خبرة كبيرة، ويمكن تمريرها بسهولة إلى شركات ناشئة أو حتى وهمية بأسماء بعض الأصدقاء أو الأقارب أو المعارف، بينما تعود ملكيتها الحقيقية إلى المسؤول نفسه أو شركائه الخفيين .. هذا النوع من المشاريع يصبح بوابة للربح السريع وتوزيع الغنائم، في حين أن مشاريع الصرف الصحي تتطلب خبرة فنية دقيقة، وتجهيزات متطورة، وشركات متخصصة لا يمكن التلاعب فيها بسهولة، ما يجعلها أقل جاذبية لمن يبحث عن “مكاسب تحت الطاولة”.
أما من يريد “الإنجاز الحقيقي”، فطريقه أطول، وأصعب، وأقل بهرجة، لكنه أكثر نفعًا واستدامة؛ هو من يبدأ بالصرف الصحي، ثم يُشيّد فوقه الشوارع، لأن العمران لا يُبنى على الرمال المتحركة ولا المبللة ولا على الوهم.
نواكشوط اليوم بحاجة إلى رؤية حضرية شاملة لا تكتفي بالتجميل المؤقت، بل تسعى لعلاج جذور الخلل الهيكلي الذي يعاني منه نسيجها العمراني؛ فهي ليست فقط شوارع معبّدة، بل هي حياة بشر، وبيئة، واستدامة.
إن ما يحدث اليوم في نواكشوط ليس تخطيطًا حضريًا بقدر ما هو تجميل سياسي مموَّه، يغلّفه الأَسفلت وتدفعه الطموحات السياسية أو مصالح شبكات النفوذ .. المشاريع التي يُفترض أن تُبنى لأجيال، تُنفّذ بعقلية “الفرصة الأخيرة” لا بعقلية “المدينة المستدامة” .. وحين تُدار المدن بعقلية المقاولات بدل الرؤية، تصبح الأرصفة واجهةً للتضليل، والإنجاز مجردَ مكياج على جلد أجرب، أو طلاء هش فوق واقع مُتعفّن.
ولا يمكن لأي نهضة عمرانية أن تقوم على أساس الفساد والتلميع والسطحية، فنحن نحتاج اليوم إلى رجال دولة لا رجال صفقات، إلى مسؤولين يرون في الصرف الصحي مشروعًا إنسانيًا قبل أن يكون مظهرا جماليا، وإلى إعلام حرّ ومجتمع يقظ يُحاسب لا يُصفق.
لكن للأسف، فإن الإعلام وبالخصوص الإعلام الحر الذي يُفترض به أن يكون ضمير المجتمع وسياج الحقيقة، تحوّل في كثير من الحالات إلى بوقٍ دعائي مقنّع وخفي للسلطة وإن تظاهر بغير ذلك؛ فهو يُقصي ويحجب المقالات الجادة ويُلقي بها في سلة المهملات، خشية أن يُغضب مصادر تمويله، ومن يحافظون على تصدره في المشهد، ويحمونه من المتابعة القضائية، ويضمنون استمراره. وفي المقابل يُروّج لغثاء النقد السطحي؛ ليبدو في نظر الجمهور كأنه محايد وموضوعي، بينما هو في الواقع لا يفعل أكثر من إثارة الغبار لحجب الحقيقة .. يُغطي السفلتة ويغض الطرف عن الأساسات .. يُشيد بالطلاء ويتجاهل الصدأ .. إعلام مُدجّن يُجيد تزيين العجز وتبرير الرداءة، لا مساءلة الفشل.
وما لم يتحرر الإعلام من وصاية الإشهار السياسي، وما لم يتعلم المجتمع أن يقيس المسؤولين بميزان الإنجاز العميق لا المظهر الخادع، فستظل نواكشوط مدينة تُطلّ من فوقها شوارع جديدة، وتختنق تحتها مجارٍ مسدودة، وأحلام مؤجلة.