“مبادرة مستقبل الاستثمار” تكشف ملامح السعودية الجديدة
السعودية ترسخ موقعها كمركز عالمي لتدفقات رأس المال والتكنولوجيا المستقبلية.. "هيوماين" تلفت الأنظار بصفقات وتوسعات
الصدى (الشرق): . هيمن الذكاء الاصطناعي وآفاقه بالإضافة إلى التمويل والائتمان الخاص على فعاليات “مبادرة مستقبل الاستثمار” (FII) في الرياض، ما أعطى أوضح صورة بشأن كيفية بناء المملكة لاقتصاد المستقبل، واستعدادها لكي تتموضع مبكراً على الساحة الاقتصادية الدولية.
ركزت تصريحات المسؤولين الذين شاركوا في المؤتمر بشكل رئيس على كيفية تذليل مختلف العقبات التي قد تقف عائقاً أمام اقتصاد المستقبل، بدءاً من بناء القطاعات من الصفر، وصولاً إلى تطوير قطاعات قائمة، انتهاءً بتطوير القطاعات المساندة، على غرار وسائل التمويل التي تُعدّ محورية لتطوير أي قطاع.
هيمنت فعاليات “مبادرة مستقبل الاستثمار” في الرياض على الذكاء الاصطناعي والتمويل والائتمان الخاص، مع تركيز على تطوير اقتصاد المستقبل في السعودية. أطلقت السعودية شركة “هيوماين” للذكاء الاصطناعي، واستحوذت أرامكو على حصة فيها. تستهدف “هيوماين” توسعًا عالميًا، بينما تستثمر المملكة في مراكز البيانات والطاقة المتجددة. السوق السعودية تشهد جذبًا متزايدًا للاستثمارات الأجنبية والائتمان الخاص، مع مشاريع كبرى مثل مطار الملك سلمان الدولي.
*ملخص بالذكاء الاصطناعي. تحقق من السياق في النص الأصلي
الإنعكاس المرتقب لهذا التوجه، جاء على لسان وزير الاقتصاد فيصل الإبراهيم، حيث رفع توقعات نمو اقتصاد بلاده هذا العام إلى 5.1%، من 4.4% كما جاء بالبيان التمهيدي لميزانية 2026 في سبتمبر.
الإبراهيم أوضح أن المرحلة القادمة ستكون مبنية على الإنفاق الذكي والموجّه، القائم على إصلاحات هيكلية تجعل النمو أكثر استدامة وجودة، وقال: “ما يجب القيام به خلال السنوات الخمس المقبلة قبل عام 2030 أكبر مما تم إنجازه حتى الآن، وسينطلق من سياسة إنفاق أكثر ذكاء، ومنهجٍ إصلاحي يربط الإنفاق بالإنتاجية لا بالإنفاق وحده”.
كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، شدّد الشهر الماضي على أن المصلحة العامة هي البوصلة العليا التي توجه مسار تنفيذ برامج المملكة الاقتصادية، مشيراً إلى أن الحكومة مستعدة لإجراء “أي تعديل جذري” أو حتى “إلغاء كامل” لأي برنامج أو مستهدف إذا ثبت أنه لا يخدم هذا الهدف.
“هيوماين” تتصدر مشهد الذكاء الاصطناعي
مع إطلاق السعودية لشركة “هيوماين” لتكون رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي ليس في المنطقة فحسب بل في العالم أيضاً، برز اسم الشركة بوضوح في المؤتمر، طارحة رؤيتها بشأن مستقبل القطاع في المملكة.
البداية مع “أرامكو السعودية”، إذ اتفقت مع الصندوق السيادي السعودية، صندوق الاستثمارات العامة، على الاستحواذ على حصة أقلية مؤثرة في “هيوماين”.
تظهر الصفقة التي لم يتم تحديد قيمتها، مدى اهتمام عملاق النفط بالذكاء الاصطناعي، ورهانه بأنه قد يحدث نقلة نوعية في العديد من المجالات.
هذا الرهان ليس استنتاجاً نابعاً من الصفقة فحسب، بل أكدت عليه تصريحات الرئيس التنفيذي أمين الناصر خلال إحدى جلسات المؤتمر، إذ شدد على أن عنصر الذكاء الاصطناعي والرقمنة سيكون حاسماً في عمليات الشركة.
وقال الناصر إن ما يميز الشركة اليوم ليس فقط الاستثمار في الهيدروكاربونات، بل “أيضاً في التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والرقمنة، وهي مجالات تحقق لنا قيمة كبيرة نتيجة استثماراتنا الطويلة الأمد“.
توسع سريع لـ”هيوماين تشات”
أولى تجارب “هيوماين” الواضحة في المجال كانت من خلال إطلاق تطبيق المحادثة “هيوماين تشات” المدعوم بنموذج اللغة الكبير القائم على الذكاء الاصطناعي “علام”.
توسعت قاعدة مستخدمي التطبيق بشكل واضح منذ إطلاقه في أغسطس، إذ كشف رئيسها التنفيذي طارق أمين في تصريحات لـ”الشرق”، أن عدد المستخدمين النشطين في السعودية بلغ 300 ألف، مشيراً إلى خطط للتوسع في 5 أسواق جديدة قبل نهاية العام، من دون أن يسميها. شخص مطلع كشف لـ”الشرق” أيضاً أن التوسع يستهدف دولاً خليجية بالإضافة إلى الأردن وسوريا.
في الوقت ذاته، كشف أمين أن الشركة تتطلع إلى طرح أسهمها في بورصتي الرياض ونيويورك خلال 3 إلى 4 سنوات.
رؤية وتوجهات “هيوماين”
رغم أن “هيوماين” لم تكمل عامها الأول بعد، إلا أن خططها تمتد لسنوات طويلة، إذ تطمح في أن تصبح ثالث أكبر مزود لقدرات الحوسبة في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين، بحسب تصريحات أمين في مقابلة مع “بلومبرغ” على هامش المؤتمر.
أمين وصف خطط الشركة بنشر نحو 18 ألف شريحة في عام 2026، بـ”المرحلة الأولى”، مضيفاً أن الشركة تهدف إلى نشر ما يصل إلى 400 ألف شريحة ذكاء اصطناعي بحلول عام 2030.
وأبدى الرئيس التنفيذي ثقته في أن الولايات المتحدة ستوافق على بيع الشرائح المتقدمة للمملكة بعد أن قدمت الشركة ضمانات للمسؤولين الأميركيين، من بينها عدم شراء معدات من شركة “هواوي تكنولوجيز” الصينية.
من الذكاء الاصطناعي إلى مراكز البيانات والطاقة
يتطلب نشر هذا الحجم من القدرة الحوسبية كميات هائلة من مراكز البيانات. وفي هذا الإطار، أعلنت “هيوماين” شراكة مع شركة الاستثمار الخاص “بلاكستون” لبناء مراكز بيانات في المملكة باستثمار أولي يبلغ حوالي 3 مليارات دولار.
ولأن البنية التحتية الرقمية لا تنفصل عن منظومة الطاقة، فإن هذا التحول نحو الذكاء الاصطناعي يستلزم بدوره تعزيز قدرات المملكة في إنتاج الطاقة المستدامة.
لذلك تضخ السعودية استثمارات ضخمة في مشاريع الطاقة النظيفة وأنظمة التخزين الحديثة، جنباً إلى جنب مع التوسع في مشاريع الطاقة التقليدية، ساعيةً لتحقيق مستهدفها بتوليد نصف احتياجاتها من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة بحلول 2030.
ظهر هذا التوجه من خلال تصريحات وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان، الذي أكد خلال جلسة حوارية على هامش المؤتمر أن المملكة تكثف من مشاريع الطاقة المتجددة والتخزين بالبطاريات إضافة إلى أتمتة شبكة التوزيع بهدف زيادة القدرة الإنتاجية للطاقة الضرورية للاقتصاد الجديد.
الوزير لفت أيضاً إلى أن تكلفة المشاريع ذات السعة التخزينية لأربع ساعات تبلغ حوالي 409 دولارات لكل كيلوواط في السعودية، أي أقل بنسبة 77% مُقارنة بألمانياً، بينما تقترب من الصين التي تصل تكلفتها إلى 404 دولارات، ما يجعل المملكة على مسار أن تكون البلد الأكثر تنافسية في العالم بهذا المجال.
أجهزة إلكترونية “صنع في السعودية”
“هيوماين” ليست الشركة الوحيدة التي تخطط لتوسيع حضورها في قطاع التكنولوجيا، إذ تستعد شركة “آلات”، المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، لافتتاح أول مصنع لها في الرياض لإنتاج أجهزة الحواسيب الشخصية والخوادم خلال العام الجاري، على أن تبدأ تصنيع الهواتف الذكية في العام المقبل.
وقال أميت ميدها الرئيس التنفيذي للشركة، في لقاء مع “الشرق”، إن الشركة تسعى إلى المساهمة في بناء مستقبل يرتكز على الذكاء الاصطناعي والتحول في مجال الطاقة، مضيفاً أن المصنع الجديد سيكون نواة لتطوير الأبحاث والابتكار وبناء الكفاءات الوطنية في مجالات التقنية المتقدمة.
مركز لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية والتمويلات
نظراً لأن مشروعات الطاقة والذكاء الاصطناعي والتصنيع المتقدم تحتاج إلى تمويلات ضخمة، اعتمدت المملكة على التمويل الحكومي، بالإضافة إلى جذب المستثمرين من حول العالم من خلال التسهيلات التنظيمية والحوافز.
هذه الاستراتيجية مكنتها من التحول إلى “مركز رئيسي لتدفقات رأس المال العالمية”، وفق تصريحات لاري فينك، الرئيس التنفيذي لـ”بلاك روك”، أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم خلال مشاركته في المؤتمر.
أحد البراهين على ذلك كان إعلان إتمام شركة “أرامكو” اتفاقية استثمارية عملاقة بقيمة 11 مليار دولار في حقل “الجافورة”، مع ائتلاف مكوّن من مستثمرين دوليين بقيادة صناديق تديرها “جي آي بي” التابعة لـ”بلاك روك”.
اللافت في الصفقة التي أعلن عنها في أغسطس 2025، أن حجم الطلب عليها بلغ 5 أضعاف الاستثمار المطلوب، وفق تصريحات فينك، الذي أشار إلى أن “حجم الأموال الذي كان يرغب في الاستثمار بالمملكة كان عند مستوى قياسي ومن أماكن مختلفة في العالم”.
قوة الجذب لم تقتصر على القطاع النفطي، إذ أكد وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح في جلسة خلال المؤتمر، أن 90% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة تصب في قطاعات غير نفطية، مثل التصنيع المتقدم، والسياحة، وريادة الأعمال، ورؤوس الأموال الجريئة، لافتاً إلى أن “الإنفاق الحكومي لم يعد يعتمد كلياً على النفط، إذ تموّل 40% من الميزانية من العوائد غير النفطية”.
سوق المال السعودية تشهد زخماً متزايداً
هذا الزخم في جذب رؤوس الأموال مهّد بدوره لمرحلة جديدة من تنويع أدوات التمويل وجذب المزيد من المستثمرين إلى السوق السعودية، ما يمكن الشركات المدرجة من توسيع قاعدة التمويلات.
في هذا السياق، رأى هندريك دو توا، الرئيس التنفيذي لشركة “ناينتي وان” أن السوق السعودية تتجه نحو زيادة تدريجية في انكشاف المستثمرين الأجانب، مدفوعةً بالنشاط الاقتصادي القوي في المنطقة وقرار رفع مستويات الملكية الأجنبية في سوق “تداول”، موضحاً أن هذا التطور سيؤدي إلى تمثيل أكبر للسوق السعودية في مؤشرات الأسواق الناشئة، ما يعزز تدفقات رؤوس الأموال العالمية إلى المملكة.
أما بيل وينترز، الرئيس التنفيذي لبنك “ستاندرد تشارترد”، فقال إن المملكة “قامت بإصلاحات مذهلة، وأسواقها المالية تتطور بوتيرة سريعة”، لكنه أشار إلى أن “ضرورة التأكد من توفر الأموال الكافية سواء من داخل المملكة أو خارجها”، معتبراً أن المملكة بحاجة إلى فتح أسواق رأس المال بالكامل أمام دخول وخروج رؤوس الأموال العالمية، مع وضع أطر تنظيمية مناسبة للمستثمرين حتى تتحول إلى مركز مالي عالمي في المنطقة.
عمالقة الائتمان الخاص يتسابقون على صفقات السعودية
لا يقتصر الزخم على السوق المالية، إذ يتسابق عمالقة الائتمان الخاص على الصفقات في السعودية، وهو قطاع كان شبه غير موجود في سوق المملكة قبل عام واحد فقط.
كشف بنك “غولدمان ساكس غروب” أنه يسعى لتوسيع حضوره بشكل كبير في السعودية، إذ يخطط لرفع عدد عامليه في الرياض ثلاثة أضعاف إلى حوالي 60 موظفاً، بحسب المدير التنفيذي للبنك، ديفيد سولومون، في مقابلة مع “بلومبرغ” على هامش المؤتمر.
كما أعلنت شركة “ستيت ستريت” الأميركية، التي تدير أصولاً بقيمة 5.4 تريليون دولار عالمياً، افتتاح مقرها الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الرياض.
اعتبر روبرت أو ليري، الرئيس التنفيذي المشارك في “أوك تري كابيتال مانجمنت”، إن سوق الائتمان الخاص في السعودية يزخر بفرص مهمة بعد أن تم فتحه، إضافة إلى مراكز البيانات.
المشاريع الكبرى مرشحة لحصد الزخم
في ظل توسّع هذه القنوات التمويلية الجديدة، باتت المشاريع الكبرى في المملكة مرشحة لأن تستفيد من زخم الائتمان الخاص والاستثمارات الأجنبية معاً، في وقت تواصل المملكة تمويلها.
ويستعدّ مشروع مطار الملك سلمان الدولي للدخول في مرحلة تمويل جديدة تعتمد على مزيج من الأسهم والسندات، ضمن خطة شاملة لتأمين الموارد اللازمة لأحد أكبر المشاريع اللوجستية في العالم، حسبما كشف الرئيس التنفيذي المكلف لشركة تطوير المطار ماركو ميهيا لـ”الشرق”.
من جهته، أكد جون باغانو، الرئيس التنفيذي لشركة “البحر الأحمر الدولية” أن الشركة تمتلك السيولة الكافية لاستكمال مشاريعها الحالية، كاشفاً أن صندوق الاستثمارات يواصل دعم الشركة مالياً، إذ التزم بتوفير 800 مليون دولار حتى عام 2030 لتمويل البنية التحتية وتطوير مراحل المشروع المقبلة.
وفي هذا السياق، تجري شركة “إنفستكورب” محادثات مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي لدراسة فرص استثمارية محتملة في قطاع المطارات بالمملكة، فيما تقترب من تطوير مطار في الولايات المتحدة.
رسائل سياسية ترسخ مكانة المملكة
وبينما شكّلت الصفقات محوراً رئيسياً، لم يخلُ “FII” من رسائل واضحة حول موقع المملكة في خريطة الاقتصاد العالمي.
خلال النسخة التاسعة، قدم مؤتمر “مبادرة الاستثمار” نفسه بوصفه منصة تجمع قادة العالم والمستثمرين لـ”تشكيل نموذج تعاون دولي من أجل حقبة جديدة من الازدهار”.
وأكد محافظ صندوق الاستثمارات العامة ياسر الرميان أن النسخة الحالية ستنتهي بإعلان “يوحد القادة العالميين في سعينا المشترك لإحراز التقدم للجميع”، مشدداً على أن هذه المرحلة تتطلب من القطاعين العام والخاص العمل معاً لتجاوز التحديات.
وقال الرميان إن العالم يمر بمرحلة تتطلب نموذجاً جديداً للتعاون الدولي من أجل حقبة جديدة من الازدهار، مضيفاً أن “طموحات المستثمرين والشركات تصطدم بالواقع الاقتصادي الراهن وموجة التحولات التكنولوجية.. النماذج القديمة التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة لم تعد صالحة. ولا يمكن للحكومات وحدها تصحيح المسار”.




