الأخبارمقالات و تحليلات

الدكتور الصحبي بن منصور يكتب:نُخب إفريقيا وعلمائها يساهمون في صناعة السلام في زمن الحروب السيميائية

عاش رجال التربية والتعليم في مختلف البلدان الإفريقية خلال الأسبوع المنقضي (من 9 إلى 11 جانفي 2024) على إيقاع الدورة الرابعة للمؤتمر الإفريقي لتعزيز السلم التي انعقدت هذه السنة تحت شعار “التعليم العتيق بإفريقيا: العلم والسلم” وذلك بالعاصمة الموريتانية نواكشوط.

وقد توزعت المحاضرات المقدمة في الغرض على سبع جلسات علمية تعلقت بمواضيع: التعليم العتيق في إفريقيا جذور المعرفة وجسور التواصل، ودور التعليم العتيق في توفير الأمن الفكري ومكافحة التطرف، ودور التعليم العتيق في صناعة السلم الأهلي، والتعليم العتيق وسياق الدولة الوطنية، وقمة المرأة والشباب: التحصين والتمكين، والتعليم العتيق في سياق العولمة، والتعليم العتيق والتعليم الحديث نحو التعاون والتكامل، والتعليم والذكاء الاصطناعي تحدي الأخلاق.
التعليم: بين الأصيل والدخيل:
ما يمكن استخلاصه من متابعة محاضرات هذا المؤتمر ونقاشاته هو أن التعليم العتيق قد حفظ هوية عالمنا الثالث وخصائصه الثقافية، حيث أنّ القائمين عليه والمتخرجين منه ظلوا ثابتين على مبادئهم في وجه السيل الجارف للتغريب ثم للعولمة الشرسة.
وباستثناء مؤسسات عريقة مثل الزيتونة والقرويين والأزهر التي بقيت مراكز إشعاع عبر التاريخ، فإن الدور الذي تضطلع به المؤسسات التعليمية الصغيرة مثل المحاظر في موريتانيا والكتاتيب والمساجد والرباطات ودُور العلماء بإفريقية ظل غير مشهور بالرغم من مساهمتها في حفظ القيم الأصيلة للمجتمعات الإفريقية في وجه القيم الدخيلة التي يتم الترويج لها عن طريق القصف الإعلامي ومواقع الإنترنات ومختلف الفنون لا سيما السينما والمسلسلات والصور المتحركة.
إنّ التعليم العتيق ليس تأخرا عن ركب الحضارة، بل هو من مكوناتها، إذ أنه يمثل في عمقه تأصيلا للمنخرطين فيه في منظومة الأخلاق الفاضلة، وفي العادات والقيم المحلية التي تحفظ النسيجين الأسري والمجتمعي من التفكّك والاضطراب. وهو تعليم محصن ذاتيا من مخاطر عصر التنميط الثقافي والتدجين الغربي للمجتمعات الأقل تطورا منها.
وعلى الرغم من عدم هيكلة التعليم العتيق وضعف موارده البشرية وتقليدية مناهجه فإنه يمكن له أن يستفيد من التقنيات الحديثة في ظل تمسّكه بروح الأصالة التي تعبر عن إرادة تلقائية من الأفراد في التحصيل العلمي الذي لا غاية من ورائه إلا التثقف الذاتي وخدمة الآخؤين وكذلك الجوانب الروحية في البشر، بما يساهم في توارث التجارب والخبرات الإيجابية والخادمة للسلام، لا سيما عن طريق ملاءمة أهدافه مع حاجيات العصر من قبيل مكافحة الغلو والتعصب والتطرف الفكري والديني.
تعليم يُصحّح الأفكار ويُراهن على الذكاء الاصطناعي:
وفي مداخلته بالمناسبة بيّن الدكتور المحفوظ بن بيه أهمية تكاتف الجهود في سبيل مقاومة التطرف عن طريق تصحيح الأفكار قبل أن تصبح أفعالا، مبرزا في سياق متصل أنّ التخطيط للمستقبل الأفضل يتمّ عن طريق التعليم الذي يؤهل أجيال الغد للانغراس في أصالتها من جهة ولكسب رهانات المستقبل من جهة أخرى عن طريق امتلاك الكفاءة في التعامل مع الذكاء الاصطناعي وهذا ما نجحت فيه دولة عربية وحيدة هي الإمارات العربية المتحدة التي بعثت جامعة للتعليم العالي متخصّصة في هذا الحقل المعرفي الواعد، ومشيرا في جانب آخر إلى أنّ دوره يتمثل في مد جسور التواصل بين العلماء وبين صانعي السياسات، لا سيما في ظل اتهام الأديان برفض التطور، الحال الذي يُحّتم بناء جسور بين مجال فهْم الواقع وبين مجال التكنولوجيا الحديثة التي يُعتبر الذكاء الاصطناعي فيها نقلة عظيمة في تاريخ البشرية هي في منزلة اكتشاف الإنسان للنار في العصر القديم.
وأضاف الدكتور المحفوظ بن بيه أن دخول البلدان الإفريقية والعربية إلى عالم الذكاء الاصطناعي يظل رهين التغلب على البيروقراطية الإدارية التي حالت دون تمتّع بعضها بالتمويل الأجنبي اللازم الرامي إلى مساعدتها على خوض غمار التكنولوجيا الأكثر ذكاء في ميادين الصحة والتعليم وغيرها، كما أنّ النفاذ إلى هذا العالم يتطلب كذلك تسييج الذكاء الاصطناعي بالأخلاقيات في إطار رصد آليات رقابة على استعمال التكنولوجيا.
في ريادة مثل هذه المؤتمرات:
تتنزل أهمية هذا المؤتمر الإفريقي للسلام في وعيه بأنّنا نعيش في زمن الجيل الرابع من الحروب البشرية وهو جيل الحروب السيميائية التي تتخذ من العقل ميدانا لها، من أجل التلاعب بالعقول بواسطة سلاح الخداع اللغوي، في مقابل الجيل الثالث من الحروب وهي الحروب الحضارية التي تقوم على تغيير بنية الآخر وأسس ذاكرته ومرجعياته الفكرية، والجيل الثاني من الحروب وهي الحروب الإيديولوجية التي تعتمد صراع البرامج الحزبية والآراء السياسية، والجيل الأول من الحروب وهي الحروب التقليدية التي تعتمد الأسلحة التقليدية.
وهذا المؤتمر هو الأول من نوعه عالميا خلال القرن العشرين على صعيد توظيف التعليم لخدمة قيم السلام، ذلك أن زمن الحروب التقليدية قد شهد انعقاد المؤتمر الإسكندنافي (بين 5 دول) سنة 1919م لتنقية كتب التعليم من سموم التاريخ، ثم انعقاد المؤتمر البلقاني (في 12 دولة) في أربع دورات (من سنة 1930 إلى سنة 1933م) بهدف مناهضة خطاب الكراهية في كتب التدريس، ثم المؤتمر الأمريكي في نسخته الأولى بين البرازيل والأرجنتين ثم بين مختلف دول القارة الأمريكية سنة 1936م، كما أدت جهود عُصْبة الأمم المتحدة (التي تحولت في 1945م إلى منظمة الأمم المتحدة) منذ سنة 1920م إلى تكوين لجنة نزع التسليح المعنوي في برامج التعليم إلى جانب قرارات نزع السلام العسكري، ومكافحة سموم العقل من مخدرات وكذلك من مباحث تُدمغج البشر عن طريق برامج التعليم بما يدفعهم إلى الاقتتال، أما زمن الحروب الإيديولوجية (فترة الحرب الباردة من 1945م إلى 1991م) فقد شهد انعقاد مؤتمر بانودنغ سنة 1955م بهدف الانتصار إلى ثقافة الجنوب المبنية على السلام القائم على الحياد بين المسكرين الغربي والشرقي، وفي زمن الحروب الحضارية (بعد انتهاء الحرب الباردة) انعقدت مؤتمرات من أجل مقاومة التنميط الثقافي وتكريس حوار الحضارات عبر برامج التعليم.
ذلك أنّ المؤتمر الإفريقي لتعزيز السلم في دورته هذه لسنة 2024 قد راهن على تكريس قيم السلام في مواجهة قيم الحرب والقيم الأصيلة في مواجهة القيم الدخيلة وعلى رسم برامج تعليم بمناهج ومعارف تخدم مصلحة الدول الإفريقية وليست أجندات الدول الأقوى بحجة أنها الأكثر تقدما حضاريا، إلى جانب التصدي لسياسة القوة الناعمة التي تعتمدها الدول العظمى لجعل دول قارتنا السمراء تنطق بما يخدم فقط مصالحها.
التعليم الإفريقي: محاضن للعلم وحواضن للسلم:
وخُتمت أشغال هذا المؤتمر القاري بإصدار المشاركين في فقراته بيانا ختاميا أكدوا فيه أن مؤسسات التعليم العتيق إنما هي محاضن للعلم وحواضن للسلم، وأوصوا بدعم الأوقاف في سبيل الحفاظ على ديمومة هذه المؤسسات التي تمثل القيم الإفريقية الأصيلة في مقابل القيم الدخيلة التي ما انفكت العولمة تعمل على تكريسها، لا سيما أن أكبر الجامعات الغربية تستمد قوتها من نظام الأوقاف، كما دعوا إلى ضرورة إنشاء منصة رقمية بهدف جعلها خزانة للمصادر التعليمية، وحتى تقدم الخدمات الاستشارية عن بُعد للقائمين على شؤون تلك المؤسسات، إضافة إلى بعث جائزة في الغرض لأفضل مؤسسات التعليم العتيق الغاية منها تطوير منظومة تسييره الإداري والمالي. ودعا المشاركون أيضا إلى تعزيز الشراكة بين التعليم العتيق وبين مؤسسات التعليم الحديث قصد النهوض بمعارفه ومناهجه، إلى جانب دعم توظيف التكنولوجيات الحديثة في التعليم العتيق حتى يتمكن من مواكبة روح العصر وسُبل تسهيل الفهْم وتسريع وتيرة التقدم التعليم الأصيل.
وراهن المشاركون في خاتمة تقريرهم على مواصلة الربط بين برامج التعليم وجهود صناعة السلام في القارة الإفريقية من خلال الارتقاء بوعي الأجيال الصاعدة في مجال خدمة مجتمعاتها وتحقيق استقرارها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى