الشاعرة الكويتية البارزة د.سعاد الصباح تكتب : من أطفال غزة إليك يا ولدي

من بين نبضات القلب المكسور، يتسلّل الضوء كما تتسلّل الحكمة من مفاصل الألم ..
فالحياة، في جوهرها، ليست إلّا سلسلة من الفقدان المتواصل، نُرمّم فيها أرواحنا ببقايا الحنين، وننسج الذاكرة بخيوط حلم لم يكتمل ..
نولد ونحن نحمل غربتنا، ونرحل نتلمس الطريق إلى بيوتنا الأولى ..
وما بين البداية والنهاية، نبحث عن الإيمان في صوت فتاة تحتضن حلمها، أو في صمت أنفاس، أو في قصيدةٍ كتبتها أمٌّ مفجوعةٌ بابنها فوق الغيم..
من أين أبدأ الحديث عنك يا مبارك؟
من لحظةٍ اختنق فيها الهواء بين السماء والأرض؟
من يد أمومة كانت تحاول أن تستبقيك حيّاً بينما ينسحب منك النبض بالتدريج؟
أمْ من تلك اللحظة التي توقفت فيها الحياة كلها في مقعد طائرة، وابتدأ حزن القلب الدائم؟
الجمعة 22 يونيو 1973، شابة في مقتبل العمر، تضرب قلبَها ضرباتٌ لم تعرفها من قبل ..
فقدتُك يا ولدي وأنا أطوف بالغيم، وكأن الله اختارك لتكون أقرب إليه من هذه الأرض.
في تلك اللحظات التي انفصل فيها الزمن عن معناه، كنتُ أمّاً بلا لغة، لا أطلب شيئاً من العالم سوى الهواء.
ركضتُ، إلى طاقم الطائرة، وقلبي في يدي، وقلتُ: «ابني يختنق.. أريد الأوكسجين، أرجوكم!».
نظروا إليّ كما ينظر الموتى إلى الأحياء..
واستنجدوا معي بطوارئ طبية لا جدوى منها، وأعطوني أنبوباً.. أنبوباً ظننته خلاصاً، فإذا هو خواء.
فتحتُه بيديّ المرتجفتين.. وضعتُه على فم ولدي الصغير.. لم يتنفس.
وضعتُه على أنفي.. فلم أشمّ الحياة.
فهمتُ حينها أنني أنا التي تحتاج الأوكسجين.. ليس لأنني أختنق، بل لأن روحي تُسحب مني.
كانوا يناولونني أنابيب الأمل فارغةً، وأنا أجرّبها كما تجرّب أمٌّ كل أنواع المعجزات.
واحد تلو الآخر..
لا هواء، لا حياة، لا خلاص.
أصرخ بهم: «ابني يُحتَضَر!»..
والأعين لا تقول شيئاً سوى: «نحن آسفون.. هذا كل ما لدينا».
في السماء، حيث لا وطن سوى الإيمان بالله..
ضاقت أنفاسُك يا مبارك، وضاقت الدنيا بعدها بما رحُبَت.
كان صدرك الصغير يصارع الهواء، وكان قلبي يصارع فكرة الموت على علوّ آلاف الأقدام.
أحاول أن أتنفس عنك؛ أن أمدّ لك روحي لتسكن في صدرك المرتجف، أن يبعث الله فيك الحياة من رعشة دعاء..
ولكنك كنتَ تبتعد، شيئاً فشيئاً، وأنا لا أملك إلا عينيّ و(قل هو الله أحد)، وهمساً مرتجفاً في طائرة قطعتْ رحلتها إلى جنيف، لتحطّ في اليونان..
حيث جسدٌ فقدَ الحياة، وقلبٌ فقدَ المعنى.
في لحظة الهبوط الاضطراري في أثينا، لم تكن الطائرة مجرد طائرة.. كانت كومة ركام تهوي بي من السماء، وكنتُ مثل أمٍّ فلسطينية، أزيح بيديّ المرتجفتين غبارَ الحرب عن وجهك، وأبحث عنك تحت أنقاض القلب لا بين المقاعد.
لم يكن هناك قصفٌ إسرائيلي..
لكن كان هناك موت.
ولم تكن الأرض تتهدم تحتنا بقنابل النابالم والفوسفور..
لكن السماء كانت تنكمش علينا.
كنتُ أصرخ باسمك، كما تصرخ الآن أمٌّ غزاوية فوق أطلال بيتها:
«مبارك!»..
«يا مبارك!»..
«يا مبارك!»..
«هل بقيتْ فيكَ أنفاس؟»..
هل هناك مَن يتنفّس تحت الركام!
الأسماء واحدة، والصراخ واحد، والموت لا يفرّق بين أمٍّ تفقد وليدها في جوف طائرة، وأمٍّ يموت أبناؤها تحت قصف طائرة.
كلّما اقتربنا، شعرت بأنني أغوص أكثر في بقايا ما تهدّم من روحي..
وكأنني أحبو نحوك فوق ركام البيوت، أبحث عن نفَسٍ صغير مازال دافئاً.
كنتُ أحرّك وجهك بأصابعي المرتعشة، كأنني أزيح عنك ألواح الإسمنت، لا أحزمة الأمان.
كنتُ أناديك وأنا أدرك في أعماقي أنك لم تَعُد هنا.. ولكن من يخبر الأم أن ابنها مات؟
يا مبارك..
لقد كنتُ أشعر بأنني أوّل أمٍّ عربية مات طفلها بين يديها في السماء، فصارت فلسطين كلها مرآتي.
وصرختي تلك في الطائرة، ارتدّت لي الآن من كل بيت غزّيّ.
وكلما رأيت أمّاً تُخرِج ابنها من تحت الأنقاض، أسمع ارتداد ألمي:
«لقد سبقته بروحي.. ولم أقدر على إنقاذه».
وكان والدك الصلب القوي عبدالله المبارك، هناك في القاهرة.. كما هو جندي للأمّة، وسند للوطن.. يستقبل الجثمان العائد.. والحبيبة المكسورة.
يتألم بصمت، يحمل جسدك كأنه يحمل قطعة من عمره. تتحدر من روحه دمعة صامتة تسيل فوق خدّه، كما يبكي الرجال حين يؤمنون أن لا دواء لآلامهم سوى التوكل على الله.
هو حزن الفرسان إذا فقدوا، وإذا انكسرت سيوفهم وماتت خيولهم..
استودعناك الله ثم تراب مصر، وكان وداعاً يليق بصفاء وجهك.
شارك الرئيس أنور السادات وكبار رجال الدولة في التشييع، يراقبون نعشك كجنود في معركة.
كانوا يحيطون بك، وكنتَ طيفاً، وكان النعش أكبر من عمرك، واللحظة أوسع من احتمالنا.. والجميع يواسي والدك وهو يصمت صمت الجبال التي لا تبالي بالرياح.
في تلك اللحظات وقفت أستذكر فقدي المبكر لجدتي، ثم والدتي، ثم والدي.. حين توالت الفجائع بسرعة كأنني أختبرُ إيماني بالله.
كنتَ أول من أهداني الأمومة، وأول من علّمني كيف يكون الفقد حين لا يُقال، بل يجري بكل شريان.
واليوم.. حين أنظر إلى أطفال غزة، أشعر بأنني أمٌّ لكلّ مَنْ فقد أمّه.
أصرخ من الداخل، لأن كلّ بيت يُقصف، يعيد لي تلك الطائرة التي هبطت اضطرارياً..
أسمع الأمهات وهنّ يصرخن في الممرات، وأَراهُنّ يسابقن الهواء لإنقاذ أطفالهن، فأعود أنا.
أنا في كل مشفى ميداني، في كل حضّانة بلا كهرباء، في كل خيمة تحت المطر.
لقد خسرتُك، يا مبارك، مثلما تبكي فلسطين كل يوم أكثر من مبارك..
لقد مرّ.. اثنان وخمسون عاماً على رحيلك حسَبتُها يوماً يوماً، ثانية ثانية، وأنا أتابع غزة، فأراك في كل طفل يُنتشل من تحت الركام، وأسمعك في كل صراخ أب يركض مسعفاً ولده مقطوع الأطراف..
يا ولدي ..
لقد علّمتني الحياة أن الحزن لا يموت..
بل يلبس أثواباً مختلفة مع الزمن..
وأن كل طفل يُذبح ظلماً، تذبح إنسانية العالم في نظراته البريئة!