مقالات و تحليلات

المفكر العربى على محمد الشرفاء يتساءل: ماذا يعني مصطلح الأمن العربي؟ هل ندرك معناه ؟ وهل نعرف متطلباته ؟ وهل نحن فعلاً أمة واحدة تربطنا مصالح مشتركة؟

معالي الأستاذ علي محمد الشرفاء الحمادي/ كاتب ومفكر إسلامي ، مدير ديوان سابق للرئيس الاماراتي الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان

ماذا يعني مصطلح الأمن العربي ؟ هل أننا ندرك معناه ؟ وهل نعرف متطلباته ؟ وهل نحن فعلاً أمة واحدة تربطنا مصالح واحدة مشتركة ؟ هل ندرك أن أي خطر يهدد أحدنا هو خطرٌ يهدد الجميع ؟ هل وظفنا قدراتنا الاقتصادية لخدمة مصالحنا المشتركة ؟ هل أوجدنا منظومة أمنية تدافع عن مصالحنا المشتركة وتحمي دولنا مما يهددها من أخطار ؟ هل يكفي أننا نتحدث اللغة العربية لكي نجتمع تحت ظلها ؟
أعوام كثيرة مضت ولم تستطع لغتنا الجميلة أن تبعث فينا العزيمة والإرادة. بل إنها اليوم بدأت تترنح تحت وطأة حركة التغيير والتطور.

لقد تَنَاولَتْ الكثيرُ من البيانات والصحف في مختلف الدول العربية على مدى عقود كثيرة مصطلحًا وعنوانًا سياسيًا باسم (الأمن القومي العربي).
لا أعلم ماذا يعني هذا المصطلح، وعلى أي أساس استندت تلك المقولة، وما هي المقومات الموضوعية التي يمكن أن يؤسس عليها مفهوم الأمن القومي العربي ؟
في رأيي المتواضع -حسب فهمي المحدود- هو أن ما تعنيه قضية الأمن لأية مجموعة من الأقوام والدول باختلاف توجهاتهم ودياناتهم ولغاتهم. هو أن هناك مصالح معينة، لها أهميتها وآثارها على مجتمعاتهم، سواء كانت سياسية أم اقتصادية، ويدركون ما يمكن أن يهدد تلك المصالح، ويعلمون مدى الآثار السلبية على شعوبهم إذا ما تأثرت تلك المصالح والأخطار التي تترتب على ذلك في كل المجالات الحياتية.
وهو الأمر الذي يجعلهم، يتجهون جميعًا برؤية واحدة وعقيدة مشتركة للبحث عن منظومة أمنية، يهيئون لها كل الإمكانات المتاحة لدى كل واحدٍ منهم، ويوفرون لها المناخ المناسب، ويجمعون كل القدرات المادية لبنائها، وفق إستراتيجية واحدة، تحمي أمن الجميع دون استثناء، حيث إن رابطة المصلحة المشتركة تفرض على تلك المنظومة العمل على حماية أمن دول المنظومة وأن انهيار أي منهم يهدد البقية. ويتمثل ذلك بكل الوضوح في منظومة حلف الأطلسي حيث لا يرتبط عضو فيه بالآخر، سواء من حيث اللغة أو الثقافة أو التاريخ المشترك، لكنهم ارتبطوا بمصلحة الأمن المشترك، بالإضافة إلى مصالح اقتصادية مشتركة، تُفيد منها شعوبهم وينتج عنها تكتل اقتصادي قادر على مواجهة العولمة.
إنني أتساءل هل هذه الصورة بكل أبعادها، ووضوحها والتزاماتها موجودة في الساحة العربية ؟
أريد قبل أن أسجل الإجابة عن السؤال، أن أترك الأحداث والوقائع تجيب، فهي أكثر قدرة على تأكيد الصورة لأنها أحداث مادية وقعت في زمن لا يمكن تزويره أو تبديله. وهي كما يـأتي:
أولًا: في أعقاب الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1937)، التي توقفت إثر النداء الذي وجهه إلى عرب فلسطين، ملوك ورؤساء ست دول عربية هي : مصر وسوريا والعراق والسعودية واليمن ولبنان، يطلبون فيه وقف العمليات العسكرية، معتمدين على النيات الحسنة للدولة المنتدبة بريطانيا، وعليه فقد انعقد في (بلودان – سوريا) في شهر أغسطس 1937، أول مؤتمر عربي رفيع المستوى لاتخاذ القرارات الواجب اتخاذها للمحافظة على حقوق عرب فلسطين، وحمايتهم من الأطماع الصهيونية التي كانت تحظى بالدعم الكامل من قبل دولة الانتداب.

إنني أعُدّ نداء الدول العربية، والطلب من الثورة الفلسطينية، وقف العمليات العسكرية ضد القوة الغازية، أنه بداية غياب الرؤية المميزة لطبيعة الأخطار التي تهدد الأمة العربية، وبداية العد التنازلي العربي للمطالب والوعود الغربية لما يحقق مصلحة إسرائيل. فأين كان الأمن القومي العربي ؟ لو كان هناك إدراك ووعي من القيادات العربية لخطورة السرطان الإسرائيلي، لاتخذ الجميع خطوات جدية من منطلق الأمن العربي، وذلك بدعم الثورة الفلسطينية بالعدة والعدد، لكن للأسف لم يحدث ذلك بل ما حدث كان على العكس، فقد طلبوا منهم وقف العمليات العسكرية، كما يطلبون اليوم من الانتفاضة أن تتوقف عن العنف حتى يبدأ حوار السلام، بالرغم من مرور أكثر من ستين عامًا على مؤتمر بلودان، وكأننا لم نتعلم من دروس الماضي، ولم تمر علينا أحداث، وصمت العرب بالانهزامية والاستسلام، وأطلقت إسرائيل اسم (العنف) على الانتفاضة، لصرف الأنظار عن جرائمها التي ترتكبها كل يوم ضد العزل الأبرياء، وتتبنى بعض أجهزة العالم تلك التسمية. إنها جرائم حرب وأعمال وحشية تتعارض مع أبسط القوانين الدولية، وما يسمى بحقوق الإنسان ترتكبها إسرائيل، وتستتر خلف ذلك المصطلح، وتلك التسمية ليصبح القاتل هو المقتول والقتيل هو المجرم. منطق معكوس يؤيده موقف عربي مهزوم.
ثانيًا: أين كان الأمن القومي العربي، عندما قامت ثلاث دول بعدوانها على جمهورية مصر العربية، تتزعمها بريطانيا وتشاركها فرنسا وإسرائيل، وذلك حينما استباحت الأجواء المصرية، وأسقطت عشرات الآلاف من القنابل لتخلف وراءها آلاف الضحايا، علمًا بأن بعض الطائرات الحربية كانت تنطلق من بعض القواعد العربية، وتركت مصر وحدها تواجه ببسالة شعبها قوى البغي والعدوان، وانتصرت إرادة الشعب، وانكفأت بريطانيا العظمى داخل حدودها وانهارت إمبراطوريتها.
ثالثًا: أصبحت مصر في الستينيات – بما تملكه من قدرات عسكرية – تشكل تهديدًا مباشرًا لأمن إسرائيل، عندها وكالعادة درست إسرائيل كل الاحتمالات ومدى خطورة القوى العسكرية النامية على أمنها ومدى آثارها على توسعها، وحينذاك سعت مع حلفائها لإعداد ترتيبات معينة وتخطيطات محكمة، لاستدراج مصر إلى مكانٍ وفي زمانٍ حددته بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في سيناء، وهناك حدثت المذبحة في 5/يونيه/1967 كي لا تقوم بعدها قائمة لمصر وما تمثله من مركز الحركة والقوة للدول العربية.
ولقد اتضح فيما بعد أن القيادة المصرية، لم تكن قد اتخذت قرار الحرب، فوضعت القوات المصرية في صحراء سيناء دون حماية جوية كاملة، ودون استعداد حقيقي للهجوم على إسرائيل، ودون أن تدرك أنها تعرض أمن مصر للخطر، وأن الجيش المصري سيكون وحده في أتون النار، وستتحمل مصر الآثار المدمرة للهزيمة، فاستغلت إسرائيل تلك الفرصة، وشنت حربًا فجائية، بدأت بتجريد الجيش المصري من غطائه الجوي بتدمير طائراته وذلك عندما بدأ الهجوم الجوي الإسرائيلي الساعة التاسعة صباحاً يوم 5/يونيو/1967، فأصبح الجيش المصري صيدًا سهلًا في صحراء سيناء وسقط الآلاف من رجاله دون أن تتاح لهم فرصة الدفاع عن النفس. ذلك ما حدث، فأين كانت الدول العربية، وماذا كان موقفها؟
لقد تباينت المواقف بين موقف شامتٍ وسعيدٍ، بما آلت إليه الأمور في مصر، وآخر متعاطفٍ لا يملك من أمره شيئًا، وثالث يتظاهر بالحزن والأسى. فكانت المحصلة احتلال سيناء وتعطل الملاحة في قناة السويس، ولم تدرك الدول العربية أن أمن مصر هو أمنها، وأن أمن سوريا بعد احتلال الجولان وأمن الأردن بعد أن سقطت الضفة الغربية بيد الصهاينة، سوف تترتب عليه نتائج سلبية ستؤثر عليهم، لم يكن ذلك المفهوم واردًا بل لم يكن موجودًا على الإطلاق. فأين هو الأمن العربي من تلك الأحداث؟.
رابعًا: استطاعت مصر أن تعيد حشد قواتها، وتعيد بناء قدراتها العسكرية بأسلوبٍ علميٍ مدروسٍ، واتخذت قرار العبور، وكان الله معها فحققت انتصارًا كالمعجزة. ولكن هل كانت كل الدول العربية تقف خلفها تدعمها بالمال والسلاح قبل المعركة أو في أثنائها ؟ كلا فقد حاربت مصر، تساندها سوريا في معركة الشرف الذي أعاد للأمة العربية بعضاً من هيبتها، وتجاوب معها زعيم في بلدٍ حديثٍ من بلدان الخليج العربي هو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة – الذي حتمت عليه مروءته وشهامته أن يتخذ موقفًا كان له تأثير مباشر على تغيير مجرى الأحداث، فكان قرار وقف ضخ البترول، ووقف إمداداته عن حلفاء إسرائيل، مرعبًا وقويًا كالزلزال لما يمكن أن تؤول إليه حضارة الغرب في حال إذا ما طال أمد وقف ضخ البترول، وما يترتب على ذلك من تعطيل الكثير من المصالح والمؤسسات التي تعتمد على البترول ومنتجاته، وما سيؤدي ذلك من فوضى وارتباك في أمريكا وأوروبا.
ذلك الموقف، لم يكن وليد تخطيط مسبق، لكنه كان رؤيةً بعيدة المدى عن أهمية مصر، وأن انتصارها سيشكل دعمًا قويًا لدولة الامارات العربية المتحدة والدول العربية كافة. فقد كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الزعيم الوحيد في العالم العربي، الذي اعتبر أمن مصر هو أمن دولة الإمارات العربية المتحدة، لذلك كان رد فعله صادقًا وقويًا، أتى نابعًا من إيمانه وقناعته بأن مصر تشكّل رصيدًا ضخمًا لمواجهة ما يخبئه المستقبل، وأنها تؤدي دورًا يمكن لها أن تقفه مع دولة الإمارات إذا ما وقع المحظور.

هكذا تمت الاستجابة لنداء شقيق وهو في طريق الأمل والنصر؛ وإذا لم يكن هذا الموقف، لم يكن الأمن العربي موجوداً، بالإضافة إلى موقفى المروءة والشهامة اللذين تجلّيا بأروع صورهما في زايد وأيضا صفات الرجولة والشجاعة. كان صوت زايد قد هزّ بكل قوة الاقتصاد الدولي ليعيد العالم حساباته. وكان تأثيره على نتائج حرب أكتوبر مباشرًا ومؤثرًا في الضغط الأمريكي على إسرائيل لوقف إطلاق النار، بعدما احتلت منطقة (الدفرسوار) في الضفة الغربية للقناة وحاصرت الجيش المصري الثاني.
خامسًا: قامت إسرائيل بغزو لبنان سنة 1982، واستباحت سيادته وأرضه ودمرت وقتلت الآلاف من أبنائه، وأهلكت الأخضر واليابس، والجميع فاغر فاه يتفرج دون إحساس أو شعور بأن ما يحدث في لبنان يشكل خطرًا على بقية الدول العربية، فيومها لم يكن الوعي العربي حاضرًا ولم يكن الإدراك موجودًا، فانفردت إسرائيل بشعب لبنان، القليل العدد القوي بإيمانه الذي قاوم الاحتلال بمفرده، وانتصرت إرادة شعبه، فأين الأمن القومي العربي؟ وما هي الخطوات التي اتخذتها الدول العربية لمساندة لبنان في حربة ضد قوى العدوان ؟
لا شيء غير التمنيات والبيانات التي تستنكر وتحتج وترجو الأمم المتحدة على استحياء وتطالبها بإدراج الغزو الإسرائيلي ضمن أجندتها للمناقشة. لعل من المخزي القول إنه كانت يومذاك أجهزة الإعلام العربية المرئية والمقروءة والمسموعة، تتحدث عن الألعاب الأولمبية في إسبانيا، وكأن أمر الغزو بعيدٌ عن اهتمامهم. فأين كان الأمن القومي العربي وكيف لم يدرج الغزو الإسرائيلي في حسابه ولماذا لم يقاومه ؟
سادسًا: عندما قامت حرب لبنان الأهلية، وتقاتل أبناؤه وما حدث فيه من تخريب ودمار ومجازر ارتكبها من لا ضمير لهم ولمدة أكثر من عشر سنوات، دون أن تقوم الدول العربية باتخاذ إجراءات حاسمة لوقف القتال. فأين كان الأمن العربي، ما هي الإجراءات التي تم اتخاذها لإطفاء نار الفتنة حتى لا تنتشر وتأتي على الأخضر واليابس؟
لقد كانت الدول العربية، ترى وتسمع ما يحدث في لبنان، وما سيؤدي ذلك إلى انهيار النظام هناك وما سيترتب عليه من أخطار على لبنان. لكن الرؤية العربية لم تكن مدركة أن ما يهدد أمن لبنان يهدد بقية الدول العربية، لذلك لم يكن رد الفعل مساويًا لأهمية لبنان، ولم يكن موضوع أمن لبنان يقلق القيادات العربية، ولم تعيره اهتمامًا، بحيث تتحرك بسرعة لإخماد نار الفتنة، لذلك فقد تركوا الشعب اللبناني يواجه الكارثة وحده بصبرٍ وبصيرةٍ، فيما غاب مفهوم الأمن القومي العربي عن الساحة( ).
سابعاً: عندما نشبت الحرب العراقية-الإيرانية، وما شكلته من استنزاف للقدرات العربية والإسلامية، ودامت أكثر من ثماني سنوات والدم العراقي، ينزف والمال العربي يحترق في أتون المعارك. لم يكن الأمن القومي العربي يهمه ما يحدث، لذلك ضاعت قدرات اقتصادية، وسالت دماء بريئة لمئات الآلاف، وكأن الجميع ينتظر من يفوز في ذلك الصراع، وكأن المطلوب أن يُجهز كل منهما على الآخر ليصفو الجو لإسرائيل تمرح وتسرح في الوطن العربي تفعل ما تريد. فأين كان الأمن العربي يومذاك؟
ثامناً: ومثلما تم التخطيط لاستدراج القوات المصرية في سيناء، فقد تم بالأسلوب نفسه استدراج جيش العراق حينما قام بغزو الكويت. فقد تم ترتيب أسبابه وتحدد مسبقًا في المخطط الشيطاني للولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل الهدف الرئيسي الذي يحقق تدمير القوة العسكرية العراقية، وعلى الأخص القواعد الصاروخية التي تصل مداها إلى عمق إسرائيل، وكان قد تم تدمير المفاعل الذري العراقي عام 1981، وما تمثله القوة العسكرية العراقية، من أخطار أكيدة على إسرائيل تؤثر على توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط.
ومن ثم فالمطلوب هو أن تبقى إسرائيل وحدها صاحبة القوة الوحيدة واليد الطولى لحماية مصالح المستعمر الجديد.
تاسعًا: أختتم سرد الأحداث، بالكلام عن الطامة الكبرى وما يحدث في فلسطين المغتصبة من سقوط الشهداء. فكلما أشرقت شمس تنهمر دموع الأرامل حزناً على فراق عزيز، وكلما غربت شمس تدك إسرائيل بكل أسلحتها الثقيلة منازل الأبرياء دون وازع أو ضمير، والعالم يستمتع كل يوم بمشاهد قوافل الشهداء يحملها إخوانهم إلى مثواها الأخير، لكن لا حول لهم ولا قوة. أما الصمت العربي فيترجمه الغرب بعدم المبالاة، طالما أن من يدعون أنفسهم بالأشقاء لا يأبهون بما يحدث، غير بعض الاستنكار في حالة اجتماع القمم العربية.
وهكذا فإننا اليوم نعيش في عصر، يتحمل فيه الضحية مسئولية العنف، بينما يبقى القاتل المدجج بالسلاح يبحث عن الأمن، وتُردِّدُ ادّعاءاته معظم العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وتطالب بوقف العنف الفلسطيني كما تطالب الدول العربية بالضغط على أبناء القتلى لأنهم تسببوا في ذلك ويحملونهم المسؤلية. إنه منطق الظالم الذي لا يجد من يقف أمامه، يقابله منطق الضعف والانهزام والإحباط الذي يعيشه المواطن العربي.
فأين هو الأمن القومي العربي من هذه الطامة ؟
إذان أعود فأسأل :
ماذا يعني مصطلح الأمن العربي ؟ هل أننا ندرك معناه ؟ وهل نعرف متطلباته ؟ وهل نحن فعلاً أمة واحدة تربطنا مصالح واحدة مشتركة ؟ هل ندرك أن أي خطر يهدد أحدنا هو خطرٌ يهدد الجميع ؟ هل وظفنا قدراتنا الاقتصادية لخدمة مصالحنا المشتركة ؟ هل أوجدنا منظومة أمنية تدافع عن مصالحنا المشتركة وتحمي دولنا مما يهددها من أخطار ؟ هل يكفي أننا نتحدث اللغة العربية لكي نجتمع تحت ظلها ؟
أعوام كثيرة مضت ولم تستطع لغتنا الجميلة أن تبعث فينا العزيمة والإرادة. بل إنها اليوم بدأت تترنح تحت وطأة حركة التغيير والتطور.
إن القيادات العربية اليوم مدعوة إلى التفكير بعمق وموضوعية ورؤية جديدة تُميّزُ بين القول والعمل. رؤية تدرك أن الزمن أغلى شيء في عمر الأمم، ولا بد من استغلال الوقت كي لا تفوت الفرصة ويقع المحظور، فدول العالم في سباقٍ محمومٍ وتنافسٍ رهيبٍ وصراعٍ اقتصاديٍ، بدأ يأخُذُ أشكالَ تكتلاتٍ اقتصاديةٍ دوليةٍ وتكتلاتٍ لشركاتٍ عالميةٍ، لتكون لهم القدرة على المنافسة وعلى الحفاظ على تأمين الحد الأدنى لشعوبها من الحياة والمدنية. فأين الأمة العربية من ذلك وهي التي لديها كنوز وخيرات وثروات، لكنها لم تستثمر وتوظف في خدمة أبنائها ؟
لذا، فإن القيادات العربية يجب أن تدرك أن الأخطار تحيط بها من كل جانب، وأن وقوع إحدى الدول العربية تحت سيطرة العدوان لا يعني أن بقية الدول العربية ستكون في مأمن منه، وأن سياسة العولمة ستجر على شعوب الأمة العربية مآسي وكوارث إذا لم يتحدد مفهوم جديد وروابط عميقة لأهمية العلاقات العربية – العربية، والتزام واضح فيما بينها لبناء قاعدة جديدة تؤسس عليها مفاهيم جديدة، أساسها العلاقات الاقتصادية التي تربط مصالح الشعوب العربية، لتصل بعدها إلى الشعور بمسئولية الأمن المشترك من أجل البقاء، عندها ستدرك القيادات العربية أهمية إيجاد منظومة أمنية تحمي مصالحها مما يهددها من أخطار وإجراءات قد تصل بعض الأحيان إلى فرض وصاية على أهم ثرواتها، وهو البترول حيث تستطيع القوة المتحكمة اقتصاديًا في العالم أن تفرض أوامرها على الدول المنتجة للبترول سعرًا محددًا أو تفرض مقاطعة على الدول التي لا تنصاع لقراراتها، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على خطط التنمية، وما يعقبها من مشاكل اجتماعية، تؤثر على الجبهة الداخلية للدول العربية.
فلتكن وقفة يتم فيها تحكيم العقل والرؤية؛ لإعادة النظر في مسيرة التضامن العربي الذي أصبح اليوم مجرد شعارٍ خالٍ من أية أُسس، وآلياتٍ تدعمه وتُحوّل قرارات مؤتمرات القمة إلى إجراءات عملية تكون لها نتائج مؤثرة على سير الأحداث.
لذا فان الأمر أصبح من الخطورة، بحيث يتطلب أن تقوم الجامعة العربية فورًا بإعداد إستراتيجية العمل العربي المشترك لوضع أسس علمية مدروسة، تستوعب مطالب الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه. فقد أدركت هذه الجماهير بوعي لا تنقصه الرؤية بأن الأمن العربي هو القاعدة الأساسية والركيزة الأولى التي يجب أن يقوم على أساسها التضامن العربي وتحدد فيه أسلوب العلاقات العربية، وهو السياج الذي سيحمي مستقبل الدول العربية ويحفظ لها سيادتها ويحمي ثرواتها ويجعل دول العالم تحترم قراراتها.
إن ما ذكرته آنفًا من أحداث مأساوية، مرت على الأمة العربية، كان من أهم أسباب التردي والهزائم المتلاحقة التي حلت بالأمة بسبب عدم وضوح الرؤية فيما تؤمن به كل الانظمة العربية، وهو أن وحدة المصير تحتم على الدول العربية، أن تدرك أن لا ملجأ لأمتنا إلا بتشكيل منظومة أمنية تهيئ لها أسباب النجاح، بحسن تنظيمٍ وإعدادٍ وتنسيقٍ، لتستطيع حماية حقوقها ومواجهة التحديات.
ومن أجل الوصول إلى ذلك الهدف الإستراتيجي يجب إعادة صياغة ميثاق الجامعة العربية بحيث يتضمن بكل وضوحٍ ما يأتي :
(1) احترام خصوصيات كل دولة عربية، فلكلٍ منها طبيعةٌ وثقافةٌ وعاداتٌ تجري في عروق أبنائها جيلًا بعد جيل.
(2) تلتزم الوسائل الإعلامية لكل الدول العربية، بميثاق شرف، يستهدف عدم التعرض لأية دولة منها بالنقد أو بالتشهير لأي سبب من الأسباب.
(3) تلتزم الدول العربية بأن تؤمن بعقيدة راسخة أن أمن أية دولة عربية، هو أمنها جميعًا، وأن ما يهددُ أية دولة سواء كان حصارًا أم عملًا عسكريًا، يعتبر تهديدًا للدول العربية جمعاء.
(4) تُكِّلفُ القياداتُ العربيةُ، أمين عام الجامعة العربية باتخاذ الإجراءات الآتية :
‌أ. دعوة وزراء الدفاع ورؤساء الأركان للقيام بإعداد إستراتيجية؛ تهدف لإنشاء حلف دفاعي، يضع في اعتباره المسئولية عن حماية أي قطر عربي يتعرض أمنه للتهديد، على أن تعرض هذه الإستراتيجية في أول اجتماع قمة عربي لإقرارها واعتماد الآليات التنفيذية لها وتأمين الالتزامات المالية أيضًا.
‌ب. تكليف وزراء الخارجية لتقييم العلاقات العربية مع الولايات المتحدة الأمريكية على أساس مواقفها من مصالح الأمة العربية وكيفية وضع أسس مشتركة تجعل الولايات المتحدة تحترم إرادة الأمة وحقوقها على أساس المعاملة بالمثل، واتخاذ ما يتطلب ذلك من وسائل لبناء علاقة متوازنة يحترم كل طرفٍ حقوق الطرف الآخر.
‌ج. دعوة وزراء الاقتصاد والمالية والنفط لإعداد خطة اقتصادية لبناء علاقة إستراتيجية مع أوروبا، وصولًا بها إلى تأسيس شركات مشتركة يتحقق بها مردود اقتصادي لصالح أوروبا والعالم العربي. آخذين بنظر الاعتبار أن العلاقات التاريخية بين العالم العربي وأوروبا وقربهما الجغرافي من بعضهما يحتم إعادة النظر في تعميق العلاقات الاقتصادية لتكون أوروبا الشريك الإستراتيجي للعالم العربي في القرن الواحد والعشرين.
‌د. إن انهيار الاتحاد السوفيتي، ترتب عليه تاثيرٌ خطيرٌ في الموازين الدولية، مما أدى إلى تحكم القطب الواحد ومن يتحكم في إدارته وهو العدو الصهيوني الذي يوظّف العالم كله في خدمة مصالحه وتحقيق أهدافه. ولكم وقف الاتحاد السوفيتي مواقف تدعم الحق العربي وتساعده على تأمين احتياجاته من السلاح، فلقد كان الصديق عند الشدة، واليوم فإن روسيا الاتحادية تنظر بكل ترحابٍ إلى الاستثمارات العربية، وما يمكن أن يؤدي تزاوج القدرات المالية العربية والإمكانات العلمية في روسيا إلى تحقيق مصالح مشتركة تضيف للأمة العربية رصيدًا قويًا يعينها في أوقات الضرورة.
تلك أمنيات وخواطر صادقة مخلصة، علها تصل إلى عقولٍ أذِنَ اللهُ لها أن تعي ما يخبئه لها المستقبل، وقلوبٍ تستوعب مشاعر أبناء الشعب العربي وتتعايش معهم، ودعائي للبارئ عزّ وجل أن يجعل قيادات الأمة العربية تدرك أن الزمن ليس في صالحها، وأن النيات العدوانية المبيتة تم تنفيذها وفق مخططات تعتمد أساسًا على التشتّت العربي وعلى صراع الدول العربية فيما بينها، لتنفيذِ أدوارٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، تزيد من القدرات المالية المكدسة في وول ستريت في نيويورك أكبر مركز مالي عالمي للصهاينة، وأن تتمكن هذه القيادات من تنفيذ قراراتٍ مضى عليها أكثر من خمسين عاما،ً وهي مكدسة في الأدراج وكان الله في عون أمتنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى