الإمارات ودبلوماسية تويتر / أ.د. عبد الخالق عبد الله
تقول الدكتورة نجاة السعيد، في كتابها “دبلوماسية تويتر” (Twitter Diplomacy)، الصادر في عام 2022، إن قادة الإمارات من بين أكثر القادة العرب حضورًا في وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة منصة “إكس” (تويتر سابقًا)؛ وتضيف أن الوجود الإماراتي في هذه المنصة لا يقتصر على قادة الدولة فقط؛ إذ إن عددًا من وزرائها وسفرائها أيضًا لديهم حضور في هذا الفضاء الافتراضي؛ كما أن هناك أكاديميين وإعلاميين وكتَّابًا وأدباء ورجال أعمال إماراتيين من أجيال مختلفة نشطين في منصة “إكس” التي تشهد نقاشات وحوارات ساخنة بشأن قضايا الساعة، لا تجد طريقها إلى وسائل الإعلام التقليدية.
وتلاحظ الدكتورة نجاة السعيد، أستاذة الاتصال الجماهيري في جامعة الشارقة، أن وزارة الخارجية الإماراتية، التي يتابع حسابها في منصة “إكس”، نحو 725 ألفًا، من بين أكثر وزارات الخارجية متابعةً على الصعيد العالمي؛ كما أن سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، الذي يتابع حسابه نحو خمسة ملايين، من بين أكثر وزراء الخارجية متابعةً على الصعيدَين العربي والعالمي.
وربما كان آخر مثال على استخدام دولة الإمارات النشط لدبلوماسية تويتر في مخاطبة العالم تغريدة نشرها سمو الشيخ عبدالله بن زايد في 14 سبتمبر 2024، وأعلن فيها أن “الإمارات غير مستعدة لدعم اليوم التالي من الحرب في غزة دون قيام دولة فلسطينية”. ولم يُعلَن هذا الموقف الرسمي الإماراتي في قضية إقليمية مهمة عبر منابر الإعلام التقليدية، بل بتغريدة مكوَّنة من جملة واحدة حصدت نحو مليوني مشاهدة في أول 24 ساعة من نشرها.
وتؤكد هذه التغريدة، وغيرها، ما جاء في كتاب “دبلوماسية تويتر” من أن الدبلوماسية الإماراتية أخذت تستخدم منصة “إكس” ومنصات التواصل الاجتماعي بشكل مكثف لمخاطبة الرأيين العامَّين المحلي والعالمي. وقد أنجزت الدكتورة نجاة كتابها القيم أثناء عملها باحثةً زائرةً بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي، الذي يُعد أقدم وأكبر مركز بحثي إماراتي. وتقول الدكتورة نجاة إنها استفادت من العمل في المركز، واعتمدت على مكتبته العامرة بالكتب والإصدارات العلمية والدراسات البحثية، وتشير إلى أن حواراتها العميقة مع معالي الدكتور جمال سند السويدي، نائب رئيس مجلس أمناء المركز، أسهمت كثيرًا في بلورة خلاصات كتابها.
ويؤكد كتاب “دبلوماسية تويتر” أن منصة “إكس” هي الاختيار الأفضل لدول العالم وزعمائه ودبلوماسييه للتواصل مع الجمهور؛ فهذه المنصة أصبحت سمة من سمات العلاقات الدولية المعاصرة، ووسيلة من وسائل الدبلوماسية العامة الحديثة، وأداة من أدوات القوة الناعمة، ونافذة افتراضية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدول. والإمارات من بين الدول التي أدركت باكرًا أهمية منصة “إكس” لتعزيز سمعتها، ونشر رسالتها، والتعريف بقيمها وأولوياتها، والكشف عن نموذجَيها التنموي والمعرفي، وتوضيح مواقفها تجاه المستجدات، والتحولات الإقليمية والعالمية.
وما يميز منصة “إكس” من بقية منصات التواصل الاجتماعي هو أنها منصة مسيَّسة؛ بل هي المنصة الافتراضية الأكثر تسييسًا في العالم، وتحولت سريعًا منصةً إخباريةً من الدرجة الأولى؛ إذ تقدم المادة الإخبارية بسرعةٍ تفوق أي منصة أخرى؛ فالخبر السياسي الذي يحدُث في أقصى شرق الكرة الأرضية ينتقل عبر المنصة إلى أقصى غربها في لحظة وقوعه. وقد أسهمت هذه المنصة العابرة للقارات في “لحظنة” العالم إخباريًّا؛ ولذلك تحتاج إليها الدول لنشر أخبارها، والتواصل مع الرأي العام العالمي أولًا بأول، وبسرعة قياسية؛ فتغريدة واحدة مكونة من 280 حرفًا فقط يكون لها تأثير سريع ومباشر، ويجرى تداولها ومشاهدتها وقراءتها أكثر من مقال مكون من 800 كلمة يُنشر في كُبرى صحف العالم.
ولكنْ بقدر ما لمنصة “إكس” من جوانب مشرقة ومضيئة ومفيدة؛ فإن لها أيضًا جوانب مظلمة وقاتمة ومسيئة؛ إذ تكمُن مشكلتها الكبرى في أنها أسهمت -ولا تزال تسهم- في نشر خطاب الكراهية، والتنمُّر على الصعيدين الوطني والعالمي؛ كما أنها مملوءة بما يُعرف بالذباب الإلكتروني، أو النباح الإلكتروني الذي زاد على حده، وتحوَّل معضلةً يعانيها 540 مليون مستخدم لهذه المنصة. كيف يمكن التعامل مع هذا الطوفان من البذاءة والتنمر والشائعات والأخبار الكاذبة، وخاصة الفيديوهات المسيئة إلى الأفراد والأوطان والقادة معًا، التي يبلغ عددها نحو 500 ألف فيديو مفبرك يوميًّا، ولها تأثير عميق في أفكار وقناعات مستخدمي هذه المنصة ومَن حولهم؟
كيف يمكن تجنب الجانب المظلم لمنصة “إكس”؟ وكيف يجب التعامل مع التنمر والنباح الإلكتروني والأخبار المفبركة والكاذبة في فضائها؟ تقترح الدكتورة نجاة في كتاب “دبلوماسية تويتر” طرقًا عدة؛ أولًا، التجاهل ما أمكن ذلك سبيلًا. ثانيًا، الرد بالعقل والمنطق، وسرد الحقائق المقنعة والوقائع الموثقة التي لا تقبل الشك والتشكيك. ثالثًا، مواجهة الشائعات والفبركات بالكشف عن مصادرها، وهُويات مَن يقفون خلفها من أفراد، أو مؤسسات، أو حتى دول. رابعًا، التعامل الاستباقي مع خطاب البذاءة والتنمر الذي يتطلب قدرة على توقع الشائعات قبل إطلاقها.
وتظل منصة “إكس” مفيدة برغم جانبها المظلم؛ وينبغي عدم تركها للسفهاء والجهلاء، بل يجب أن يستفيد منها العقلاء والنبلاء، ويوظفها القادة في نشر قيم الاعتدال والتسامح والانفتاح الحضاري؛ وهذا ما تقوم به الشخصيات القيادية الإماراتية في منصة “إكس”؛ ففي الفصل الخامس من الكتاب، أجرت الدكتورة نجاة دراسة تحليلية عميقة لحسابات خمس شخصيات قيادية في الإمارات، وخلصت فيها إلى أن المسؤولين في الإمارات نشطون في هذه المنصة، وأن تغريداتهم تشمل قضايا وموضوعات غير سياسية، وأن أغلبها موجَّه إلى الجمهور المحلي أكثر مما هو موجَّه إلى الجمهور الخارجي. ووجدت الدكتورة نجاة أن بعض تغريدات المسؤولين في الإمارات تجد طريقها إلى الإعلام العالمي، كما أن معظم التفاعل مع تلك التغريدات إيجابيٌّ لدى المتابعين الذين يُقدَّر عددهم بالملايين. وكل ذلك يعني أن دبلوماسية تويتر ضرورة من ضرورات العصر لإيصال رسالة الإمارات إلى العالم، والدفاع عن قيمها، خاصة قيم التسامح والانفتاح والاعتدال.