إحاطة حول المحكمة الجنائية المتخصصة في محاربة العبودية والاتجاربالأشخاص والهجرةالغيرشرعية وتهريب المهاجرين: السياق والآفاق الواعدة/الشيخ سيدى محمد شينّه

الشيخ سيدى محمد شينّه
يأتي اليوم إنشاء المحكمة الجنائية المتخصصة لمحاربة العبودية والاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين، ثمرة جهد وطني وإرادة سياسية قوية ونضال حقوقي، ومسار قانوني على مدى عقود، كما يأتي نتيجة تقييم فني وعلمي تشاركي للتجارب التي واكبت مختلف صور التعاطي الرسمي والمجتمعي مع بقايا وآثار ومخلفات ممارسة الاستعباد في هذا البلد ومحيطه خلال قرون.
كما يعكس تحديث وتغيير وتوحيد هذه المحكمة، الإرادة والشروع العملي في تطبيق الوثيقة الوطنية لإصلاح القضاء، التي كانت موضع إجماع وطني منقطع النظير.
ومن أجل أن تطلع هذه المحكمة بدورها في مكافحة العبودية والجرائم الاستعبادية، وتضيف إليها الاختصاصات المستحدثة بالقانون 039/ 2024 المنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 30 أكتوبر 2024 وهي جرائم المتاجرة بالأشخاص وتهريب المهاجرين، يجدر الحديث اختصارا عن التجربة السابقة وما رافقها من نجاح وملاحظات نقص، وعن الآفاق المرجوة لضمان نجاعة هذه المحكمة.
لقد شكلت الجرائم المتعلقة بالعبودية والجرائم الاستعبادية تحديا كبيرا للدولة الموريتانية منذ نشأتها، ولعل أول سعي يذكر في هذا السياق، قرار الدولة في ثمانينيات القرن الماضي، اعتبار الاستعباد فعلا مخالفا للقانون، وهي خطوة وإن لم تُشفع حينها بسن قانون عقابي إلا أنها مثلت اعترافا رسميا واستنهاضا للهمم وشعورا بخطر تلك الممارسات وضرورة مواجهتها.
غير أن أول جهد قانوني فعلي لمكافحة العبودية والممارسات
الاسترقاقية تمثل في تجريم العبودية بقانون خاص يتضمن معاقبة الاستعباد ويوضح مفرداته وصوره، وهو القانون الذي تمت مراجعته وتعديل بعض أحكامه وتعزيزه بمساطر إجرائية وموضوعية سنة 2015 وتوج بإنشاء محاكم متخصصة في مكافحة العبودية والجرائم الاسترقاقية تشكلت من ثلاث محاكم جنائية، شرقية وجنوبية وشمالية، تم تحديد نطاق واختصاص كل منها ترابيا بمرسوم، وقبل إنشاء هذه المحاكم كان الاختصاص في جرائم الاسترقاق من اختصاص محاكم الحق العام.
وإضافة للقانون المجرم للعبودية والمعاقب على الممارسات الاستعبادية فإن الدستوروتعديلاته 2012 و2017 تضمن النص على اعتبارالممارسات الاستعبادية جرائم ضد الإنسانية غير قابلة للتقادم.
وقد مثل عمل المحاكم المتخصصة في مكافحة العبودية والجرائم الاستعبادية تجربة مهمة مكنت الكثير من ضحايا تلك الجرائم من الولوج للقضاء، وتقديم شكاياتهم، ونيل الحقوق المثبتة المحكوم بها لصالحهم، فضلا عن جانب الردع المتمثل في اقتياد وتقديم المتهمين أمام المحاكم ومعاقبة الجناة منهم، وفق القواعد الإجرائية التي تحترم حقوق الدفاع ومبادئ المحاكمة الجنائية طبقا لقوانين وتعهدات والتزامات الجمهورية الاسلامية الموريتانية.
بعد مُضِي أكثر من تسع سنوات من هذه التجربة وفي إطار تجْسيد مضامين الوثيقة الوطنية لإصلاح القضاء فإن تقييم هذه التجربة المهمة والحصيلة الغنية أظهر ضرورة تدعيم هذا التوجه بإدراج جرائم أخرى، يجمعها مع جرائم العبودية والممارسات الاستعبادية، رابط التأثير الجامع لهذه الأفعال المُجَرمة على الكرامة الإنسانية، وهي جرائم المتاجرة بالأشخاص وتهريب المهاجرين، في اختصاص هذه المحاكم.
كما قاد هذا التقييم العلمي والعملي الجدي للتجربة توصل إلى أن ترشيد الجهد الوطني المادي والبشري للقطاع يدعو إلى إنشاء محكمة جنائية واحدة ذات اختصاص وطني في الجرائم النوعية المرتبطة والماسة بحقوق الانسان وكرامته (العبودية والممارسات الاستعبادية، والمتاجرة بالأشخاص وتهريب المهاجرين) لأن من شأن هذا الإدراج توحيد العمل والفهم القضائي المشترك و خلق و التأسيس لإجتهاد قضائي ثاقِب حول معالجة هذه الجرائم النوعية، فضلا عن عوامل التخصص؛ خاصة مع تعزيزها بضبطية قضائية فنية ميدانية، إضافة إلى تخصيص تشكلات قضائية متكاملة لهذا الدور.
حيث أسْتِحدِث بمقتضى القانون الجديد قطب للنيابة العامة لدى المحكمة يمثلها وكيل للجمهورية ونائبه وقطب تحقيق قضائي يمثله قاض التحقيق مختص ،إضافة إلى تشكلة الحكم المتعددة القضاة، والتي تشمل تشكلة القاضي الفرد للنظر والحكم في الملفات الجنحية، فضلا عن التشكلة الجماعية في الجنايات، بينما كانت المحاكم المتخصصة بجرائم العبودية والممارسات الاستعبادية تمثل فيها النيابة العامة بوكيل الجمهورية بمحكمة الولاية التي توجد بها، ويحقق في قضاياها قضاة التحقيق بمحاكم الولايات، التي تردها هذه القضايا مع عشرات ومئات الملفات الأخرى، بما يشغلهم أحيانا عن متطلبات وخصوصيات هذه الجرائم.
وإجمالا يعكس التوجه القانوني الجديد بإعادة تنظيم ومركزة المحاكم المتخصصة في محاربة جرائم العبودية والممارسات الاستعبادية وعيا تشريعيا وسياسة جنائية مدركة لتحديات جرائم العبودية واستمراراً وتكثيفاً لجهود اجتثاثها، لانعكاسها السلبي على الأمن القانوني بكل تطبيقاته.
كما أن توسيع النطاق النوعي للجرائم الداخلة في اختصاص هذه المحاكم بإدراج جرائم المتاجرة بالأشخاص وتهريب المهاجرين، يمثل إضافة نوعية نظرا للارتباط الوثيق لهذه الجرائم ومساسها العميق بمجال حقوق الإنسان الأساسية باعتبارها تحديات تعيق تنمية الوطن، وكلها عوامل خلقت إجماعاً وطنياً تجسد في هذا القانون، ويستحق الإشادة والمواكبة من طرف كل الشركاء.
ويؤشر القانون الجديد على الإرادة الجدٌية لدى قطاع العدل وكل أجهزة الدولة وسلطات إنفاذ القانون المعنية والشريكة للمضي قدما في سبيل الحد من هذه الجرائم ومواجهة آثارها؛ التي تمس الأمن القانوني والمجتمعي وتشكل عبئاً على الاقتصاد وكل الخدمات العامة؛ كما هو الشأن بالنسبة لتفاقم جرائم تهريب المهاجرين التي أكدت تقديرات رسمية وصول نسبة المهاجرين غير الشرعيين،فقط داخل الفئات الشبابية الوافدة من دول الساحل الإفريقي للبلاد، إلى 10 بالمائة من التَعْداد سكاني للوطن.
كل هذه العوامل والميزات والإجراءات تجعل من القانون 039/ 2024 المنشئ للمحكمة المتخصصة لمحاربة العبودية والاتجاربالأشخاص وتهريب المهاجرين آلية فعٌالة في مواجهة هذه الجرائم وفق مساطر إجرائية وموضوعية تحافظ على حقوق الانسان ومبادئ المحاكمة العادلة، وتُوفِر النجاعة والبت القضائي في الملفات داخل آجال قانونية معقولة، وتضمن لذلك وبه المصالح الكبرى للأمة في احترام وانسجام تامٍ للترسانة القانونية الوطنية وللعهود والاتفاقيات والإلتزامات الدولية للجمهورية الإسلامية الموريتانية.
وحتي تضطلع المحكمة المتخصصة بكامل إختصاصتها علي كامل التراب والوطني و تحقق الرد القانوني المطلوب لجميع الأفعال المجَرمة وفق إختصاصها يتعين دعم مختلف شركاء البلد في هذا الصدد؛ كما يتطلب الأمر أن تحصل وزراة العدل من الموارد و الميزانية ما يمكنها،بكل أريحية، من تحقيق جميع أهدافها و بشكل خاص جميع حاجيات الملحة للمحكمة و لطواقمها.