«ترامب المأزوم».. ونصيحة «فضل الله» / خالد عمر بن ققه

في حديث مع الكاتب والإعلامي الأردني«خالد الروسان» ـ الخبير والباحث في الشؤون الدولية ـ حول تصريحات الرئيس ترامب الأخيرة عن كثير من القضايا على المستوى العالمي، ومنها تلك التي تخض منطقتنا، وأكثرها وضوحا وتأثيرا ملف «تهجير الفلسطينيين من غزة»، انتهى في شرحه إلى تصور مختلف لمواقف ترامب غير ذلك السائد اليوم بين كثير من السياسيين والمحللين.
هذا دفعني إلى تذكر الأفكار العميقة المطروحة في ساحاتنا العربية قبل ما يحدث اليوم بأكثر من ثلاثة عقود، كوني أراها اليوم لا تزال ندّية وثرية، وقد كانت قابلة للتطبيق في زمانها، ولحظة ولادتها، لكن اليوم صار بينها وبيننا أمد بعيد، لكن هذا لا يحول دون سرد بعض منها هنا بهدف الإسهام في تحليل ومتابعة ما يجري من أحداث في منطقتنا العربية، وخاصَّة في فلسطين، وهنا أًورِد الآتي:
ما كٌنتُ أعتقد، وأنا أستمعُ إليه منذ 33 سنة خَلَت، أنَّه سيأتي يوما ويتبنَّى فكرته، أو لنقل نصيحته، أحد قادة العالم، المنتمي لليبرالية متوحشة، يرى كثير من أهلها ـ على المستوى الخبرة والدراسة والفهم ـ أنها تتجه ببطء حول نهايتها في إطار دورة الحضارات، كتلك التي قرأنا عنها لأمم سادت ثم بادت.
على خلفيّة ما سبق، أقصد بالحديث هنا النصح والحكمة للعرب والمسلمين، ولكل المتفاوضين لأجل الحصول على حقوقهم في العالم، من طرف العلامة «محمد حسين فضل الله» (1935 ـ 2010م)، وقد أسداها للقراء وصناع القرار في حوار أجريته معه ـ خريف1991م ــ في طهران، ذات يوم على الثالثة صباحا، اعتبرته سبقًا صحفيًّا بالنسبة لي، وفرصة لأحُوم حول فكره السياسي والديني، واتّخذ منه بعد ذلك مرجعًا لأشدّ رحال المعرفة إليها كلما واجهتنا خطوب الظلامية وعدم اليقين واشتداد ألسنة السفهاء حين يسلقون الحقيقة بألسنة حداد حال ضعف الأمة ودخولها في مرحلة التهور السياسي، الذي يحسب أصحابه أنهم يحسنون صنعًا.
نصيحة فضل الله، تنصُّ على الآتي: «علينا التطرف إلى الحد الأقصى، حتى نجد ما نتنازل عنه عند التفاوض»ــ أي حتى لا نصل إلى القطع من اللحم الحي كما هو في أمثالنا الشعبية العربية، بصيغ وتعبيرات مختلفة ـ وهذا يعني التفاوض على المتغيرات وليس الثوابت، عن التكتيك وليس الاستراتيجية، عن الشوائب العالقة وليس المبادئ، عن الهزل وليس الجد، وهذا كله يدفع إلى التوجه إلى حل الأزمات دون تراجع عن المبادئ أو تخطي القضايا الكبرى المصيرية.
رؤية فضل الله ـ السابقة لزمانها من ناحية التنظير والتطبيق ــ تظهر هذه الأيام في تصريحات وقرارات الرئيس الأمريكي«دونالد ترامب»، لدرجة أنه يمكن وصفها بصرخة المأزوم، ليس على المستوى الشَّخصي، وإنما بخصوص انتمائه لدولة كبرى تقود العالم إلى إحلاله دار البوار
الولايات المتحدة الأمريكية تعاني كما نعرف مشكلات داخلية كثيرة، قد لا نجدها في بعض الدول المتخلفة المنتمية للعالم الثالث، ولن يكون في مقدورها القضاء عليها لأنها ميراث متراكم لعقود، خاصة وأنها أساسية لبقاء التمايز والطبقية والعرقية داخل المجتمع الأمريكي، يضاف إليها ذلك النفور العالمي من انتشار القوة الأمريكية في معظم دول العالم، والذي يواجه بالرفض العلني والسري، ويعمق من كراهية لا حدود لها.
صرخة ترامب المأزوم يُنْظَر إليها على المستوى العالمي بأنها صوت له صدى قصير، لكنه لن يعمر طويلا، كما أنه لن يحظى بقبول تردده أو التفاعل معه والاستجابة له، ليس فقط لأن البعض يعتبره هلوسة، وإنما لأن الدولة العميقة على المستوى المؤسسي داخل الولاية المتحدة الأمريكية نفسها لن تستجيب له، فمثلا رغم الدعم الأمريكي لإسرائيل، وتشديد ترامب على تهجير الفلسطينيين، ومحاولة إتمامه لصفقة القرن عبر مزيد من التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، إلا أن هذا لن يحدث إن لم يكن بالشكل الكامل، فعلى الأقل بالطريقة التي تريدها إسرائيل.
قد يكون هدف ترامب من التلويح بالتهجير هو إنهاء المقاومة الممثلة في حماس وفي كل الفصائل المسلحة، لتصبح إسرائيل دولة آمنة، لذلك يجاهر بضرورة إفراغ غزة من أهلها، وإعادة بنائها، وتحويلها إلى منطقة عالمية سياحية ـ «ريفييرا» كما يقول ترامب ـ، بحيث ينعم القادمون إليها من كل الأصقاع بشمسها، ونسيمها، وشاطئها، وهذا ضرب من الوهم، وستكون تكلفة الدم باهظة للأمريكيين والإسرائيليين، حتى لو قتَّلوا الفلسطينيين أينما ثقفوهم.
على المستوى الجواري من الجانبين المصري والأردني هناك رفض حكومي وشعبي للتهجير، وربما من العرب جميعهم بمن من فيهم من وعد ترامب سرًّا، والفلسطينيون ـ هم الأهم ـ يرفضون التهجير أيضا من أرضهم، بل أنهم يمسكون بجمر ذرات الأرض، لكن رغم ذلك قد لا نحقق نتائج تذكر في هذا المجال إلا إذا خاطبنا ترامب بأسلوبه وبمنطقه، وذهبنا معه في المواجهة إلى الأمام، وأخذنا بنصيحة فضل الله، حيث التطرف في التفاوض يسمح لنا بالمناورة، ويجعل الطرف الأمريكي ــ الإسرائيلي مجرد رد على مواقفنا الثابتة.
والبداية هنا من تحويل إقامة الشعب الفلسطيني على أرضه إلى دولة معترف بها من العرب قبل غيرهم، من خلال تعمير سريع لغزة وللضفة، يكون مدعومًا بالأموال التي كانت ستذهب ـ جهرًا أو سرًّا ـ لدعم الولايات المتحدة الأمريكية، استجابة لضغط مباشر أو غير مباشر من ترامب.