الأخبارمقالات و تحليلات

 سوريا ليست سويسرا، والشرع ليس ديغول  / كتب ا.د كريم فرمان 

ا.د كريم فرمان / كاتب عراقي اكاديمي واستاذ القانون والنظم السياسية في جامعة الأخوين.افران المغرب.

المصدر : الكاتب

ربما يعد إسقاط الشرع ورفاقه لنظام الأسد أهم حدث في هذا العقد، وربما عقود أخرى لسوريا ولمنطقة الشرق الأوسط من حيث الكيفيةوالطريقة والسرعة التي تمت فيها، فخلال عشرة ايام انطلقت مجموعة لا يزيد عددها عن ٣٥٠ فردا كما ذكر ذلك الرئيس الروسي بوتين لتهاجم حلب وتهرب ميليشيات إيرانية أمامها بعديدها البالغ خمس وثلاثون الف مقاتل ثم يتجهزون بعدها بسرعة لمواصلة السير بموكب سيارات نصف حمل ورشاشات واسراب من طائرات تركية مسيرة نحو مدينة حماه ومن ثم حمص وبعدها يقتحمون دمشق العاصمة التي يتجحفل بها ماهر الاسد وفرقته الرابعة وعشرات الالاف من اجهزة النظام الموالية وعشرات الالاف من مليشيات فاطميون وزينبيون وعناصر حزب الله اللبناني الى ان سقط نظام الأسد الذي جمع أسوأ ما في الأنظمة. قتل وهجّر ملايين من أبناء الشعب السوري من دون مقاومة واضحة مطلقا فهرب الجيش السوري وفشلت قوته الجوية في التصدي للقادمين، حقيقة ان هذا الأمر سيضل سرا محبوسا في صدور وزير خارجية تركيا هاكان والرئيس اردوغان والرئيس بوتين لسنوات قادمة!!! على اية حال انزوى الأسد في قصره، وأخذ يجمع في سنواته الأخيرة الأموال التي هرب بها إلى موسكو في ليلة مظلمة. لم تعد هناك دولة بالمعنى الحقيقي، وتحولت إلى أداة بوليسية وظيفتها القمع، واقتصادها قائم على تجارة المخدرات والفساد التي أغرقت بها الدول العربية، وخصوصاً الخليجية. أما النسيج الاجتماعي فقد تفكك والخريطة الجغرافية تقسمت. استراتيجياً، ووقع النظام تحت نفوذ إيران بشكل كامل وميليشياتها، وأصبح ممراً ومخزناً لنقل الأسلحة إلى «حزب الله». كانت سوريا الأسد هي الجزء الأهم والحيوي في الهلال الإيراني الممتد من طهران وحتى بيروت. وكان محور «المقاومة» منتصراً وهو يضع سوريا في جيبه، وقواته تستعرض في ساحات دمشق. بقي المشهد هكذا قبل بضعة أشهر. بلد فاشل، وشعب فقير ومقسم بالداخل وهارب إلى الخارج، ورئيس معزول وضعيف. بدأ المجتمع الدولي يتقبل نظام الأسد وكأنه يغمس يديه مجبراً في الدم.

أتى أحمد الشرع ورفاقه وقاموا بشيء أشبه بالمستحيل. فرّ الأسد، وانسحب الإيرانيون، وغادرت الميليشيات الطائفية. للمرة الأولى يشعر السوريون منذ عقود أن لهم دولة تحتضنهم بلا تمييز. لا تبتزّهم، ولا تلقي بهم في السجون، ولا تطلب منهم الرشى. وللمرة الأولى يشعر العرب (أو الدول المعتدلة) أن سوريا لم تعد مصدر تهديد لها وإثارة مشاكل. تحولت من عدوة إلى حليفة. كان هناك تخوف مشروع لدى دول عديدة ومنها في الخليج من خلفيات الحكومة الجديدة الفكرية، ومنظر اللحى الجماعي في الشوارع والساحات يذكر بمشهدية مرسي و اخوان مصر وغنوشي تونس وليبيا إلى حد ما ولكن الشرع استطاع بسرعة أن يخلع عباءة الجولاني ويظهر بواجهة رجل دولة و قدم خطاباً معتدلاً متسامحاً واقعياً. لم تقم حكومته بعمليات انتقام، ولكنها تبنت نهجاً وطنياً. وفي خطابات الشرع وحواراته تحدث بلغة رجل الدولة وليس زعيم الميليشيات. استطاع أن يقدم نفسه فوق الطوائف والانقسامات، وتحدث بلغة حكيمة تجمع السوريين ولا تفرقهم. حققت دمشق الجديدة نجاحاً لافتاً دبلوماسياً واقتصادياً. كان عنوانها الصحيح التنمية أولاً وأخيراً.

كل المخاوف تلاشت نسبيا عدا مستقبلا مدى مزاحمة الدور التركي للنفوذ العربي في سوريا وهذا من الممكن ان يتغير اذا ما خسر أردوغان وحزب التنميه والعدالة ذي التوجهات الاخوانية اية انتخابات قادمة الا انه ظهر فعلاً أن سوريا تستعيد مكانتها، ولكنها بحاجة إلى الوقت ومزيد من الحضور العربي الفعال في الساحة واخذ زمام المبادرة قبل فوات الأوان فالسياسة نصفها مبادرات والعامل الذي يضعف فعالية النفوذ التركي هو انها لا تريد ان تضع نفسها في صورة المواجهة الجيوسياسية مع اسرائيل بكل ما تحمله من مخاطر على سياسات اردوغان البراغماتية البعيدة عن تحمل تكاليف باهظة لذا تحاول تركيا اقناع الشرع بالحوار مع روسيا لابقاء جزء كبير من القواعد الروسية على ارض سوريا .،
كان الشرع يظهر بصورة تكنوقراطية واقعية أكثر أحياناً من المتوقع. ووقعت قبل أيام أحداث الساحل، ولكن العملية الهدف منها تخريب كل هذه المجهودات الكبيرة، وتعطيل هذا المسار؛ لأهداف متعددة. فلول الأسد يريدون أن يستعيدوا نفوذهم وسطوتهم، والقوى الإيرانية والتابعة لها تريد خلق فوضى لتحقيق أهدافها، وتلطيخ صورة حكومة الشرع، وجرها لحرب أهلية، وتصويرها بأنها غير قادرة على بسط هيمنتها وفرض سيادتها.

التجاوزات وعمليات القتل والعنف مروعة وأحداث مدانة بكل المقاييس ولا يمكن تحميل الطائفةالعلوية
عروبية التاريخ والانتماءوزر سياسات النظام السابق، ولكنها خارج كل السياق الذي ذكرناه سابقاً. ولا تعبر عن حكومة الشرع وخطابها وسياستها على أرض الواقع. أعمال مارقة خارجةعن القانون والتصرف الصحيح، وكما أعلنت الحكومة فان الجدية في محاسبة المتورطين في دماء الشعب السوري، ومنع تكرارها هو المعيار في الصدقية وتطمين اهل الساحل . سوريا ليست سويسرا. والشرع ليس ديغول وسيف العقوبات وان علق مؤقتا لا زال مسلطا عليه اوربيا وامريكيا لقد ورثوا بلداً مدمراً ومفككاً ومشحوناً بالجروح العميقة. وبحاجة لمزيد من الوقت والصبر. ومن المتوقع أن تواجه سوريا تحديات، ولكنها تسير في الطريق الصحيح لتتحول إلى دولة ناجحة رغم محاولات التخريب . ولكن قادة الدول، خصوصاً في الظروف الصعبة، يعملون على بناء قوة الدولة وبسط نفوذها بالحكمة والواقعية والقوة وبالقانون، وإلا فستكون عرضة للتفكك والانهيار. نجاح سوريا الجديدة سياسياً واقتصادياً هو نجاح للمشروع العربي ليس فقط للسوريين، وحركة الدولة والتنمية سوف تسهم في تلاشي مظهر التشدد وغياب الفصائل مع فسح المجال لشباب سوريا في الانخراط في الجيش وقوى الامن فلن يكون مقبولا من الشرع وداعميه ان يرى العالم في الشام قندهار ثانية او استنساخ تجارب فاشلة للاسلام السياسي ولكن النجاح بالتاكيد سيكون لمنطق الاعتدال والعقلانية في المنطقة التي نكبها ودمّرها لفترات طويلة أصحاب الرايات الصفر والسود.

* كاتب واكاديمي من العراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى