الأخبارفضاء الرأي

حوار يعيد بناء الدولة/الدكتور يوسف حرمة ببانة –

يوسف حرمة ببانة/سياسي وباحث موريتاني

بصفتي أحد المشاركين الرئيسيين في الحوار الوطني السابق، وبناءً على تجربتي في ترؤس عدة ورشات ضمن ذلك المسار، وكوني من الأحزاب الموقعة على مخرجاته، أجد نفسي اليوم أمام لحظة سياسية تستدعي الصراحة والوضوح. لقد عايشت تفاصيل الحوار من الداخل، ورأيت كيف يمكن أن يتحول إلى فرصة تاريخية، أو إلى مناورة سياسية محدودة الأفق، حسب الإرادة السياسية ومدى شمولية المشاركة.

ومن بين أكبر الأخطاء التي ارتُكبت – وأقولها بمرارة – كانت تشكيلة اللجنة المستقلة للانتخابات، التي تم الاتفاق عليها ضمن مخرجات الحوار. لقد تم تمثيل الأحزاب المشاركة فقط، في تغييب واضح لبقية الطيف السياسي، مما أفقد اللجنة دورها التوافقي، وأضعف ثقة الشارع في حيادها. هذه التجربة يجب أن تكون درسًا لا يُنسى ونحن نتهيأ لجولة جديدة من الحوار.

ما الذي تريده الدولة من الحوار؟

الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني صرّح بأن الحوار مفتوح، ولا يوجد موضوع غير قابل للنقاش. وهذا تصريح مهم، بل تاريخي، إذا ما تم احترامه فعليًا. لكن في المقابل، نرى منسق الحوار موسى فال يرفض مطالب النائب بيرام الداه اعبيد، ويعتبرها “لا علاقة لها بالحوار”، دون أن يُوضح طبيعة هذه المطالب، أو يُبيّن هل هي مطالب شخصية، أم مطالب تتعلق بجوهر الحوار الوطني نفسه.

كنت قد تشرفت بمقابلة منسق الحوار الوطني السيد موسى فال، ودار بيننا حديث صريح ومباشر، بصفتي رئيس حزب سياسي ومواطنًا غيورًا على مستقبل بلده. وقد عبّرت خلال اللقاء عن رؤيتي لمتطلبات الحوار الجاد، وعن ضرورة أن يكون هذا المسار شفافًا، شاملًا، وغير مؤطر سلفًا. لقد لمست من المنسق حرصًا على الاستماع، لكنني في الوقت ذاته لاحظت أن بعض المواقف المعلنة – مثل استبعاد مطالب بعض الأطراف – تُثير القلق، وتستدعي توضيحًا رسميًا. فالحوار لا يُبنى على الغموض، بل على الوضوح، ولا على الانتقاء، بل على الشمول.

هذا الغموض يفتح باب التأويل، ويطرح علامات استفهام حول مدى شفافية إدارة الحوار. فإذا كانت المطالب تتعلق بالعدالة، العبودية، أو شروط الترشح، فهذه قضايا وطنية بامتياز، ويجب أن تكون جزءًا من أي حوار جاد. أما تجاهلها دون تفنيد، فيُضعف مناخ الثقة، ويُفقد الحوار طابعه التوافقي.

أريد أن أفهم: هل تسعى الدولة إلى توافق حقيقي؟ أم إلى تهدئة ظرفية؟ هل الهدف هو معالجة الأزمات البنيوية؟ أم إعادة ترتيب المشهد السياسي بما يخدم الاستقرار الظاهري؟

ما النتائج المرجوة من الحوار؟

إذا كان الحوار جادًا، فإن نتائجه يجب أن تكون بحجم الأزمة:

• إصلاحات دستورية ومؤسسية تعيد التوازن بين السلطات
• مراجعة القوانين الانتخابية لضمان التمثيل الحقيقي
• معالجة ملفات العبودية، التهميش، والعدالة الاجتماعية
• إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة

لكنني أتساءل: هل هناك إرادة سياسية لتحويل هذه المخرجات إلى واقع؟ أم أنها ستبقى حبرًا على ورق، كما حدث في حوارات سابقة؟

كيف سيتم تطبيق المخرجات؟

حسب خارطة الطريق التي قدمها موسى فال، سيتم تنظيم ورشات، ثم جلسات ختامية برعاية الرئيس، وتُعتمد التوصيات. لكنني أطرح سؤالًا مباشرًا:

• هل ستكون المخرجات ملزمة؟
• هل ستُترجم إلى قوانين؟
• هل ستُعرض على البرلمان؟ أم على الشعب في استفتاء؟

وهنا أفتح ملفًا حساسًا: إذا تطلبت بعض المخرجات تعديل المواد المحصنة في الدستور، فهل ستُعرض على استفتاء؟ وهل ستسمح السلطة بذلك؟ أم أن هناك خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها؟

بين البرلمان والاستفتاء: من يملك شرعية اعتماد المخرجات؟

إذا كانت مخرجات الحوار الوطني ستُعرض على البرلمان لاعتمادها، فلابد من التذكير بأن كثيرًا من الأحزاب السياسية غير ممثلة حاليًا في البرلمان، نتيجة نظام انتخابي لا يضمن التعددية الكاملة. وبالتالي، فإن تمرير إصلاحات جوهرية عبر مؤسسة لا تعكس التنوع السياسي والاجتماعي قد يُفقد هذه الإصلاحات مشروعيتها الشعبية.

من هذا المنطلق، أرى أن الطريق الأنسب والأكثر شرعية هو عرض المخرجات على الشعب في استفتاء وطني مباشر، خاصة إذا تعلقت بتعديلات دستورية أو إعادة هيكلة مؤسسات الدولة.

كما أن هذا يفتح سؤالًا مشروعًا: هل سيتم حل البرلمان وإعادة تنظيم انتخابات برلمانية جديدة على أساس التوافق الوطني الجديد؟ إذا كان الهدف هو إعادة تأسيس الدولة، فإن تجديد المؤسسات المنتخبة يجب أن يكون جزءًا من هذا المسار، لا أن تبقى خارجه.

الأحزاب السياسية: بين الشروط المجحفة وواقع المجتمع

من القضايا التي لا يمكن تجاوزها في أي حوار وطني جاد، قضية الشروط المفروضة على الأحزاب السياسية، سواء في التمثيل أو في الترشح أو في التمويل. إن الواقع المجتمعي الموريتاني، بتنوعه وتفاوتاته، لا يسمح بفرض شروط صارمة تُقصي أطرافًا واسعة من المشاركة السياسية.

أرى أن الشروط المطروحة حاليًا مجحفة جدًا، ولا تعكس طبيعة المجتمع ولا حجم التحديات. فبدلًا من أن تكون هذه الشروط وسيلة لتنظيم الحياة السياسية، أصبحت أداة للحد من التعددية، وتكريس هيمنة أطراف معينة.

لذلك، يجب طرح هذا الموضوع بشفافية، وبعقلية منفتحة، وقبول للرأي الآخر من طرف النظام، واستجابة حقيقية لمطالب المتحاورين. الحوار لا يُبنى على فرض أمر واقع، بل على التفاهم والتنازل والتوازن. وإذا أردنا بناء دولة عادلة، فلابد أن نعيد النظر في هذه الشروط، بما يضمن مشاركة الجميع دون إقصاء أو تهميش.

هل سنعيد مجلس الشيوخ؟

منذ إلغائه في 2017، لم يُطرح ملف مجلس الشيوخ بجدية. لكن في ظل الحديث عن إعادة هيكلة المؤسسات، أطرح سؤالًا بسيطًا: هل من الحكمة إعادة هذه المؤسسة؟ وهل هناك توافق سياسي حولها؟ أم أن الأمر سيُترك للظروف؟

العبودية: أزمة وطنية لا تخص فئة بعينها

من خلال مشاركتي في الحوارات الوطنية السابقة، لاحظت أن موضوع العبودية كان حاضرًا في كل دورة حوارية، لكنه ظل يُناقش بنفس الطريقة، دون أن ننتقل إلى المعالجة الجذرية. لقد أصبح هذا الملف يُطرح وكأنه قضية تخص فئة اجتماعية محددة، بينما هو في جوهره همٌّ وطنيٌ شامل، يمس كرامة الدولة، وعدالة مؤسساتها، ووحدة مجتمعها.

إن معالجة هذا الموضوع بنفس الطريقة السابقة ليس بحل. لا يمكن أن نواصل الالتفاف حول هذه الأزمة، أو تأجيلها، أو تجزئتها. لابد من الاعتراف الصريح بعمقها التاريخي والاجتماعي، ومعالجتها من جذورها عبر:

• إصلاحات قانونية صارمة تُجرّم كل أشكال الاستعباد والتهميش
• سياسات اجتماعية تعيد الاعتبار للمواطنين المتضررين
• خطاب وطني جامع يُخرج القضية من خانة “الخصوصية” إلى فضاء “المسؤولية الوطنية”

نحو تأسيس دستور وطني جامع

إن كل هذه القضايا الجوهرية – من شروط الترشح، إلى تمثيل الأحزاب، إلى إعادة هيكلة المؤسسات – لا يمكن أن تُحسم داخل غرف مغلقة أو عبر توافق محدود. يجب أن تُطرح في استفتاء شعبي شامل، إلى جانب بقية مخرجات الحوار الوطني، ليقول الشعب كلمته، ويُشارك فعليًا في رسم مستقبل دولته.

بهذا المسار، نكون قد أسسنا لدستور وطني جديد، ينبع من الإرادة الشعبية، ويُلبي حاجيات المجتمع الموريتاني، ويُساعد في نموه واستقراره، ويُعيد الثقة بين المواطن والدولة.

كلمة أخيرة

أتمنى أن أكون قد ساهمت، ولو بالقليل، في إثراء النقاش الوطني في هذه المرحلة المفصلية والحساسة من تاريخنا. فنحن مقبلين على انتخابات رئاسية في عام 2029، وسط محيط إقليمي صعب وحرج جدًا، تتداخل فيه التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية.

إن مسؤوليتنا اليوم، كنخب وطنية، ليست فقط في التعبير عن الرأي، بل في تقديم الأفكار، وطرح الأسئلة، والمساهمة في بناء مسار حوار يعيد الثقة، ويؤسس لدولة عادلة، قوية، ومتماسكة.

وأُذكّر الجميع بأن كل منصب في الدولة زائل لا محالة، ولا يبقى إلا أثر العمل الصالح، والإخلاص للوطن، والصدق مع الله والناس. فالدولة ليست ملكًا لأحد، بل هي أمانة في أعناقنا جميعًا، ومسؤوليتنا أن نحافظ عليها متماسكة، عادلة، ومتوحدة أمام التحديات.
الحوار ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لبناء عقد اجتماعي جديد، يُعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويُؤسس لجمهورية تستمد قوتها من عدلها، لا من سلطتها.
فلنختلف بصدق، ونتحاور بشجاعة، ونعمل بإخلاص من أجل موريتانيا التي نحلم بها جميعًا: دولة قانون ومواطنة وعدالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى