الأخبارالصدى الثقافي

آخر أبطال الزلاقة.. إطلالة على مشروع الدكتور أَدِّي ولد آدَبَّ العلمي والأدبي /إبراهيم الدويري

منجد الأندلسيات:
أطلعت على كثير من الدراسات والكتب المؤلفة عن الأندلس، فردوسنا المفقود، فلم أجد مؤلِّفا نفذ إلى روح الأندلس كما نفذ إليها الدكتور أَدِّي ولد آدَبَّ، ولم ألقَ باحثا باح له الفردوس المفقود بأسراره كما باح لآخر أبطال الزلاقة.

فقد كان على الدراسات الأندلسية المعاصرة أن تنتظر عقودا طويلة حتى يأتي باحث من الصحراء؛ فتتحفه بمكنوناتها، ويكون سيد إنقاذها من معضلات التجزيئية، والبطل الممسك بزمام ذهنيتها العامة، والمؤرخ البصير لأنساق كلياتها الجامعة.

رغم طول العهد وتتابع المحن لم ينسَ المسلمون والعرب فردوسهم المفقود؛ فقد ظلت أمجاد الأندلس وذكرياتها حية في الأنفس والوجدان حياة صامتة عدة قرون من الزمن، حتى انتفض أمير البيان شكيب أرسلان (ت1946) فأنطق ذكرياتها وعهودها في “الحلل السندسية في الآثار والأخبار الأندلسية”.

كانت روح المفاضلة تسكن الدكتور أَدِّي ولد آدَبَّ منذ صباه، وتتلبسه منذ نشأته الأولى، وظلت تنمو معه وترافقه؛ فلم يكن يسعى لغير المراتب العليا في مساره التعليمي، ملتزما روح المنافسة الشريفة الطامحة إلى الأفضل

 

فتح شكيب أرسلان بكتابه الرائد أبوابا واسعة للعودة إلى الأندلس، فعاد إليها الباحثون من كل الأقطار العربية، تتقدمهم الكنانة برواد الدراسات الأندلسية فيها من أمثال محمد عبدالله عنان (ت 1986)، الرائد الأول في إبراز الدرر الأندلسية من الخزائن الإسبانية، وكتابه “دولة الإسلام في الأندلس” ودراساته الأخرى من الكتب التي استحق بها لقب “أول باحث عربي وضع أسس الكتابة التاريخية الأكاديمية عن الأندلس في القرن العشرين”.

وازدهرت الدراسات الأندلسية في مصر بعد تأسيس المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، ثم صار في كل قُطر عربي متخصصون وباحثون في الدراسات الأندلسية، وكانت جل الدراسات تعنى بجزئيات معينة في الآداب أو السياسة أو التاريخ الاجتماعي تقتلها بحثا، وبقي السر الأكبر الكامل متواريا حتى جاء آخر أبطال الزلاقة، يمشي الهوينى على خطى ابن تاشفين بطل الزلاقة الأول، فعثر على روح الأندلس الكامنة في المفاضلات.

إعلان
لم يشأ الدكتور أَدِّي أن يقتصر في دراسته الإبداعية المحكمة عن الأندلس على جزئيات معينة، فدرس جميع الأنساق الأندلسية؛ “بيانا ومكانا وزمانا وإنسانا وإيمانا وعرفانا، لتمثل أطروحته محاولة إعادة تركيب للذهنية الأندلسية بجميع خصائصها المميزة، من دون تحديد جنس أدبي ولا قُطر ولا عصر ولا عرق ولا دين”.

اختار آخر أبطال الزلاقة هذا الشمول في الدرس والتناول؛ لأن المفاضلة عنده “ذهنية عابرة ومخترقة جميع هذه الأنساق، والأندلس لا تصدق إلا على مجموع هذه العناصر في إطلاقها”، واختار بسبب حبه للجمال أن يتنكب الأبعاد الأسوأ للمفاضلات، مثل المناظرات والمنافرات والمفاخرات والمنازعات والمعارضات، فمكنه هذا الاختيار من تجنب الابتسار وتجاوز الرؤى الضيقة إلى الآفاق الأوسع والمديات الأبعد، فجاءت النتائج أكمل وأجمل، وزوايا النظر إلى الأندلس وآدابها أشمل وأوسع.

كانت روح المفاضلة تسكن الدكتور أَدِّي ولد آدَبَّ منذ صباه، وتتلبسه منذ نشأته الأولى، وظلت تنمو معه وترافقه؛ فلم يكن يسعى لغير المراتب العليا في مساره التعليمي، ملتزما روح المنافسة الشريفة الطامحة إلى الأفضل من غير أن يكره ذلك للغير، أو تخل بشروط النزاهة ومبادئ الشفافية العلمية في التنافس.

تناول القسم الثالث والأخير “فضاء الهويات المتفاعلة في الأندلس”، في فصول أربعة عن المكان وصورة الأندلس، والزمان: فلسفة الإحسان والإنسان: تفاعل الدماء والانتماء، والأديان: حوار سابق للأوان، وهو حوار طريف شهد تعايش الإسلام والمسيحية وتناوشهما

تعمق بطل الزلاقة في مفهوم المفاضلات التي جعلها فرضية بحثه، واعتبرها مفهوما مركزيا في الذهنية الأندلسية وأنساقها الحضارية، وأصبحت لذلك منظورا جديدا وفاعلا في مقاربة الأدب الأندلسي خصوصا وحواضنه الثقافية عموما، لأنها عنده تندس وراء الفعل الأندلسي في أغلب تجلياته.

وتعمق أكثر في فرضية البحث ومواده مترامية الأطراف، حتى أصبح يخيل إليه أن مفهوم المفاضلات في يده أشبه ما يكون بـ”كتلة كبيرة من المغناطيس، تجذب من التراث الأندلسي كل ما يلامس صميم معدنها”، وقد اختبر الدكتور أَدِّي صدقية ذلك فوجد أن فرضيته البحثية “كانت فرضية مباشرة تتسم بوجود علاقة منطقية قوية بين مقدماتها ونتائجها”.

من هذه الفرضية انطلق الدكتور أَدِّي في دراسة مادته العلمية الكثيفة في الكم والكيف، ولم يستأسر في دراسته لهوس المناهج وتدجين الذوات، بل انطلق من المادة ذاتها عائدا إلى أصل اكتشاف المناهج من المواد نفسها، ومراعيا لدور المناهج في تنظيم سلاسل الفِكَر، ومحترما لأصالته العلمية والبحثية.

بهذه الملحمية البحثية استعاد الدكتور أَدِّي ولد آدَبَّ روح الأندلس في خطة حربية أو بحثية جاءت في ثلاثة أقسام؛ أولها عن “المفاضلات: تأسيس الأطروحة” في ثلاثة فصول تأسيسية شائقة، تناولت أصناف المعجم وحقوله الدلالية، والأطر والمرجعيات الدينية والنفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وهي المرجعيات التي ميزت الشخصية الأندلسية، وخلاصة تأسيسها بمزاجها الخاص وزيها المميز ومصطلحها الخاص وبصمتها الفنية وتميزها الأدبي.

وجاء القسم الثاني عن الأدب: مضمار العبقريات في أربعة فصول ذات عناوين بمفردات شاعرة راقصة عن الإبداع وهرمه الطبقي، والأنواع والأساليب في المحاكمات الأندلسية، ورهان البيان في المبادهات الأندلسية، ولعبة المظهر والمضمر في المفاضلات الأندلسية.

إعلان
وتناول القسم الثالث والأخير “فضاء الهويات المتفاعلة في الأندلس”، في فصول أربعة عن المكان وصورة الأندلس، والزمان: فلسفة الإحسان والإنسان: تفاعل الدماء والانتماء، والأديان: حوار سابق للأوان، وهو حوار طريف شهد تعايش الإسلام والمسيحية وتناوشهما، واحتضان اليهودية ونكرانها، وتعدد المذاهب وتوحدها، وتفاضل العلوم وتكاملها.

بهذا الإمتاع الموسوعي والضبط المنهجي والاسترسال اللذيذ، يمر القارئ على تفاعلات الإنسان والأَديان والزمان والمكان في الأندلس في انسجام عجيب، ولا يشعر بانقضاء وقته إلا في الصفحة 601 من الكتاب الضخم، فيتفاجأ أن الدكتور لم يكتب خاتمة لكتابه، فقد ترك متنه الثري مفتوحا على مصادره ومراجعه الكثيرة.

هذا هو الدكتور أَدِّي في جهده البحثي التحريري للأندلس، التي رأى أنها لا بواكي لها بعد استحكام الحدود الاستعمارية، فجرد سيف العزم سنين عددا يلاحق المصادر والمراجع في المغرب ودول الخليج وغيرها، منقبا عن النوادر في ثنايا الموسوعات، ومتأملا في الذهنية الأندلسية

ربما يشير الدكتور أَدِّي بعدم الإتيان بخاتمة إلى أن البحوث والكشوف لا نهاية لها، وهو على ما َقدم في دراسته الجزلة من جهد علمي تأسيسي فإنه لم يتبجح بكشوفاته البحثية، بل نزعه عرق تواضع أهل الصحراء؛ فكتب أن الإضافة العلمية لبحثه تكمن “في كونه يتجاوز الأبحاث السابقة له في موضوعه، بعدما يستفيد منها، ويحاول تكميل ما قصرت عنه، توسعا فيما حصرته، وتعميما لما خصصته، واستدراكا لما أخلت به”.

لا يحمل الدكتور أدِّي ثارات أهل الأندلس في زمن ملوك الطوائف، فحميته المرابطية لم تمنعه من نجدة آل عباد، فكانت دراسته “عمود الغرابة في الأدب الأندلسي (نظرية الأعمدة المتناسخة)” ثالثة أندلسياته التي أعاد بها الزمن الإشبيلي الجميل في دراسة نقدية لكتاب “البديع في وصف الربيع” لأبي الوليد الحميري (ت440هـ)، الذي رفعه إلى المعتضد بن عباد حاكم إشبيلية.

كانت دراسة الدكتور أدي لعمود الغرابة في البداية دراسة طالب باحث في الماجستير، لكن تميزه في منهج الدراسة، وطريق معالجته للموضوع وعمق قراءته له، والمصطلحات النقدية التي كان ينحتها، كل ذلك أثار انتباه أساتذته فاكتشفوا أن الباحث الطالب بينهم “ينفر من التكرار والمعهود، ويبحث دائما عن مداخل جديدة لأي موضوع يتطرق إليه”.

ذلك ما شهدت به مؤلفاته اللاحقة المتتالية والسابقة، ومنها الإيقاع في المقامات اللزومية للسرقسطي، الذي صدر عام 2006 في 400 صفحة، ولم تتح لي فرصة الاطلاع عليه، وهو أول أندلسياته، وثانيها المفاضلات، وثالثها عمود الغرابة، وعسى أن يرى النور ما اختمر في ذهنه عن الأندلس طيلة فترة معايشته المثمرة مع تراثها.

هذا هو الدكتور أَدِّي في جهده البحثي التحريري للأندلس، التي رأى أنها لا بواكي لها بعد استحكام الحدود الاستعمارية، فجرد سيف العزم سنين عددا يلاحق المصادر والمراجع في المغرب ودول الخليج وغيرها، منقبا عن النوادر في ثنايا الموسوعات، ومتأملا في الذهنية الأندلسية وأنساقها الأدبية، حتى أخرج هذا السفر الخاتم لآلاف الدراسات الأندلسية، فاستحق بذلك عندي لقب “آخر أبطال الزلاقة”.

لم تقتصر جهود القائد المرابطي أبي بكر بن عمر على تگانت، فإن الدكتور أدي أيضا يمَّم بقلمه شطر الوطن الذي حمله على أكتافه، فأعاد شعره الحساني إلى جذره العربي، فوصل نسب الأدب، وشفع الشعر بالنقد فكتب عن “نقد الشعر بالشعر لدى قدماء الشناقطة”

الوفاء للصحراء
ولئن كان بطل الزلاقة الأول، أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، طاب له المقام شمالا وأسس مدينة مراكش الحمراء وأقام بها، وشغلته هموم شمالي أفريقيا واستغاثات الأندلس عن موطن حركته الأول في الصحراء وعلى ضفاف الأطلسي، فإن آخر أبطال الزلاقة لم يكتفِ بتقفي أثر ابن تاشفين، بل تقفى أثر أبي بكر بن عمر في عودته إلى الصحراء منقذا ومنجدا.

حين أطل وباء كورونا نهاية 2019، وأغلق العالم أبوابه أمام المسافرين، ومنعت الحكومات تلاقي الناس في الجوامع والجامعات والأسواق، يمم الدكتور أَدِّي وجهه البحثي وصرف همته العلمية صوب أكان وضواحيه منقذا تراث عائلته الأدبي والعلمي، وهي عائلة من “بيوتات الشعر العربي” ومن عوائل الأدب والنبل، يجري الشعر في جينات أبنائها وبناتها جريان الماء في أودية تگانت وسفوحها.

في تلك العزلة الاضطرارية أبصرت سلسلة “أدبيات أهل آدَبَّ” النور في خمسة عناوين، مختومة بكتاب سادس عن عميد العائلة محمد ويقي بن سيدي ألمين البوسيفي، شاعر أگان/ العلم المجهول عام 2024، وكان حقه التقديم لكن ضرورات البحث والاستقصاء أخرت صدوره حتى حين.

في سلسة أدبيات أهل آدَبَّ تقرأ كتابا تأسيسيا عن “أسرة أهل آدبَّ سلالة الشعر وبيت القصيد”، ثم تتفرع غصون البيت الكريم إلى الحديث عن قيم العائلة التي وثقها حفيدها البرُّ في “المقاومة الأخلاقية في أدبيات أهل آدب”، ثم إلى “سيدي ولد آدب رمز الفتى الكنتي”، و”الشيخ أحمد بن آدب شيخ المشايخ وقطب الشعراء”، وللنساء نصيب حازته خديجة “دية” بنت سيدي بن آدب خنساء شنقيط”.

وكما لم تقتصر جهود القائد المرابطي أبي بكر بن عمر على تگانت، فإن الدكتور أدي أيضا يمَّم بقلمه شطر الوطن الذي حمله على أكتافه، فأعاد شعره الحساني إلى جذره العربي، فوصل نسب الأدب، وشفع الشعر بالنقد فكتب عن “نقد الشعر بالشعر لدى قدماء الشناقطة”.

والكتابان يربطان صحراء شنقيط بعمقها الثقافي الإستراتيجي في بقية أمصار العالم الإسلامي، ولم يكن بطل الزلاقة كاتبا ممجدا فقط؛ فقد نقد العقل البيضاني في سبيل بناء القيم من الأمثال الحسانية، وطرح سؤال الفراغ على موريتانيا بلد الاستثناءات، واستنطق صمت الصحراء الصاخب.

لو تتبعت “خرائط الوجع”، أو حاكيت إخوانه من الدواوين، فإن المقام سيطول بين يدي أديب زرع “شفة الزمان حدائق من الشعر”، وسيطول أكثر لو فتحت مجال القول في الدكتور أدي الإنسان النبيل، العاض على جمر المبادئ، والمنحاز لدينه وأمته ووطنه وضميره وإنسانيته

دواوين الإباء
رغم تميزه الأكاديمي والبحثي، فإن جانب الشاعر في الدكتور أدِّي- سليل أحد أنبل بيوتات الشعر العربي- لا يمكن أن يغفل، وقد كثرت دواوينه الشعرية، ويجمع بينها الإباء الذي ميز رحلة الدكتور في مختلف محطاتها الحافلة بالبحث والشعر والنبل.

فمنذ رحلته بين الحاء والباء وهو يتأبط أوراقا، ويترجم عن بصمة روحه، ويحمل وطنه على كتفه، لا يكتب إلا نبلا وإباء في صيغة قصائد تخفف آلام خرائط الوجع، وتفي للوجوه التي كتبته، جاعلا من ملحمة فلسطين الخالدة “قصيدة” ومن حبه لسيد البشر (صلى الله عليه وسلم) مسجدا لـ”صلوات القوافي”.

في ديوان “خرائط الوجع” التحم بطل الزلاقة بملاحم الرافدين، وتفيأ ظلال العراق، ومسح على رؤوس أطفال بغداد، وكان في قانا بلبنان يداوي جراحها النازفة، وفي اليمن يلعن سارقها اللئيم، وفي مصر يبكي دموية جلاديها، وكان في القيروان، ومع الروهينغا في محرقتهم المستمرة. وهكذا أينما دعا داعي الضمير والإنسانية ترَ الدكتور أدي ولد آدب يلبي نداء الإباء والوفاء.

لو تتبعت “خرائط الوجع”، أو حاكيت إخوانه من الدواوين، فإن المقام سيطول بين يدي أديب زرع “شفة الزمان حدائق من الشعر”، وسيطول أكثر لو فتحت مجال القول في الدكتور أدي الإنسان النبيل، العاض على جمر المبادئ، والمنحاز لدينه وأمته ووطنه وضميره وإنسانيته.

ومختصر القول في ذلك أن من عرف الدكتور أدي فقد عرفه، ومن لم يعرفه فإنه لن يسمع عنه إلا خيرا، أطال الله بالمجد أيامه، وحدد بالإبداع أقلامه، وخير ما يعبر عن سماحته الأدبية وسخائه الروحي وتوسعه الثقافي تصفح كتابه اللطيف “جدل العنوان والمتن: إستراتيجية قرائية للنصوص والشخوص”.

وما يهمني في هذا الكتاب بعيد مما كتبه له مؤلفه؛ فقد كتبه بصفته ناقدا يترصد الكلمات ويقتحم العتاب ويحاور النصوص ويكلم الشخوص، وقرأته بعين المؤرخ الثقافي، والكتاب من هذه الناحية يعبر عن مستوى العلاقات الثقافية لأدي، والتواصل العلمي بين بلداننا وأدبائنا في عصر التواصل المذهل.

فقد مد الدكتور أدي جذوره الثقافية إلى المغرب، فعرفنا فيها على “باقة من ألوان القلب” لأم الفضل بنت الشيخ ماء العينين في الرباط 2010، وشدو المعنى لخديجة، الذي قُرئ في الرباط عام 2011، فكتب عن دواوين وروايات ودراسات، وعرَّف القارئ العربي بأدباء وشعراء شباب من مصر، وفلسطين، وسوريا، والجزائر وموريتانيا.
المصدر /الجزيرة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى