مقالات و تحليلات

حكايات مجنونة جدا…/ البشير ولد عبد الرزاق

البشير ولد عبد الرزاق / كاتب موريتاني

..يروى أن ملك القوط الأندلسيين “لذريق”، حين علم بأن طارق بن زياد وجيشه نزلوا جبل الفتح، “جبل طارق”، أطلق ضحكة مدوية وقال: “ماذا جاؤوا يفعلون هنا، هؤلاء المجانين؟”، وأنه حين نزل “وادي برباط”، كان في جيشه عشرات الدواب، لا تحمل سوى حبال أعدها لكتاف المسلمين،

لكن رحى معركة “وادي برباط”، دارت بما لا يشتهيه ذلك المعتوه، وكانت تلك بداية ملحمة تاريخية رائعة، سطرها طارق بن زياد وموسى بن نصير وآخرون، ستنتهي ببناء دولة عظيمة، تمتد حدودها إلى مشارف جبال البرينيه في بلاد الغال، فرنسا الحالية،

بعد هذا الحادثة بأكثر من سبعة قرون، وفي الثاني من يناير عام 1492، سيسلم آخر ملوك بني الأحمر، أبو عبد الله الصغير، مفاتيح مدينة غرناطة لفيرناندو وإيزابيل دون قتال، وسيرحل نحو مدينة فاس، وحين يبلغ الرابية المطلة على غرناطة، لن يستطيع أن يتمالك نفسه، سيبكي بحرقة شديدة وستصرخ أمه في وجهه: “تبكي كالنساء على ملك لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال”،

“مأساة أبي عبد الله الصغير مريرة، لو تدركون مرارة المأساة”، أختار الخنوع والهوان بدل ممارسة قسطه من الجنون، فخاصمته جميع كتب التاريخ وأدارت له ظهورها،

..ما زال ذلك الحلم القديم يراودني ويلح علي في كل مساء، كتاب تحت عنوان: (شخصيات مجنونة في تاريخ الدولة الموريتانية)، استفتحه بحكاية مجنونين من العيار الثقيل، هما: سيدي المختار ولد يحي أنجاي وسيدي محمد ولد سميدع،

الأول يميني حتى النخاع والثاني يساري حتى أطراف أصابعه، لكن ما يجمع الرجلين هو أنهما مارسا أرقى حالات الجنون، في وقت مبكر من تاريخ الدولة الوطنية:

ولد يحي أنجاي، قدم استقالته من رئاسة الجمعية الوطنية، يوم الأربعاء 15 مارس سنة 1961، احتجاجا على الانتقال من نظام برلماني تشاركي، إلى نظام رئاسي يمنح صلاحيات واسعة للرئيس، أيقن الرجل وقتها أن تلك الحماقة، ستؤدي إلى وأد تجربتنا الديمقراطية الوليدة وتكريس سلطة الفرد، وقد تحققت نبوءته،

أما ابن اليسار البار، سميدع، الذي توفي ولما يكمل بعد عقده الثالث، فقد استطاع خلال خمس سنوات فقط، هي كل عمر حياته النضالية، أن يصنع أشياء مذهلة ومدهشة للغاية، جعلته يتربع على عرش كل القصص الجميلة، التي دغدغت أحلام الموريتانيين وراودت وجدانهم، من منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى بداية سبعينياته،

المؤسف جدا، هو أن الأمر الآخر الذي يجمع بين هذين الرجلين المنسيين، أن كليهما توفيا داخل غرفة رطبة وسيئة الإضاءة في أحد المستشفيات السنغالية، بعيدا عن الوطن والأهل والرفاق، لكن ذلك لا ينقص شيئا من روعة حكايتهما، بل على العكس تماما، إنما يزيدها دفئا ولوعة،

..في عام 2019، ستكون موريتانيا بحاجة ماسة، لا يعادلها سوى عطش ولد الديد يوم لكويشيش، إلى رجل يستطيع ممارسة الجنون إلى حد المجون، مثل ولد أحويريه، يجعلها، هي أيضا، تصنع لنفسها حكاية باذخة، تفاخر بها الآخرين، وترويها لأطفالها قبل النوم وحين يكبرون:

آدما بارو وهو يقود الغامبيين الحفاة، إلى قمم المجد ويخلصهم من خوفهم المزمن، كان يمارس الجنون بعينه، الأمريكيون وهم ينتخبون رئيسا غريب الأطوار، السياسة عنده، تبدأ وتنتهي عند عتبات وول ستريت، كانوا يجربون نوعا آخر من الجنون، الفرنسيون وهم يرسلون يسارهم ويمينهم ووسطهم إلى أرصفة باريس، وقد بللتها أمطار مايو الباردة، بينما يحجزون لماكرون قاعة فسيحة ودافئة داخل قصر الأليزيه، يؤدي فيها اليمين الدستورية رئيسا لفرنسا التاريخ والثقافة، إنما كانوا يجربون أعذب نوبات الجنون،

الشعوب، التي لا تجرؤ على ممارسة قسط وافر من الجنون، تنهمر الشيخوخة مبكرا على وجهها، وتجد نفسها عالقة في مستنقعات النسيان ومنغمسة في تمرين وطني على الموت البطيء. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى