الأخبارمقالات و تحليلات

هل الفلاسفة أهم من الفلسفة؟ / بقلم أحمد المسلماني

أحمد المسلماني
كاتب مصري.

الفلاسفة أشهر من الفلسفة، والقراءة عن الفلاسفة أمتع كثيراً من القراءة في الفلسفة. وعلى الرغم من أنّه يصعب الفصل بينهما، فالفلسفة هي نتاج الفلاسفة، لكن طبائع الفلاسفة، وعمقهم ورصانتهم، وجنوحهم وجنونهم.. ومعاركهم وحروبهم.. كلها أمور أكثر تشويقاً من أطروحاتهم نفسها. ولذا فإني لم أندهش حين قال لي أحد الناشرين الكبار: إن الكتب التي جرى تأليفها عن الفلاسفة أكثر توزيعاً من الكتب التي ألفها الفلاسفة أنفسهم.
وبطبيعة الحال، فإن صعوبة وتعقيدات النصوص الفلسفية تقف وراء ذلك، فكتاب «رأس المال» الضخم والصعب يمكن اقتناؤه بسهولة، لكن إذا أراد أحدهم أن يطالع حقاً ما في الكتاب، فإنه سيبحث عن الشروح والمختصرات، وسيذهب إلى شراء كتب عمّا قاله كارل ماركس في «رأس المال»، وليس ما قاله هو شخصياً.
إن الفيلسوف الألماني الكبير «هيجل» لا يمكن فهمه بسهولة، وقد تندّر أحدهم قائلاً: إن هيجل لا يمكنه فهم كل ما كتبه هيجل. ومع ذلك فإن اسم «هيجل» ملء السمع والبصر، ولا يخلو حديث فكري جادّ في الشرق أو الغرب من إشارة للفيلسوف الكبير، لكن قراءته الحقيقية من المؤلفات الصادرة بقلمه محدودة للغاية.
لقد أدرك بعض الفلاسفة تلك المفارقة، وراحوا يحاولون جذب الأضواء لأنفسهم كلما انحسرت الأضواء عن الفلسفة، وربما كان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر نموذجاً لذلك، فالفيلسوف الذي روّج «الفلسفة الوجودية» حول العالم، وجعل منها «ترند فلسفي» لعقدين أو يزيد من الزمان، اختار السياسة طريقاً للإضاءة على الفلسفة، فنزل إلى الشوارع متظاهراً، وخاض صراعاتٍ سياسيةً وأيديولوجيةً حادّة، وزار دولاً في مختلف أنحاء العالم، واختار مواقف سياسية تقدميّة عززت من شعبيته وحضوره.
أصبح الفيلسوف الوجودي أشهر من الفلسفة الوجودية، وصارت أخبار سارتر أهم كثيراً من طبعات كتابه «الوجود والعدم». 
وفي مصر كان الفيلسوف عبدالرحمن بدوي نموذجاً قريباً من ذلك، فمقالات بدوي السياسية في الشأن المصري، وإقامته لمدة طويلة في فرنسا، وأداؤه القاسي مع تلامذته ومريديه.. كل ذلك جعل منه مادةً إعلامية فلسفية جذابةً أكثر من نصوصه الفلسفية ذاتها.
 وقبل سنوات قال لي الدكتور فؤاد زكريا: كان عبدالرحمن بدوي شخصاً صعباً للغاية، ولم أعرف مشتغلاً بالفلسفة امتلك كل هذه الصفات غير الودودة كما امتلكها بدوي. وقبل شهور روى لي الإعلامي والناقد السعودي محمد رضا نصر الله قصة لقائه مع عبدالرحمن بدوي في باريس، وهو اللقاء التليفزيوني الوحيد الذي تم إجراؤه مع الفيلسوف الكبير، وكان من بين ما روى.. صعوبة الحوار، بل وصعوبة التعامل مع الدكتور بدوي، وقد كان اللقاء مهدداً بالإلغاء طيلة الوقت.
وربما كان الدكتور زكي نجيب محمود استثناءً من ذلك، وهو ليس الاستثناء الوحيد عربياً أو عالمياً، ولكنه استثناء متكرر، حيث كان زكي نجيب سهل العبارة، مباشراً في الإصلاح الفكري، واضحاً في أسلوبه وغاياته، جذاباً في العرض والنقد. وهو ما يجعله – في تقديري – صاحب أهم مشروع فكري عربي، ذلك أنه المشروع الأكثر ثراءً وانضباطاً، وكذلك الأكثر وصولاً وتأثيراً.
 لقد عانى الفكر العربي من كون «الفلاسفة أهم من الفلسفة»، فمن محمد جابر الأنصاري إلى جورج طرابيشي إلى حسن حنفي وعبدالله العروي ومحمد عابد الجابري وطه عبدالرحمن وبينهم وغيرهم كثير.. أصبحت أخبارهم وإشاراتهم ومقتطفاتهم.. هي ما بقي من مشروعاتهم، أمّا مشروعاتهم الفكرية نفسها، فقد غابت نصوصها الأصلية عن الحياة العامة، وبقيت محدودة داخل أسوار الباحثين والمتخصصين.
ثمّة ما يجب عمله إزاء ذلك كله، إذْ يجب دعم وتطوير «الإعلام الفلسفي» في العالم العربي، والسعي لمساندة مشروعات للشروح والمواجيز والخلاصات، بطريقة احترافية غير مخلة، والإفادة من ثورة الاتصالات في استقطاب الشباب لتلك المضامين الكليّة والأفكار الجادة والتصورات الوجودية.. للعالم وللحياة.
لقد بدأتُ في الهيئة الوطنية للإعلام في مصر بإطلاق أول برنامج تليفزيوني فلسفي بعنوان «الفلسفة الآن»، آملاً أن تجد الفلسفة طريقاً لها.. من النخبة إلى المجتمع، ومن فصول الدراسة ومدرجات الجامعة.. إلى أزقة القرى وشوارع المدن.

المصدر : الاتحاد الإماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى