الأخبارالاقتصاد والتنمية

العدالة التنموية في موريتانيا: نحو توزيع عقلاني لمصالح الدولة حسب الميزة الجغرافية بقلم: الدكتور ختار الشيباني

د/ختار الشيباني أستاذ الاقتصاد بجامعة انواكشوط

منذ تأسيس الدولة الموريتانية، ظل التوزيع الجغرافي لمصالحها الإدارية والاقتصادية والتعليمية حبيس مركزية مفرطة تركزت في العاصمة نواكشوط، تاركة بقية المناطق في وضعية انتظار مزمنة لمشاريع لا تأتي، أو إن أتت، لا تنبع من خصوصيات تلك المناطق ولا من مواردها الكامنة. واليوم، ومع تعاقب البرامج التنموية وتزايد حجم الموارد المتاحة، بات من الضروري إعادة النظر في هندسة الدولة على أساس العدالة التوزيعية واللامركزية المنتجة، بحيث تُنشأ المصالح العمومية حيث تكون الحاجة وحيث يوجد المورد.

فالعدالة التنموية لم تعد رفاهًا فكريًا، بل ضرورة وجودية لدولة تسعى إلى الاستقرار والتماسك والتقدم. وإذا ما التقت الإرادة السياسية الصادقة بالمطلب الشعبي العادل، فبوسع موريتانيا أن تدشّن مرحلة جديدة، تُوضع فيها الثروة والقروض والتنمية في خدمة الوطن كلّه، لا جزءٍ منه.

في الشمال، وتحديدًا في ولايات تيرس زمور وداخلت نواذيبو وآدرار، تتجلى ثروة موريتانيا المعدنية والبحرية. فمناجم الحديد والذهب وموانئ الصيد والسياحة الجبلية تشكّل قاعدة اقتصادية لا بد أن يقابلها وجود مؤسسات استراتيجية، مثل الوكالة الوطنية للمعادن، ومعاهد للتكوين الصناعي، وقطب بحري وطني يضم جامعة للصيد البحري ومراكز للبحث والتطوير في الصناعات السمكية، إلى جانب مركز للسياحة الثقافية والبيئية.

أما في الجنوب، حيث الخصوبة الزراعية وتنوع الثروة الحيوانية، فإن ولايات گورگول وگيدي ماغه ولبراكنه والترارز، فلا يعقل أن تظل هذه المناطق الزراعية بلا جامعات متخصصة ولا مصانع تحويلية تُمكن الفلاح من تسويق إنتاجه. من هنا تبرز الحاجة إلى تأسيس جامعة جنوبية للعلوم الزراعية والبيطرية، إلى جانب مراكز بحث في التنمية الريفية ووكالات لدعم التعاونيات والمشاريع الصغيرة. وينبغي أن تكون كيهيدي وسيلبابي وألاك وروصو محاور لتجريب نموذج تنموي تشاركي يُحتذى به.

في الشرق الموريتاني، حيث الحوضان ولعصابه، يزخر المجال بالثروة الحيوانية والزراعة المطرية، وبسكان يتميزون بارتباطهم الشديد بالأنشطة الرعوية. وفي هذا الفضاء الجغرافي المهم، يجب أن يتم إنشاء مستشفى بيطري وطني، ومركز أبحاث رعوي، ومعاهد تكوين في الصحة الحيوانية والإنتاج الحيواني، إلى جانب بنك للتنمية الريفية ومعهد للموارد الطبيعية، يسهم في ربط العلم بحاجات السكان.

في الوسط (تكانت وأجزاء من لعصابه وآدرار)، تُشكّل المدن التاريخية كالتيشيت وشنقيط ووادان موارد ثقافية يمكن تحويلها إلى روافع اقتصادية. ومن هنا، فإن إنشاء مركز وطني للتراث والتنمية الواحية، وصندوق خاص بترميم المدن القديمة وتشجيع السياحة الثقافية، ليس ترفًا بل ضرورة اقتصادية وثقافية.

ومع أهمية العاصمة نواكشوط، فإن إعادة التوازن يقتضي تحويلها إلى مركز إداري وسياسي لا مركزي لكل المصالح. فنقل بعض مصالح الدولة وإداراتها العامة إلى الولايات الداخلية سيبعث برسالة واضحة أن الدولة ليست العاصمة فقط، بل مشروع وطني متكامل.

ومن المقترحات الجوهرية في هذا السياق، إنشاء أقاليم اقتصادية متكاملة تضم ولايات متجاورة، وتُمنح صلاحيات في التخطيط والتنفيذ، ضمن رؤية وطنية شاملة. كما أن اعتماد قاعدة توزيع عادلة – كأن يُخصص 15% من كل عائد من الموارد الطبيعية للمنطقة المنتجة نفسها – سيعزز الثقة في الدولة ويحد من الشعور بالتهميش، ويفتح الباب أمام شراكة جديدة بين المركز والأطراف.

موريتانيا ليست بلدًا فقيرًا من حيث الإمكانيات، لكنها تظل بحاجة إلى إرادة سياسية جريئة تعيد بناء العلاقة بين الدولة ومجالها الجغرافي. وقد بدأت ملامح هذه الإرادة تتجلى في خطاب النظام الحالي، الذي يُؤكد في وثائقه المرجعية وخطاباته السياسية على خيار اللامركزية والعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة. ويشكّل هذا التوجه، إذا ما تُرجم إلى قرارات تنفيذية جادة، أرضيةً مناسبة لإعادة الاعتبار للمناطق الداخلية، ولتجاوز منطق المركزية المفرطة الذي أضعف فرص التنمية الشاملة لعقود.

إن اللحظة الراهنة تتيح فرصة تاريخية لوضع أسس توزيع عقلاني للمصالح، يؤمن بأن لكل منطقة في موريتانيا ما يمكن أن تقدمه، شرط أن تُمنح الأدوات، والبنى التحتية، والاستثمارات الكفيلة بتحقيق ذلك. وإذا ما التقت هذه الرؤية مع الإرادة السياسية القائمة، فإن موريتانيا ستكون على أعتاب نموذج تنموي جديد، أكثر عدلًا وتوازنًا، يُقرّب الدولة من مواطنيها، ويعيد الثقة في مشروعها الوطني الجامع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى