الديمقراطية بين عسف بناة و شطط حفاة / الولي سيدي هيبه
منذ سنتين تشهد الديمقراطية في القارة الإفريقية (أغاندا، البنين، الكونغو، بروندي، النيجر، ساحل العاج، الكامرون، مالي، تشاد، غينيا الاستوائية…) تناقصا ملحوظا و رجوعا بقوة إلى التحايل على الدساتير و المواثيق الوطنية؛ حقيقة مرة لا يبدو أن الدول الغربية مكترثة لها أو ممانعة حتى لها ما شجع و يشجع بعض الديكتاتوريات الصاخبة و الأخرى الصامتة على القفز من جديد على دساتيرها و الاتجاه إلى تغييرها و محاولة ملاءمتها لطموحات حكامها المتجددة.
على الرغم من ذالك تظل، في هذا الخضم، بعض الأحكام في العديد من دول القارة بقيادة رؤساء لهم حضورهم القوي، تجمع بين سيئة الديكتاتورية و حسنة البناء و الإشراف على دول أمسكت بخيط التقدم و سارت على درب التحول.
في جمهورية “رواندا” ينجح رئيس من “طينة البناة” لعهدة ثالثة. و رغم ما يسجل عليه من التضييق على الحريات و الإعلام فإنه و بشبه إجماع مواطنيه رجل البرامج الاقتصادية المذهلة التي صنعت “معجزة” تطور بلده في محيط متخلف ترهقه الحروب و الخلافات من زمن الماضي. و إن الزائر اليوم لـ”بوروندي” لن بصدق حجم التحول الذي أصاب البلد و عمق التحام الرونديين بصفحة الحداثة بكافة أوجهها و منها التقدم المذهل الذي يحققونه في مجال المعلوماتية صناعة و تطويرا للبرمجيات التطبيقية.
و في “كينيا” العظيمة بمستوى تعليمها العالي و الفني الرفيع و رسوخ قواعد بنيتها التحتية و احتضانها مقرات منظمات أممية و دولية وعي شعبها و عراقة الممارسة السياسة فيها رغم ما شابها في بعض المنعطفات في الماضي من العنف الشديد فإن الانتخابات الرئاسية تسير إلى حتمية نتائج ديمقراطية لما يبذل من جهد مشترك لشفافيتها و تُحاط به من رقابة على المستوين الداخلي و الخارجي منعا لأن يكون التلاعب “سيد الموقف” و “علامة النكوص” الديمقراطي. و إنه من أشد المتابعين لهذه الانتخابات و المهتمين بنتائجها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق “باراك أوباما” المنحدر من أب كيني.
و يخضع الرئيس “جاكوب زوما” المضطرب في جنوب إفريقيا ـ الدولة القوية باقتصادها القوي و صناعتها المتقدمة ـ لمساءلة البرلمان و يذعن لقوة كلمته فيه منعا من الرئاسة أو إيذانا بالبقاء حتى نهاية عهدته.
نماذج بين أخرى لدول تدار فيها، رغم بعض مظاهر الشطط، السياسةُ على خلفية نضج سياسي عال و وعي مدني رفيع و حس وطني عميق و إيمان بضرورة البناء و التقدم تشارك فيه الأحزاب العتيدة ذات الخطاب العقلاني و منظمات مجتمع مدني تخطت مستوى الانتهازية و غياب الرؤية و الأهداف. و نتيجة لهذا الوضع بالمتسم بالبعد عن “المثالي” من الديمقراطية و الابتعاد عن “أسوء” أحوالها تَظهر هذه الدُّول في حال يَجدر السكوتُ عليه و على الذين أوجدوه و قد فتح ثغرة من “عزم التغيير” تزداد اتساعا مع اتقاد شعلة الوعي فيها؛ نتيجة تعري ضعف الدول التي تقدم ذكرُ نماذج منها لا تمتلك على العكس منها:
- أرضية وعي سياسي جدير بالذكر،
- بنية تحتية تؤشر على قيام نهضة وطنية تستهدف البناء الشامل،
- محفزات ذاتية إلى ذلك يخلقها في ظل موت الإحساس بتلك الضرورة استدراكُ للواقع المرير.
و بالضبع فإن هذه الدول المتخلفة عن ركبي الديمقراطية و التنمية بسبب ما تعانيه من الهشاشة القصوى التي يكبلها الماضي القبلي و الجهوي و الطبقي و الاقطاعي الحاضر بقوة و جهل و ارتكاس فكري و كسل مزمن و انغماس في عقيم الممارسات الاجتماعية المحفوفة بالخرافة و التغني بأمجاد إن لم تكن مصطنعة فإنها مضخمة و مهانة.
و لعل هذا البلد بعزوف أغلبية أهله عن العمل البناء و العلوم النافعة، و باستحسانه اتباع مسالك النفاق و الحربائية و الانتهازية و الشدة في المواقف و نأيه عن الحوار الإيجابي و عدم الاكتراث برفع الوطن فوق كل الاعتبارات الأخرى و منها الصراع و الصدام في حلبات “البحث” عن السلطة لا الوطن و الثراء لا الرفاهية العامة المشتركة متجه من حيث لا يحس أهله إلى الهامش الضيق الملوث بالجهل و الضعف و علامات التلاشي الذي بدأت ملامحه تتضح على حواف العولمة الزاحفة بسرعة العلم.