تحليل: انتخابات السنغال – دورس للقارة السمراء والعالم العربي منصف السليمي
تحليل: انتخابات
فوز باسيرو ديوماي فاي بالرئاسة في السنغال لم يكن مفاجأة وحسب بل إنه بمثابة حلم يتحقق للسنغاليين وخصوصا الشباب، الذين دعموا حملته بعد أزمة سياسية عاصفة. البلد الغرب أفريقي، يفتح لنفسه أفقا جديدا ويقدم من جديد دروسا
يشكل انتخاب مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فايتغييرا تاريخيا في انتقال السلطة بالسنغال، ذلك لأنها المرة الأولى التي لا يترشح فيها رئيس منتهية ولايته. ولم يسبق للرئيس المنتخب أن تولّى أيّ منصب وطني منتخب وسيصبح خامس رئيس للسنغال وأصغر الرؤساء سنّاً في تاريخ البلد الواقع في غرب أفريقيا.
وبعد فوزه الانتخابي المدهش وبأغلبية مريحة تلقى الرئيس المنتخب تهنئة من مرشح السلطة رئيس الوزراء السابق أمادو باه حتى قبل نشر النتائج الأولية الرسمية للانتخابات، والتي أظهرت تقدمه بنسبة 53,7 في المائة، بينما حصل منافسه الرئيسي أمادو با على 36,2 في المائة، وذلك بعد فرز 90 بالمئة من الأصوات في الجولة الأولى من التصويت. ويبلغ عدد من يحق لهم التصويت نحو 7.3 مليون ناخب من بين سكان السنغال البالغ عددهم نحو 18 مليون نسمة.
ومن المتوقع أن تعلن محكمة الاستئناف في دكار النتائج الرسمية الكاملة يوم الجمعة المقبل.
من السجن إلى القصر الرئاسي
فاي ذو 44 عاما، خرج قبل عشرة أيام فقط من الموعد الانتخابي من السجن، حيث أمضى أحد عشر شهرا في الحبس كعقوبة بتهمهة إهانة مسؤول ونشر معلومات كاذبة.
وحقق فاي فوزا بيّنا على منافسه أمادو باه مرشح ائتلاف “بينو بوك ياكار”(متحدون من أجل الأمل) الحاكم في البلاد، الذي كان يرفع شعار “الاستمرارية” والتي لم تكن تعني بالنسبة لحوالي 60 في المائة يعيشون تحت خط الفقر سوى إدامة لأوضاعهم البائسة.
ويرى مراقبون أن من بين عوامل فوز فاي قيام الناخبين بمعاقبة الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال، بعد استخدامه للعنف بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد، في مواجهة المحتجين على تأجيل الانتخابات.
ولم يكن مرشح المعارضة فاي شخصية معروفة، لكن نشاطه السياسي والحقوقي واعتقاله، ثم حصوله على دعم زعيم المعارضة عثمان سونكو، غريم ماكي سال، ساهم في شهرته في وقت قياسي.
وتوخى فاي، الذي أمضى عقدين من عمره في العمل كمفتش في إدارة الضرائب، التركيز في حملته على فئات الشباب والفقراء، بدعوتهم للتغيير وإبعاد “الفاسدين” من الطبقة السياسية و”المحتكرين” من رجال المال والأعمال. وتصدرت قضايا محاربة الفساد وإعادة التفاوض على العقود التي أبرمتها الحكومة الحالية مع شركات الطاقة والتعدين وصيد الأسماك.
ويبدو أن هذا الخطاب حقق تجاوبا واسعا لدى الناخبين، رغم الاتهامات التي وُجهت له بنهج أسلوب شعبوي لكسب أصوات الناخبين.
وفي أول خطاب متلفز له إثر انتخابه تعهد فاي بنهج حكم رشيد وقال: “أنا ملتزم بالحكم بتواضع وشفافية وبمحاربة الفساد على المستويات كافة”.
وأثارت السنغال مرة أخرى إعجاب العالم، فرغم الاضطرابات السياسية والاحتجاجات العنيفة التي شهدتها البلاد في الأشهر الأخيرة من حكم الرئيس المنتهية ولايته ماكي سالي، والأزمة السياسية التي نتجت عن قراره بتأجيل الانتخابات، أظهر السنغاليون أنهم أوفياء لتقاليدهم التي دأبوا عليها منذ استقلال بلادهم عن فرنسا سنة 1960، عبر تمسكهم بالتغيير السلمي عبر صناديق الاقتراع، بخلاف معظم الدول الأخرى في المنطقة التي آلت فيها السلطة عبر انقلابات عسكرية أو تمرد مسلح. وشهد مراقبون أوروبيون وأفارقة على نزاهة العملية الانتخابية.
تقاليد التسامح والتعايش
منذ استقلال البلاد وقيام الجمهورية السنغالية على يد مؤسسها وزعيمها التاريخي وأديبها الفذّ ليبولد سنغور، حافظ هذا البلد الغرب أفريقي على تقاليده في تحقيق الانتقال السلمي للسلطة.
ففي بداية الثمانينات، عندما كانت الانقلابات العسكرية والرئاسة مدى الحياة عناوين للحكم في دول أفريقية وعربية، تنحى سنغور عن الرئاسة ليتفرغ للثقافة والإبداع، ومنح ديمقراطية بلاده فرصة انطلاقة جديدة عبر قاعدة التداول على السلطة التي لم يشذّ عنها السنغاليون لحد يومنا هذا.
كما اتسمت مراحل التطور الحاسمة في تاريخ البلد بسيادة قيم التسامح والتعايش المتجذرة في الثقافة السنغالية القائمة منذ عقود على زواج بين الثقافة الدينية الصوفية والعنصر الأفريقي الأصيل والذي ساهم سنغور في بلورته عبر رؤيته “لثقافة الزنوجة”.
إذ تمثل السنغال نموذجا متميزا في الاستقرار المجتمعي والأمني، في مرحلة صعبة تجتازها بلدان أفريقية مجاورة.
ففي الوقت الذي تشهد فيه منطقة الساحل والصحراء اضطرابات سياسية وانقلابات عسكرية وتفشي أنشطة الجماعات الجهادية مثل “بوكو حرام” و”القاعدة”، تقدم السنغال التي تضم أقلية مسيحية (5 في المائة) وعقائد أفريقية تقليدية (1 في المائة) إلى الأغلبية الساحقة المسلمة من سكانها (94 في المائة)، نموذجا في التعايش والثقافة الدينية المسالمة، معتمدة على تاريخها ونفوذ الزوايا الصوفية وخصوصا منها الطريقة التيجانية، التي يمتد نفوذها من المغرب إلى غرب أفريقيا.
ويكتسي دور الطرق الصوفية أهمية خاصة كمرجعية روحية ونفوذ اجتماعي للنخب السياسية وكبريات العائلات ذات النفوذ في الحياة السياسية بالبلاد. ويرى محللون أن الثقافة الصوفية تلعب دورا حاسما في تحصين المجتمع السنغالي من انتشار جماعات “الإسلام السياسي”.
تحديات اقتصادية وديموغرافية
تواجه السنغال كباقي الدول الأفريقية، تحديات اقتصادية واجتماعية وآثار التغير المناخي مضافا إليها تداعيات جائحة كورونا ثم حرب أوكرانيا. وهو ما سيشكل اختبارا صعبا للرئيس الجديد.
ورغم أن اقتصاد البلاد يسجل منذ سنوات عديدة نموا سنويا مستقرا ما بين 5 إلى 7 في المائة، ويرتفع منسوب التفاؤل في المستقبل بفضل اكتشافات الطاقة، وخصوصا الغاز. يرى خبراء بأن البلاد المثقلة بمشاكل البطالة وعدم إدماج الشباب، بحاجة إلى جهود كبيرة للنهوض بالاقتصاد والتجاوب مع ما تنتظره الفئات الشابة والفقراء الذين يشكلون ثلثي السكان.
ويعيش هؤلاء في مواجهة تضخم شديد وارتفاع مفرط لتكاليف المعيشة لدرجة أن أسعار الخضروات والمواد الغذائية تماثل الأسعار في أوروبا، رغم الفارق الكبير في متوسط الدخل بين المواطن السنغالي والمواطن الأوروبي.
ويشعر الناخبون الأصغر سنا على وجه الخصوص بخيبة أمل إزاء الرئيس المنتهية ولايته بعد أكثر من عقد من الحكم لأنهم يشعرون أنه لا يتم الاستماع إليهم وأن العديد منهم لا يستطيعون العثور على وظائف برواتب لائقة.
وفي حوار لإذاعة ألمانيا العامة (دويتشلاند فونك) رأت رئيسة مكتب مؤسسة كونراد أديناور في السنغال، كارولين هاوبتمان، أنه في السنوات الأخيرة تم اتخاذ الكثير من القرارات، دون استفادة الشباب وبأن التعليم شكل القضية الأكبر في الانتخابات الحالية. ومع ذلك، فإن الدولة مثقلة بالعدد الهائل من الشباب (62 في المائة تقل أعمارهم عن 25 عاما) والنقص الكبير في البنية التحتية.
وتحتاج السنغال إلى قوة عاملة مدربة تدريباً جيداً وطبقة متوسطة قوية إذا أرادت التحول إلى التصنيع. ووفقا لهاوبتمان، تتمتع البلاد بموارد طبيعية غنية، ويتعين حسن تدبير هذه الموارد الأولية في البلاد إذا أرادت الدولة أن تقدم للشباب آفاقا للمستقبل. وأوضحت أن “السنغال لم تبدأ حتى الآن بداية جيدة”
لكن البداية الجديدة المنتظرة مع الرئيس المنتخب، تواجهها تحديات جمة وخصوصا على صعيد العلاقات الخارجية. وكانت أولى الرسائل التي ضمنها في خطابه المتلفز سعيه لطمأنة شركاء بلاده “المحترمين” بأنّها ستظلّ “الحليف الآمن والموثوق به”.
وقال الرئيس المنتخب في ذلك الخطاب: “أودّ أن أقول للمجتمع الدولي ولشركائنا الثنائيين والمتعدّدي الأطراف إنّ السنغال ستحتفظ بمكانتها دائماً، وستظلّ البلد الصديق والحليف الآمن والموثوق به لأيّ شريك سينخرط معنا في تعاون شريف ومحترم ومثمر للطرفين”.
وبدورها رحبت العواصم الغربية بانتخاب الرئيس فاي وبالأجواء السلمية والنزاهة التي تمت فيها الانتخابات.
مقاومة النفوذ الفرنسي عبر صناديق الاقتراع
وصول باسيرو ديوماي فاي إلى قصر الرئاسة في داكار قد ينهي الارتباط الخاص القديم بين السنغال وفرنسا. فخلال حملته الانتخابية أعلن أنه يؤيد القطيعة مع السياسات السابقة، في إشارة لا تخطئها العين، لتغيير نمط العلاقة مع باريس.
وضمن برنامجه يتوخى مرشح المعارضة إعادة تنظيم صادرات المواد الخام، والتي استفادت منها الشركات الفرنسية على امتداد العقود الماضية. كما أعلنت حملته أيضًا الانسحاب من العملة المشتركة لغرب أفريقيا، الفرنك الغرب أفريقي (CFA).
وإذا أقدم على هذه الخطوة فستكون ضربة أخرى للنفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، ويوقف إنتاج الفرنك الغرب أفريقي في باريس ثم ينهي ارتباطه باليورو. ويُنظر إلى عملة مجموعة غرب أفريقيا على أنها من بقايا الحقبة الاستعمارية، حتى لو لم يعد اختصار “CFA” يرمز إلى “المستعمرات الفرنسية في أفريقيا” بقدر ما يعني “التعاون المالي”.
ويرى مراقبون أن الانقلابات الأخيرة في غينيا وبوركينا فاسو ومالي والنيجر والغابون، هي موجة انقلابات ناشئة عن مشاعر قوية مناهضة لفرنسا يمكن رصدها أيضا على المستوى الشعبي في أوساط مواطني تلك الدول.
ولا يستبعد الكاتب الصحفي الألماني، باول مونتسينغر، مراسل صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” من الرأس الأخضر، في مقال له بعدد الصحيفة الصادر في ميونيخ يوم 25 مارس/ آذار 2024، بأن تصبح السنغال في عهد الرئيس الجديد الدولة التالية التي تنأى عن باريس. “إلا أن النفور في هذه الحالة لن يكون نتيجة لاستيلاء الجيش على السلطة، بل نتيجة لانتخابات ديمقراطية”.
وبدوره كان ديوماي قد قال مؤخراً لصحيفة لوموند الفرنسية إن العلاقة مع فرنسا لا ينبغي أن تستمر في كونها علاقة استعمار جديد “تجعلنا معتمدين عليها”.
وإذا تحقق ذلك فسيكون فاي قد قاد السنغاليين لتقديم درس آخر لجيرانهم الأفارقة، مفاده أن التغيير يمكن أن يأتي من أصوات الشعب عبر صناديق الاقتراع، بدل ركوب الدبابات للاستيلاء على السلطة إعتمادا على دعم خارجي للتخلص من نفوذ خارجي آخر.
ما مصير الشراكة مع أوروبا؟
بيد أن زعزعة النفوذ الفرنسي في السنغال، قد لا يعني بالضرورة نهاية له ولا للنفوذ الأوروبي، لاعتبارين مهمين بنظر عدد من المراقبين
أولهما، أن انتخابات 24 مارس/ آذار، ترسخ مرة أخرى صورة السنغال كملاذ للديمقراطية والاستقرار في غرب أفريقيا، في مرحلة تهيمن فيها موجة الانقلابات العسكرية. ومن خلال تمسكها بالوسائل الديمقراطية في تغيير حكامها وسياساتها، تواصل السنغال ارتباطها بنفس القيم الإنسانية والديمقراطية المشتركة مع الديمقراطيات الأوروبية والغربية.
ويتمثل العنصر الثاني، الذي يرجح استمرارية الشراكة السنغالية مع أوروبا، في أن استقرار البلد وتمسكه بالوسائل السلمية والديمقراطية، يمنحه مكانة ومصداقية في إدارة علاقاته مستقبلا مع شركائه الدوليين بمن فيهم أوروبا، التي تبدو في حاجة ماسة لتقوية شراكتها مع السنغال كجسر وثيق للتعاون مع دول منطقة الساحل والصحراء المضطربة.
وحتى وإن اكتست الشراكة ملامح جديدة نابعة من نظرة الرئيس الجديد والنخب الشابة التي تدعمه، فإن ذلك لن يتسبب بالضرورة في قطيعة مع أوروبا. لأن أوروبا بدورها تحتاج إلى تغيير في نهجها التقليدي وطريقة تعاملها مع شركائها الأفارقة، كما قال المستشار الألماني أولاف شولتس، خلال زيارته إلى السنغالفي مايو/ أيار 2023. إذ اعتبر إبانها في حوار مع DW أنه “يجب على جميع البلدان التي لديها ماض استعماري أن تكون صادقة للغاية وتعترف بأن عليها مسؤولية لبناء علاقات أفضل مع المستعمرات السابقة، على سبيل المثال في أفريقيا”.
وأضاف شولتس: “وجهة نظري هي أن العالم سيشهد وجود الكثير من البلدان المؤثرة للغاية في العقود المقبلة، ولن يقتصر الأمر فقط على روسيا والصين والولايات المتحدة وأوروبا مثلا”. وأشار في هذا السياق إلى السنغال، متوقعا أن يكون لها تأثير في النظام العالمي، وذلك على غرار دول أخرى مثل إندونيسيا والهند وجنوب أفريقيا والأرجنتين والبرازيل.
وتزداد مكانة السنغال في استراتيجية ألمانيا، التي باتت القارة الأفريقية في صلبها، فقد افتتح معهد غوته الثقافي الألماني في العام الماضي فرعا جديدا له هناك، وتشهد المبادلات التجارية والتعاون في ميادين الصحة والطاقة والصناعة والتكنولوجيا بين ألمانيا والسنغال تطورا حثيثا. وفي الوقت الذي تضيق فيه دائرة الاعتماد على الغاز الروسي، تجد ألمانيا في السنغال شريكا أفريقيا واعدا في ميادين الطاقات المتجددة والغاز.
بيد أن الشراكة الأوروبية السنغالية ستكون أمام اختبار صعب، ليس فقط بسبب تغيير نهج القيادة السنغالية، بل أيضا بسبب شراسة المنافسة على النفوذ في السنغال والدول المجاورة مع قوى أخرى مثل الصين وروسيا وتركيا.
ورغم النفوذ التقليدي لمستعمرها الفرنسي السابق، فقد نجحت دولة السنغال في إقامة علاقات متعددة الشركاء: أوروبية وأمريكية وصينية وروسية وتركية. وتزداد أهميتها الاستراتيجية بحكم موقعها المطل على المحيط الأطلسي واعتبارها حلقة وصل أساسية بين غرب ووسط أفريقيا وشمالها وخصوصا مع حليفها التقليدي: المغرب.
كما استطاعت السنغال ودون موارد طبيعية أو طاقة ضخمة، كتلك التي تتوفر عليها مثلا نيجيريا، أن تكون دولة محورية في الاتحاد الأفريقي وفي المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إكواس)، وتلعب أدوارا متقدمة في السلم بالقارة السمراء.
وقد أعلن فاي في أول خطاب له بعد انتخابه، أنّه يعتزم العمل من أجل إحداث تغييرات داخل الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا.