محصول الأرز الوطني : الصعود ثم الإنهيار / يحـيـى بن بـيـبه
يعلم الراسخون في القطاع الزراعي أن كاتب هذا المقال كان أكثر نقابيي القطاع حدة ، وجرأة في نقد سياسات وزارة الزراعة ، أيام تولي السيد ابراهيم بن امبارك بن المختار مقاليد إدارتها.
وكان الوزير نفسه يعتبره “عدوه الوحيد في القطاع” ، كما أبلغ عددا من أقاربه .
وقد قاد هذا الكاتب حملتين شرستين ضد مواقف الوزارة ، أولاهما حول حل للمديونية الزراعية اعتبرناه محابيا لكبار رجال الأعمال ، وانتهت تلك الحملة سنة 2010 بكتابة رسالة إلى رئيس الجمهورية ، طولها أكثر من كيلومتر ، كان يراد لها أن تدخل موسوعة كينس للأرقام القياسية . وقد كتبت على أكثر من ثلاثين (بيصه) من (شكت 42) ، واستمرت كتابتها أكثر من شهرين ، وهي ما تزال محفوظة لدى الرابطة إلى الآن .
وقد انتهت هذه الرسالة بتدخل مباشر من رئيس الجمهورية ، الذي أمر بتبني الحل الذي كانت الرابطة تناضل من أجله .
أما الحملة الثانية ، فقد كانت في صيف عام 2012 ، وكان سببها تأخر الدولة في استيراد الأسمدة ، مما دفع الرابطة إلى رفع دعوى أمام محكمة ولاية اترارزه، مطالبة وزارة الزراعة بأن تدفع للمزارعين بضعة عشر مليار أوقية ، تعويضا عن الخسائر الناتجة عن تأخر الأسمدة وقد قبلت المحكمة الدعوى، وبدأت التحقيق فيها .
كما لجأت الرابطة إلى البرلمان ، الذي استجوب الوزير في جلسة عاصفة ، حيث أخرجه الغضب عن طوره لينتقد ، أمام البرلمان ، وعلى أمواج التلفزيون ، ما وصفه باعتماد البرلمان ، في معلوماته على ما أسماه “مزارعا فاشلا” ، يقصد رئيس الرابطة .
ومرة أخرى تدخل الرئيس ليأمر باستيراد أكثر من 20.000 طن من الأسمدة.
والآن ، وبعد مضي أكثر من سنتين على مغادرة الوزير لمنصبه في وزارة الزراعة ، وبعد الانقطاع التام لصلتنا به منذ ذلك التاريخ ، نشعر أن من واجبنا أمام الرأي العام الوطني ، أن نطلعه ، للتاريخ ، دون أي عقد على النجاحات الكبيرة التي حققها هذا الرجل في هذا القطاع الإنتاجي الاستراتيجي ، وهي النجاحات التي لم نتناولها قط في وسائل الإعلام ، لأننا نرى أن مهمة النقابي هي تسليط الضوء على مكامن الخلل في السياسات الحكومية المتبعة ، ليتم تداركها ، لا أن ينافس “كتائب المداحين” في التقرب إلى المسؤولين ، وهي رؤية كانت المسؤولة عن التوتر المستمر في علاقاتنا بهذا الوزير .
عندما تسلم السيد ابراهيم ولد مبارك وزارة الزراعة ، لم تكن المساحة المزروعة سنويا من الأرز تتجاوز في أحسن الحالات 20.000 هكتار إلا قليلا . ولم يصل الإنتاج المحلي من الأرز الخام إلى عتبة ال 100.000 طن حتى في أفضل السنوات الزراعية .
ففي السنة الزراعية 2009 – 2010 التي تولى فيها ابن امبارك مسؤولية القطاع، كانت مساحة الأرز المزروعة في الخرفية لا تتجاوز 14647 هكتارا، والصيفية 3229 هكتارا، وهي المساحة التي ظلت تتزايد بشكل سريع موسما تلو الآخر حتى وصلت، في آخر موسم زراعي أداره الرجل (2014 – 2015) إلى نحو 57.000 هكتار ، بلغ إنتاجها نحو 293.000 طن من الأرز الخام ، قيمتها أكثر من 30.000.000.000 أوقية .
ولم يعد الإنتاج السنوي الموريتاني من الأرز الخام يصل، في ظل الحكومة الحالية، إلي نصف هذا الرقم الذي وصل اليه في تلك السنة الزراعية. هذا في حين وضعت السنغال بعيد وصول ماكي صل إلي الرئاسة خطة مستعجلة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأرز خلال العام الحالي 2017، وذلك بإنتاج 1.600.000 طن من الأرز الخام.
أما مالي فقد تزايد إنتاجها بشكل مضطرد حتي وصل الي أكثر من 2.500.000 طن من الأرز الخام.
وإذا كان الإنتاج المحلي من الأرز لم يغط في العام الزراعي 2008 – 2009 إلا نحو 35% من الاحتياجات الوطنية ، فإنه ظل يرتفع في عهد هذا الوزير حتى وصل سنة 2014 إلى 86% من الاحتياجات الوطنية ، حسب الأرقام الرسمية .
ولم يكن ارتفاع المحصول الوطني في عهد ابراهيم ناتجا عن زيادة المساحة الزراعية فقط ، وإنما كان كذلك ناتجا عن تطور كبير في المردودية ، التي ارتفعت من 3,99 طنا للهكتار في السنة الزراعية 2009 – 2010 التي تسلم فيها ابراهيم الوزارة إلى 5,17 طنا للهكتار في السنة الزراعية 2014 – 2015 التي كانت آخر سنة أدار فيها القطاع .
وقد كان ارتفاع المردودية في نظرنا ، ناتجا عن عدة عوامل ، منها الدعم الحكومي لسعر الأسمدة الذي وصل في عهده إلى 60% من سعر هذه الأسمدة ، مما شجع المزارع على إضافة الكميات الموصى بها فنيا، وكذلك زيادة استخدام المزارعين للأسمدة الفوسفورية .
ودعم 60% الذي أشرنا إليه آنفا ، إنما كان بالنسبة للخصوصيين ، أما التعاونيات القروية فكانت تصرف لها الأسمدة كلها مجانا . (الآن خفض الدعم إلى 60% للتعاونيات القروية و 40% للخصوصيين) .
ويشكل ارتفاع نسبة الحملة الصيفية ، داخل المساحة السنوية المزروعة ، عاملا آخر ساهم في رفع المردودية ، ذلك أن المردودية في هذه الحملة تكون عادة مرتفعة ، نتيجة طول فترة الإضاءة الشمسية (طول النهار) خلال الفترات الحساسة للإضاءة من نمو نبات الأرز (من الأسابيع الأربعة قبل التزهير حتى النضج حسب الأبحاث الجامعية).
ويعتبر تحويل الحملة الصيفية من حملة شبه مهجورة ، لا تكاد مساحتها تصل إلى 3.000 هكتار ، إلى حملة عادية ، تكاد تنافس الخرفية من حيث الانتاج والمساحة ، يعتبر ذلك التحول أحد إنجازات وزارة الزراعة في عهد ابراهيم. وقد أصبح هذا التحول عادة مستمرة إلى الآن .
ولا تقتصر مظاهر نجاح الإجراءات المتخذة في هذه الفترة على زيادة المساحة الزراعية ، وارتفاع المحصول والمردودية ، وإنما تجسدت كذلك في الإقبال الكبير على القطاع من خارج الطبقة الزراعية التقليدية ، الشيء الذي يعكسه التغير في أسعار الأراضي الزراعية ، وإيجاراتها .
فالهكتار الذي كان متوسط سعره سنة 2009 لا يتجاوز نحو 170.000 أوقية ، ومتوسط إيجاره في الحملة 10.000 أوقية ، وصل ثمنه سنة 2015 إلى نحو 600.000 أوقية ، وإيجاره في الحملة إلى 30.000 أوقية .
ولكن سؤالا وجيها غدا يفرض نفسه : كيف استطاع هذا الوزير تحقيق هذه النتائج في فترة قصيرة ، لا تتجاوز نحو خمس سنوات ؟
كان قطاع زراعة الأرز ، ولا يزال ، يعاني من عدد كبير من المشاكل التي تعيق تطوره ، لكن نقابيي القطاع اتفقوا ، في بداية عهد ابراهيم بن امبارك ، على أربع مشكلات كبرى ، وصفوها في رسالة وجهوها إلى رئيس الجمهورية ب”المهلكات الكبرى” . وتلك المشكلات الكبرى هي : 1 – انحسار المياه عن المحاور المائية (فروع النهر) 2 – النقص الحاد في آليات الحصاد 3 – الطيور الآكلة للحبوب 4- التسويق .
وطريقة التصدي لهذه “المهلكات الكبرى” هي التي مثلت بوابة النجاح بالنسبة لهذا الوزير .
فلم تكن الوزارة قبل فترة هذا الرجل تلتفت إلى المحاور المائية إلا بعد سنوات ، عندما تنفجر المشكلة ، وتؤدي إلى جفاف عدد من المزارع ، لكن ابراهيم وضع برنامجا سنويا ثابتا لتنظيف هذه المحاور ، ترصد له ميزانية سنوية ، وهو ما أدى إلى حل هذه المشكلة بطريقة جذرية ودائمة . ولا تزال هذه السنة متبعة بعده إلى اليوم ، برغم محاولة وزارة المالية هذا العام ، إلغاء العملية وتوجيه مبلغها إلى وجهة أخرى ، وهي المحاولة التي أحبطت في الأخير بصعوبة بالغة .
أما الحاصدات فقد عمل الوزير ، بقدرته العالية على الإقناع ، على حمل حكومته على استيراد العشرات منها خلال فترة عمله في الوزارة ، وهو ما خفف من حدة المشكلة بشكل كبير ، وسمح بزيادة مضطردة في الرقعة الزراعية .
وفي مجال مكافحة الطيور ، أدى الاستخدام المكثف للمكافحة عن طريق الطائرة في بعض الحملات ، بالإضافة إلى أسطول سيارات المكافحة الأرضية ، إلى تحييد هذه الآفة في أغلب مناطق شمامه بشكل جزئي على الأقل . ولم تكن أية آفة أو مشكلة تسبب من الخسائر ، والانهيار النفسي للمزارعين ما تسببه الطيور .
أما في مجال التسويق ، فقد انتظم في عهد ولد امبارك شراء الدولة لكامل المحصول الوطني من الأرز ، وبسعر مشجع . كما بدأ في عهده توزيع الأسمدة مجانا على التعاونيات الزراعية القروية ، ودعمها بنسبة 60% للخصوصيين .
وقد شجع النجاح في التصدي لهذه المشكلات الكبرى ، وخاصة الطيور ، على تحقيق قفزة كبيرة في المساحة التي تزرع صيفا ، حيث قفزت تلك المساحة من 3229 هكتارا في صيف 2010 إلى 16182 هكتارا في صيف 2015.
وفي مجال الاستصلاح ، لم تنتظم سياسة استصلاح الدولة للأراضي ، وتوزيعها على حملة الشهادات والفئات الهشة اقتصاديا ، إلا في فترة عهد ابراهيم بن امبارك ، وهي السياسات التي أصبحت الآن راسخة ، وإن تباطأت ، نتيجة التغير في أولويات الحكومة .
كما تم في عهد هذا الرجل حل مشكلة المديونية الزراعية المستعصية .
والأهم من هذا أن الرجل وضع استراتيجية للقطاع ، جند لإعدادها عددا من الخبراء ، وحظيت بمناقشات جدية على مستوى القاعدة النقابية والزراعية بصورة عامة .
وبعد إعداد الإستراتيجية ، شرعت الوزارة ، بمساعدة خبيرة دولية ، في إعداد خطة عشرية لوضع أهداف الإستراتيجية موضع التنفيذ . وهي الأهداف التي كانت ترمي إلى تحقيق زيادة مضطردة في الإنتاج الزراعي الوطني لتحقيق الاكتفاء الذاتي بنسبة 120% من الأرز و 80% من السكر و 70% من القمح و 60% من الخضراوات ، وذلك على مدى عشر سنوات .
وعندما غادر ابراهيم الوزارة ، كانت الخطة العشرية في مرحلة اللمسات الأخيرة، قبل أن تقدم إلى مجلس الوزراء لاعتمادها . وقد اعتمدت فعلا ، من الناحية الشكلية ، صونا لماء وجه الحكومة الجديدة ، لكنها بقيت حبرا على ورق ، لأن انقلابا جذريا حدث في السياسات الحكومية ، ونظرتها إلى القطاع .
وبهذه المنهجية في تناول مشكلات الزراعة ، استطاع ابراهيم بن امبارك أن يحقق لموريتانيا قفزة واضحة في إنتاجها من الأرز ، مستغلا قدراته الكبيرة في مجال الإقناع ، والدفاع عن ملفاته أمام الحكومة ، وهي القدرات التي كانت تعززها مثابرة قوية ، حيث كان الرجل جوادا بوقته ، وجهده البدني لحل مشاكل القطاع الزراعي . فهو يعمل من الصباح الباكر ، إلى ما بعد السادسة مساء . وفي بعض الحالات ، كنا نجتمع به في مكتبه أيام الأعياد الرسمية.
ونحن مقتنعون بأنه لو حظي ابراهيم بن امبارك بطاقم فني ، يتناسب مع طموحاته وقدراته ، ولو كان هو نفسه أقل ضيقا بالنقد وأهله ، لكان لله في هذا القطاع الزراعي شأن غير الذي رأيناه . فقد كانت قدرات الرجل وجهوده الكبيرة تجد بيئة حكومية ملائمة ، تمنح الأولوية المطلقة لهذا القطاع الإنتاجي الاستراتيجي ، خلافا لوضع وزيرة الزراعة الحالية ، التي تعمل في بيئة حكومية معادية ، تدير ظهرها للقطاع ، وتتنكر لمسؤوليتها اتجاه المحصول الوطني . وهذا ما أجهض جانبا كبيرا من جهود هذه الوزيرة المخلصة والمثابرة في عملها ، فتراجع الإنتاج المحلي ، حتى باعتراف الأرقام الحكومية ذاتها ، التي تؤمن ببعض التراجع وتكفر ببعض . وما تكفر به حكومتنا أكبر مما تؤمن به .. !
فهل من منقذ من هذه السياسة الحكومية الخرقاء ؟ !
يحـيـى بن بـيـبه
رئيس رابطة التطوير والتنويع الزراعي
البريد الإلكتروني: [email protected]