تقارير ودراساتمقالات و تحليلات

احتفال واختلاف / الشيخ ولد محمد ولد صَنْبَه

الشيخ ولد محمد ولد صَنْبَه / باحث في مجال الدراسات الإسلامية

أحاول هنا وفي عجالة، أن أكون موضوعيا في الطرح، ومتوازنا في الرأي، حتى لا أقول حياديا في هذه المسألة!.. الاختلاف في الاحتفال بالمولد النبوي.. لأن الحياد في أمر كهذا ربما يكون مستحيلا على كثير منّا، لكن الموضوعية ممكنة بل ومطلوبة، والتوازن لا غنى عنه بل لازم للجميع، فهما مسلك الحوار والتواصل، وسبيل التكامل والتفاعل، بين الطرف والطرف الآخر، وهي أمور لا خير ولا نفع إلا بواسطتها أو ما يؤدي إليها.. فبالبصيرة والصبر نحل الإشكال في هذه المسألة، ونتجاوز العقبة في هذا الخلاف إن شاء الله تعالى!

بادئ ذي بدء، لا بد من الاعتراف بأن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ما زال يبرز إشكالية فقهية كبيرة، يقف كثير من الناس متحيرا في التعامل معها:

فهو من جهة، يشكل لدى البعض منّا، ممن يجتهدون في التمسك التام بعمل السلف الصالح، زيادة في الدين الحنيف، وحدثا فيه ليس منه، وعليه يجب سدّ الأبواب في وجهه والمنافذ إليه؛

ومن جهة أخرى، يتشبث به بعضنا الآخر، من محبين ومعظمين للرسول (ص)، ويجدون فيه ضالتهم، ومن ثم ليس من الأدب التعرض لما فيه تعظيم له (ص)، ما لم ينل من جوهرية الدين وثوابته!..

فأين القول الفصل والحق المبين هنا؟

 

فلنسلم، أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف:

 

أمر مرفوض من ناحية الشرع، حين يتعلق الأمر بالإحداث في الدين، ومن يرون مبدأ “أحادية البدعة” أو وحدتها وعدم التفصيل في مناحيها، وما تشير إليه في هذه الحالة من الحذر من الشر والنفور من الضلالة، والعياذ بالله. فهو محدث ولم يكن على عهد الرسول (ص) ولا الصحابة الكرام ولا التابعين ولا أتباعهم (ر)!..

وأمر مرغوب من ناحية الشرع، حين يتعلق الأمر بمحبته (ص)، وتعظيمه ونصرته وتوقيره وتعزيره.. وكل ما من شأنه كمال الأدب معه (ص)، باتخاذه إماماً وقدوة وأسوة حسنة في كل حين، فهذه الأمور كلها واجبات شرعية لا خلاف فيها من أي وجه:

بل إن منها ما لا يصح إيمان المرء بالله تعالى إلا به، كتعظيمه (ص) ونصرته وتعزيره وتوقيره… إلخ،

ومنها ما لا يتم إيمان المرء بالله تعالى إلا بدرجة قصوى منه، كمحبته (ص) والصدق والإخلاص فيها.

من هذا المنطلق المعتدل والطرح الوسطي، يمكن أن ننظر ونقيس ونتأمل هنا، في هذه الإسقاطات المتباينة، حتى لا نغمط ناحية من نواحي الشرع حقها، الذي يكفله لها الدين الحنيف بمبادئه الشمولية المعروفة فيه، بالجمع الفريد بين الصرامة في محلها والمرونة في حينها، وإلا عطلنا الشرع المحمدي في خصوصيته الذاتية، في استيعاب الأمور كلها، من مستجدات الفكر ونوازل الحياة وتقلبات الزمن، وغيرها من المتغيرات الوجودية. ولا يشفع لنا كوننا تشبثنا بالصورة الأقرب للحق في ظاهر الأمر لدينا، في الاستناد المباشر للحيثيات، فيما هو قائم لدينا أو كان قبلنا، في أمور الدين والحياة والفكر، فالصورة قد تشير إلى الحقيقة المنشودة لكنها لا ترتبط بها مطلقا، بل إن الحقيقة قد تكون فيما وراء الصورة نفسها، وتكون الصورة حينئذ رغم جاذبيتها خادعة، أو هي غشاوة على ناظر غير البصير الباحث عن الحقيقة في الأفق، وهي بين يديه أو في نفسه التي بين جنبيه.

 

نحن نعرف اليوم، أنه لا يمكن لأحد أن يفهم شيئا في الكون كله فهما موضوعيا، سواء كان ذلك حقيقة أو تصورا، إلا وفق حصيلته المعرفية الخاصة به، وهذه تتغير كليا في اتجاهين: اتجاه كمي وآخر كيفي، بالنظر إلى درجة الفكر وسرعة الاستحضار لدى أحدنا من جهة، وقوة الذاكرة ومرونة الاستيعاب عنده من جهة أخرى.

 

فأما الاتجاه الأول، فيشير إلى كمية المعلومات التي اطلعت عليها في تحصيلك العلمي، طيلة تعلمك وما بعد تعلمك، إذ أن رؤيتك تتسع كلما اتسعت معارفك واطلاعاتك، في شتى المجالات والعلوم المدروسة في كل زمن؛

وأما الثاني، فيشير إلى درجة الفكر والمعرفة ومستوى التبصر والبصيرة، من خلال نضج الأفكار وتماسك الرؤى، وبعد النظر وسداد الرأي لديك، ولا يكون إلا بالمقارنة التامة والتفكير الدائم مع مرور الوقت.

فكيف ومتى يمكن لأحدنا الوثوق الكامل والجزم التام، بأن ما يراه هو نفسه، أو يرويه عن شيخه في مسألة خلافية معينة، هو الصواب بعينه وهو الحق نفسه، وأن ما سواه باطل محض وضلال مبين، دون التعامل مع ما استنتجه الفكر في انسيابه واستنارته، وما أستظهره العلم في تقدمه وازدهاره، وما وصلت إليه الحياة في رقيها ومدنيتها؟

 

لا يستطيع أحد أن ينكر أن مفهوم العيد عند الناس، قد تغير في هذا العصر الذي نعيش فيه، عما كان عليه في السابق، ففيما مضى لم تكن النظرة إلى الأعياد عند العامة، منفصلة تماما في أذهان الناس عن معتقداتهم ولا عن مناسكهم فضلا عن موروثهم الاجتماعي.. أما الآن فعلى العكس تماما، فرمزية العيد عموما لم تعد مرتبطة في كل حين، بنوع المعتقد ولا بصفة المنسك ولا بأي توجه في الدين، إلا إن كان يرمز لشعيرة دينية في الإسلام أو في غيره، كانتهاء الصوم في شهر رمضان لدينا، أو التحلل من الإحرام في موسم الحج عندنا، وإلا فلا!.. من هنا، كثرت الأعياد والأيام والمواسم، وتعدد المفهوم فيها في كل اتجاه، ولم يعد لها ما كان من الرمزية المقيدة سابقا، ولم يعد هناك جانبا من الحياة بمنأى عن هذا التحرر في المفهوم، الذي تجاوزت خصوصيته هذا اليوم أو ذاك بما يرمز له عند هذا الشخص أو ذاك.. فمثلا لا حصرا هناك:

 

مفهوم سياسي، وما يرمز له من حرية وهوية (عيد الوطن، عيد الأمة)؛

مفهوم حقوقي، وما يرمز له من إنسانية وضمير (يوم الطفل، يوم المرأة)؛

مفهوم بيئي، وما يرمز له من الاعتناء بالبيئة والطبيعة (عيد الشجرة، يوم المناخ)؛

مفهوم تربوي، ورمزيته في محاربة الجهل والأمية (يوم الأمية، يوم لغة الضاد)،

مفهوم شخصي، وما يرمز له من خصوصية الفرد والأسرة (أعياد ميلاد الأفراد).

وغير ذلك كثير وكثير… ولعل ذلك يرجع إلى أسباب عديدة، منها انتشار الوعي، وتعدد الثقافة، وعولمة الفكر، وانحسار كثير من الأفكار والآراء العامة التي كانت ترتبط بشكل أو بآخر بحياة معظم الناس في العالم.

 

فهؤلاء العلماء الكبار، الذين أفتوا قديما ببدعة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، لا عليهم مما نحن فيه من مخرجات الحاضر، وما يمليه الواقع الماثل لدينا، فقد قاموا بدورهم على أكمل وجه، بما يمليه عليهم حاضرهم ودرجة الفكر في زمانهم، بوقوف بعضهم في وجه ما قد يشوش على الدين أو يشتبه به آنذاك في رأيهم. أما الآن وقد زالت الخشية من ذلك، وتحرر مفهوم الأعياد من الارتباط بالمعتقد والمنسك وما شاكلهما، فلا حاجة لنا بتعريض هؤلاء الأئمة الأجلاء، وإقحامهم فيما تجددت النظرة إليه من الواقع المتغير في كل حين.. فلو كان بعضهم أحياء ربما ما وسعه الوقوف في موقف وقفه قبل قرون.. ومما يشير إلى ذلك أن هناك من كان أفتى بمنع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في أيامنا هذه، ثم رجع عن ذلك وأجازه، وهناك من أبدى ليونة بعد تشدد في منعه، وهناك من وقف محايدا.

 

يقول قائل هنا، يوجد حاليا من يقف موقفا متشددا مثل هؤلاء المتقدمين المذكورين هنا!..

 

هذا صحيح!.. لكن يرد عليه، أن المأخذ في ذلك لا في مواقفهم هم بل في موقفه هو!.. فالزمن زمنه لا زمنهم.. ورغم ذلك لا بد أن نعذرهم في ذلك الموقف!.. ولن نضع الملامة هنا، إلا على اعتماد الثقافة الأحادية، والركون إلى جانب من التعليم دون غيره، والجمود على فهم في الدين لا تجديد فيه، فكل ذلك هو المسؤول عما نرى اليوم من تقوقع على النفس، وعدم تقبل الرأي الآخر، وغياب النقد ومصارحة الذات، والاكتفاء بدرجة متجاوزة من الفكر، والوقوف في وجه مساعي الانفتاح، دون الاطلاع على مجريات الأمور في الوقت الراهن.. أحرى مواكبتها، والسير مع ركبها الحضاري فكرا وعلما ومدنية.. رغم أن هذا كله بحجة التمسك بالدين الحنيف، والوقوف عند أمر الله ونهيه.. وهي خصلة ما فوقها شيء في السمو والرفعة، لكن الدين الحنيف الذي لا نشك بحال أن هؤلاء العلماء الأجلاء إنما يسعون هنا للتمسك به، هو دين شمولية في الفكر والحياة، دين مرونة في الأحكام والتكاليف، دين خاتمية للرسالات والنبوات، فالمحدودية في سعة الفكر، والتوجس من موج الانفتاح، من رواسب التدين اليوم، لا من أسس ومبادئ الدين الحنيف!..

 

وما أدراك ما رواسب التدين؟.. إنها أحادية الثقافة، والتعليم المحصور في جهة معينة،  والخوف من كل جديد، والخشية من تقدم العلم، والنفور من رقي الفكر، وعدم الإطلاع على الأحداث الكونية الجارية، مما يؤدي لمحدودية فهم الواقع، والبعد عن سياق المعرفة ونسق العقل، والنأي عن حركية الزمن ومسار التاريخ… إلى غيره مما يطول أمامنا، حتى نخرج عن موضوع النقاش والردود التي نحن بصددها!..     

 

على كل حال، المولد النبوي الشريف، لم تحرمه أية كريمة ولا أحلته أخرى وكذلك الحديث النبوي، فما هناك أمر ولا نهي يخصه، حتى يستحق كل هذا الإنكار الشديد والوعيد البعيد، واستحضار الآيات الواردة في كفر من كفر وضلال من ضل. بل لا يتأتى مرور يوم المولد النبوي الشريف في العصر الحالي، برتابة كما تمر بقية الأيام، دون إعطائه ما يستحق من إشادة وتنويه به (ص)، لخصوصية هذا العصر الذي نعيش فيه، من وجهتين:

 

وجهة أولى: وتشير إلى أنه ما من أحد في عالمنا اليوم، له شيء يعظمه، أو مبدأ يدعو له، أو فكر يتبناه، إلا ويستعين برمزية الوقت ودورية الزمن، في دعوة الآخرين إليه وتعريفهم به وإقناعهم بتبنيه؛ سواء كان ذلك استنتاجات فكرية أو حقائق علمية أو تعاليم دينية. ولسنا نحن في الإسلام، بدعا من الناس اليوم، بل إن مهمة الدعوة إلى الله تعالى، هي الأساس في ديننا الحنيف، ثم إن التعريف برسول الله (ص) وبشمائله وسيرته وخلقه العظيم وفضل الله عليه… هو لب الدعوة ومنطلقها في ترسيخ توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة والتعظيم.. فما الذي يمنع في أن يكون مولده النبوي الشريف، مؤتمرا عاما عالميا للدعوة إلى الله تعالى؟

وجهة ثانية: وتشير إلى ما وجد في عصرنا اليوم من الإثم الأثيم والخبث الخبيث، المتمثل في التطاول على جنابه الشريف الطاهر (ص)، من رسوم مسيئة إلى مقالات مستهزئة، إلى غير ذلك مما لا يليق بمقامه الكريم الرفيع، ولا يسع من يحب الله ورسوله (ص)، السكوت عليه بحال، والخنوع في وجهه مطلقا، مهما تذرع البعض بحرية التعبير والرأي، وهيمنة الكلمة والمعلومة.. فالإساءة والاستهزاء والسخرية، خروج تام من حدود كافة الحريات الإنسانية، وتعد سافر على حريات الآخرين، ومقدساتهم ومعنوياتهم وهوياتهم، فمفهوم الحرية مشمول باحترام الطرف الآخر، وتقبله كما هو في فكره وحياته وخصوصياته… فأين نحن من سانحة مولده النبوي الشريف في الرد على هذه المنكرات الشرعية البعيدة، بلغة أهل اليوم التي هي أنجع وسيلة في الخطاب معهم، وصد بعضهم عن غيه، وتصحيح الفهم لدى البعض الآخر؟

فيا أيها السادة الكرام، ودعاة الله تعالى، ويا شباب أمة الإسلام!..

 

اتركوا أمور الدين تسير بسلام، وأحوال الناس تسير في ما لا حرج فيه، ودعوا الناس من التخليط، والعامة من التشويش.. واهتموا بالأهم، فهناك طرق للدعوة إلى الإسلام لا حصر لها اليوم.. وهي بحاجة إلى الجميع سلفيين، وصوفيين، وأشاعرة، وماتريدية، وتبليغيين، وإخوان، وغيرهم، فكلهم من أهل القبلة المرضية والصلاة المكتوبة، وممن يرفع شعار الإسلام الصحيح المعتدل الذي لا تطرف فيه ولا تشدد ولا إرهاب…  

 

يقول الإمام مالك ابن انس رحمه الله تعالى: [الاعتكاف تركه الناس لشدّته]. ويفهم من كلامه اللبيب اللطيف، أنه عزى ترك الاعتكاف إلى شدّة الاعتكاف على من هم في زمنه، لا إلى عدم تمسكهم بالسنة الثابتة عن نبيهم (ص). وهو قول يشير إلى فهم في الدين، في غاية الدلالة على يسر الدين ومرونته، فيما لا علاقة له بجوهرية الإسلام، كالشعائر والثوابت التي جاء النبي (ص) لإرسائها في عقول الناس وحياتهم العامة.. ولا مرونة في وجه من تهاون في شيء من متعلقاتها.   

 

إن المحاولات المستميتة في مجانبة الأفكار الإيجابية، التي تطرح نفسها اليوم، يبدو أنها كلفت أتباع هذا الدين السمح الكثير والكثير، حيث لم يعد أحدا بقادر على إخفاء الامتعاض من الوضع القائم، دون أن يبذل هذا الطرف أو ذاك أبسط مجهود للنهوض من جديد، بعد الإقرار بضرورة تحيين الخطط، وترتيب الأولويات، وتقويم الطرح، الذي كان قائما، والعجز البين عن ممارسة النقد الذاتي، والعبور إلى مرحلة جديدة، تسمح بالمواكبة على صعيد الانسياب في الحياة والتدرج في الفكر، وتسمح بالتعاطي مع الرؤى، وتحليل المعطيات، ومعاينة الواقع الماثل، واعتماد الرؤية المتوازنة في المشهدين الداخلي والخارجي.

 

فما أحوجنا اليوم إلى التصالح مع الذات، والإقرار بأن كثيرا منّا لم يفهم بعد بما فيه الكفاية، تعاليم الإسلام النيرة وإرشاداته الشمولية، من حيث الإسقاط الصحيح والتوازن المطلوب:

 

فيما للزمان الدائر اليوم، من انسيابية تهيمن على الواقع والحياة!..

وما للمكان الماثل اليوم، من امتدادية تتجاوز التصور والخيال!..

وما للفكر الإنساني اليوم، من استيعابية لنهج العلم والمعرفة!..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى