الأخبارالصدى الثقافيفضاء الرأي

الاستدلال بقصد الشارع فى فتاوى العلامة باب ولد الشيخ سيديا / الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام(محاضرة)

بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على النبي الكريم
محاضرة الاستدلال بقصد الشارع فى فتاوى العلامة باب ولد الشيخ سيديا للدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام

الجزء الثاني
منهجه الاستدلالي ورسالته لابن حبت الغلاوي كنموذج
هذه الرسالة موجهة من العلامة باب ولد الشيخ سيديا الى العلامة سيد محمد بن أحمد بن حبت الغلاوي ويعتبر هذا الأخير من العلماء الذين ناصروا دعوة العلامة الشيخ ما العينين للجهاد وقد ترجم له الشيخ النعمة بقوله هو : “العالم القاضي الفقيه الأديب سيدي محمد بن أحمد. الشهير الذكر، كان من رؤساء قومه وعلمائهم. له محاورات في المحافل كثيرة، وكان حديد اللسان، سريع الجواب بالبيان. وله تآليف في الفقه وغيره…
منها هداية الحيارى إلى حكم من غلب على وطنه النصارى” وهو يدعو فى كتابه هذا إلى جهاد النصارى الفرنسيين و يقول بوجوب الهجرة من أرض يحكمها الكفار ..
ولعل رسالة العلامة باب هذه كانت ردا على ذلك الكتاب .
جاء فى مقدمة الرسالة : (بسم الله الرحمن الرحيم.
من سيديَ بن محمد إلى السيد الفاضل ابن سلالة السادة الأفاضل، الأخ سيدي محمد بن أحمد بن حبَتْ، رحم الله تعلى السلف وبارك في الخلف. آمين. سلام عليكم ورحمة الله تعلى وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو،
أما بعد، فقد رأيت كتابك الكريم وخطابك الوسيم، وإني أرى أنه لا يخفى عليك عدم القدرة على الجهاد من كل وجه. ولا يخفى عليك أن الجهاد وسيلة مقصِدها إعلاء كلمة الله تعلى؛ وأن الوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصِدها لم تشرع؛ وأن هذه المسألة تخفى كثيرا على أهل الفقه ).
لا يستند العلامة باب ولد الشيخ سيديا فى رسالته هذه على آحاد نصوص الشريعة وإنما يستند إلى كليات قطعية استقرائية لا تحصى شواهد الاعتبار الداعمة لها .
وتقوم جدليته الاستدلالية فى الرد على الفقيه الغلاوي على مساءلة النصوص في جملة من الإشكالات الغائية للأحكام الشرعية .
أولا ما هو قصد الشارع من الجهاد ؟
ثانيا هل يمكن تحقيق قصد الشارع بوسيلة أخرى؟
ثالثا ما علاقة خطاب الوضع بخطاب التكليف ؟
رابعا ما هو حكم الفعل المشروع إذا كان مآله يخالف قصد الشارع ؟
هذه جملة من الأسئلة المنهجية التى كان يتوجب على ابن حبت الغلاوي الإجابة عنها قبل أن يصدرفتواه بوجوب الجهاد .
يقرر العلامة باب ولد الشيخ سيديا أن أي قفز على هذه التساؤلات يؤدي بالضرورة إلى الخطإ في الحكم الشرعي من حيث مخالفته لقصد الشارع فى تشريع الأحكام .
لا ينازع العلامة باب ولد الشيخ سيديا ابن حبت الغلاوي فى أصل مشروعية الجهاد ذلك لأن مشروعية الجهاد مما علم من الدين ضرورة فقد قال تعالى فى محكم كتابه ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ).
ليس أصل مشروعية الجهاد محل النزاع إنما النزاع فى مشروعيته عند انعدام شروطه وحصول موانعه .!!
ويؤكد العلامة باب ولد الشيخ سيديا أن ذاك هو الحاصل فى هذه البلاد قال (وإني أرى أنه لا يخفى عليك عدم القدرة على الجهاد من كل وجه. ولا يخفى على الناظر عدم قدرة سكان البلد على الجهاد من كل وجه. فإذا تُحقق أو ظُن عدم اتحاد الكلمة على السلطان القاهر وعدمُ بيت المال وعدمُ السلاح المماثل وعدمُ العدد المكافئ وعدمُ الصنائع المقاومة ونحوُ ذلك من سائر أسباب القوة، فقد تُحقق أو ظُن أن الثمرة إنما هي خلاف مقصِد الجهاد. وبذلك تصير دماء المسلمين وأموالهم وحريمهم ضائعة في غير ثمرة تجنى. فيصير الجهاد مضرة خالصة فيكون فتنة من الفتن، )
نظن أن العلامة ابن حبت الغلاوي لا تمكنه المنازعة فى توصيف الواقع بهذا التوصيف .
وإذ سلم الغلاوي – ونظنه فعل – فلن تكون النتيجة المنطقية إلا قول باب ولد الشيخ سيديا ( ولا يخفى عليك أن الجهاد وسيلة مقصِدها إعلاء كلمة الله تعلى؛ وأن الوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصِدها لم تشرع ).
لا مناكفة فى أصل مشروعية الجهاد من حيث إنه حكم شرعي ثابت كتابا وسنة وإجماعا لكن المنازعة تكون فى فهم قصد الشارع من الجهاد فهل يكون قصده المدافعة أم يكون قصده مصلحة المسلمين ؟

إن القول بأن المدافعة هي قصده الأول قول تنعدم الشواهد عليه وهو منزع ليس بذاك فى نظر العلامة باب ولد الشيخ سيديا و أما القول بأن مصلحة المسلمين هي القصد فإن الشواهد تعضده . إذ لو كان القصد هو المدافعة بغض النظر عن ضوابط مصلحية فلماذا لم يشرع الجهاد فى الفترة المكية ؟
إن الواقع مظهر ما يترتب عليه عند انعدام شروطه فى حاال البلد وقتها من هلاك الأنفس وضياع الأموال .
ويتابع العلامة باب ولد الشيخ سيديا فى جدليته الاستدلالية المقاصدية (ولا يخفى على الناظر عدم قدرة سكان البلد على الجهاد من كل وجه. وبذلك تصير دماء المسلمين وأموالهم وحريمهم ضائعة في غير ثمرة تجنى. فيصير الجهاد مضرة خالصة فيكون فتنة من الفتن، هذا إضافة إلى أن أهل الفساد يجعلونه ذريعة لاستئصال شأفة المسلمين. والعيانُ مُغْنٍ في ذلك عن البيان والوصفُ فيه قاصرٌ عن البيان ).
لا تمكن الممناعة فى أن الجهاد إنما شرع من أجل مصلحة الاسلام والمسلمين وأن الوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصدها لم تشرع ..
دليل هذا التوجيه هو أمر المسلمين بالإعداد قبل المنازلة فقد قال تعالى
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )
لو كانت المدافعة غاية ومقصدا فى ذاتها فلماذا جاء الأمر بالإعداد قبل المنازلة ؟
وثمة دليل آخر وهو الرخصة فى التخفيف فى الأعداد قال تعالى: ( الآن خفف عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين )
لا يمكن فى نظرنا فهم هذه النصوص إلا وفق سياق قصد المصلحة واعتبارها من لدن الشارع الحكيم ..
ويختم العلامة باب ولد الشيخ سيديا رسالته الموجهة الى العلامة سيد محمد ولد حبت الغلاوي معترفا له بالفضل والتقوى وأن الخطأ فى الاجتهاد مأجور صاحبه لكن إذا تبين الحق وجب الرجوع اليه قال :
( وإنه لا يخفى علي أنك لم ترد بهذا الأمر أكْلَ مال ولا اكتسابَ منزلة، ولكن أرى أنك لم تمعن النظر في أحوال الزمان والمكان؛ ومثلُك إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر, والله تعلى يوفقني وإياك وسائر المسلمين. آمين.
وأرى أن ترجع عن هذا الأمر وتجعل ذلك قربة إلى الله تعلى، فقد ضاع فيه من دماء المسلمين وأموالهم وحريمهم ما لا يحصى، وإن مثلك من نظر للمسلمين وقاد العافية إلى المساكين).
والخلاصة التي نخرج بها من هذه المباحثة والمساءلة في المنهج الإفتائي للعلامة باب ولد الشيخ سيديا تفيد إنه كان عالما مجتهدا ينزل فتواه وفق مقاصد الشارع ناظرا للأحكام تبعا لما ينجر منها من مصالح تستجلب أو مفاسد تدرأ.
وتلك منزلة العالم المجتهد الذي قال عنه الشاطبي : «ويسمى صاحب هذه المرتبة الرباني والحكيم والراسخ في العلم» .
وبين الشاطبي أمارته قائلا : «ومن خاصته أمران: أحدهما أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص..
والثاني: أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات» .
للعلامة باب ولد الشيخ سيديا سلف فى هذا المنهج المقاصدي فهذا جده العلامة الشيخ سيديا الكبير يقول في خاتمة كتابه الموسوم الميزان القويم والصراط المستقيم (يتعين على كل من له عناية بدينه أو همة بإصلاح شؤونه أن لا يأتي أي عمل أو أمر يريد الشروع في فعله والقيام لأدائه حتى ينظر فيه ويبحث عنه ويعلم حكم الله فيه.
وما هو طالبه منه ليكون عاملا بيقين وعلم لا عاملا بشك أو وهم وليكون سعيه فيما طلب منه لا فيما نهى عنه، إذ العمل بغير العلم ذهاب في غير مذهب والسعي في غير ما طلب تعب في غير متعب وكلاهما منهى عنه محذر منه ولا يتقرب إلى الله بما نهى عنه ولا ينال ما عنده بما حذر منه» .
رحم الله السلف وبارك فى الخلف
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
بوتلميت 7يناير 2024
بمناسبة التظاهرة العلمية المخلدة لمئوية العلامة باب ولد الشيخ سيديا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى