فضاء الرأيقضايا المجتمع

التسعينيات / عباس ابراهام

علاقتي مع إبليس / د عباس ابراهام

يجب الآن النظر إلى التسعينيات أنّها نوْعٌ من العصر الترياسي الأخير حيث تعايشت لآخر مرّة الدّيناصورات والزواحِف الجديدة (أبناء عمومتنا من التماسيح والسلاحِف والثعابين) والثدييات الملعونة. وكان كثيرٌ من الزواحف يطير في هذا العصر (لأنّ الله كان يهلك النمل بتجنيحه). وكانت الأصنام القديمة قد أفلت أمثال هيدالة واشويدح واللجنة العسكريّة للخلاص الوطني.

 

لم يكن الصراع فقط طبقياً؛ بل كان ثقافياً. كان لكصر قد بدأ يفقد السيطرة الثقافيّة. وبدأت سيزيم وتيارت وتفرغ زينة في صناعة الثقافة. كان آلاف البدو يتقاطرون إلى العاصمة هاربين من الجفاف وباحثين عن فرص؛ وكان يُأطّرون في كابيتال حيث مؤسّسات الحضارة: المراكز الثقافيّة والمكتبات والبيروهات والحكومة وجامعة نواكشوط ومكاتب الدمج والمُسّفرين واتفورنيسي والأسواق والاستندارات، والمشوي واتلحليح ودراريع الواخ ولمبيرَد والخميني وسراويل التوبيت وأحمد الحمدي ونعايل Vani و Ferradini. ورغم أنّ كابيتال كانت المسرح الذي تدور فيه الاختلافات والتلاحمات إلاّ أنّها لم تكن مسكناً؛ وكانوا يقولون: خذ خيرَها ولا تتخذها وطناً. وكانت تعود منها، حتّى الليل، باصات النقل الحضري. وفي التسعينيات تعايشت الحافلات الزرقاء الكبيرة الأنيقة، التابعة للدولة مع الحافلات الخضراء الصغيرة المتسخة، المزعِجة، المملوكة من الخصوصيين، والمُدارة من قبل آنكسيرات، والتي لم يكن الباص الواحِد منها يعود باقَلِّ من عشرة أرواحٍ في اليوم. وكانت تلك الباصات، إضافة إلى جميل منصور وولد سيدِ يحيى، مسؤولة عن ترييف نواكشوط. أما التاكسيات فكانت تُكترى بالساعة وبنصف الساعة وربعها. ولم يكن بَيْ أم التاكسمان العاشر قادِراً على إقحام الأجانب في تاكسي الكاري. Sinon طرشة، كما كان يُقال.

 

لم يكن الصراع الثقافي فقط بين les arabisants وles bilingues (ما كان من السّهل، وإنْ من السخافة، فهمُه عرقياً). ولا حتّى بين les bedouins و les branchés (ما كان من السّهل، وإن من السخيف، جغرفتُه). وليس صحيحاً أنّ الإسلامويين كانوا سلاحف النينجا العائشة في الحي الساكن وعرفات. فالكبّات، من مندز حتّى الزعطر كانت معاقل الكادحين والحُرْ. الإسلاموي كان un passageur. وكان يتصارع ويتكركر في كَاراجات وكان مُريِّفاً. وكان، للمفارقة، من السّهل التدَيمُن فيه. وكانوا حينها يُسمّون بالإخوان ولم تكن عبارة الإسلاميين إلاّ صعودهم الطبقي: وكان هنالك انطباع ساذج أنّهم سيُفجِّرون نواكشوط، ولكنّهم كانوا قلة معدومة وحائرة.

 

وبشكلٍ ما كان الصراع موسيقياً. كانت التقاليد مهزومة لصالح التجديد. فآل بوب جدو وأحمد زيدان والنعمة منت اشويخ، وحتّى العظماء أمثال الخليفة وسدّوم كانوا ذوقاً بدوياً مهجوراً في أوساط الشباب. وكانت أصواتُهم تختلطُ في الاستندارات الكبيرة مع أصوات ولد سيدِ يحيى ورائحة الوركَة والبول والعرَق والمشوي في مرصة كابتال. أمّا ديمي فقد كانت في مرتبة وسطى؛ ورغم أنّ المراهقين لم يكونوا يستمعون لها إلاّ أنّهم اعترفوا بأنها Demigodess. أما قادة التحديث فكانوا إلى اليمين: المعلومة بنت الميداح وإلى اليسار: آل النانة وبالأخص جميلة وياسين. والمرحوم ياسين كان نبي التسعينيات (مع أنّه عندما كان يُقال “المرحوم” في التسعينات فإنّ المقصود كان إما Tupac أو فوكوچاي). وكانت أغاني “يالكبير يالفالح” و”على درب الجدود” و”دولتنا موريتان” تفعل الأفاعيل. وكانت الدولة قد أعطت لياسين معبداً اسمُه دار الشباب قام فيه بتحويل الشباب إلى الدِّين الجديد. أما المراهقين فكانوا يستمعون إلى Macarena وCoco Jamboo وHaddaway واللعين ريكي مارتن والشيطان Lou Bega وعمرو دياب وإيهاب توفيق وحميد الشاعري وهاني شاكر. وكان هؤلاء المراهقون والكاسدادية (المُفطِّحين) من أبناء الطبقة المخمليّة والقطط السِّمان يغزون قلب العاصمة في المساء مسلّحين بإعلان الحرب، أغنية This Is The Rythm Of The Night. وما إن تصدح تلك الصرخة حتّى يهرب جموع الموظفين الصغار والتيفاية وتكوسو من أمامِهم. إلاّ أنّ الثقافة كانت حربيّة ورجولية. وكان يُنظَر باحتِقار إلى les fils à papap؛ وكان يُقال لهم: اتريكة ياور؛ وكانوا، ما إنْ يترجّلون من سياراتِهم، حتّى يُصبحون عرضة لـ(اتنبپي) أو (التقشاب).

 

وكان هنالك مُلهِمٌ لم يعد أحدٌ يذكره هو Nana رضي الله عنه، وكان رفيقاً للسيارات وللسدّارة وللمكاسكدين الكبار. وكان نانا مسموعاً أكثر ممّا كان مرئياً. وكان قلّة من العنصريين المخلوبين به يعرِفون أنّه أسود.

 

وكان هنالك شقٌّ من الأطفال والمراهقين من ذوي الحس الاشتراكي مستقبَلاً من أمثالي ممّن كانوا يعطفون على التيفاية ويعنقِدون أنّ الدولة يجب أن تحميهم من احتقار المراهقين ومن مطاردات الشرطة. ويبدو أنّ هذا كان خطئاً. فهؤلاء التيفاية سيتحوّلون في العقود القادمة إلى حلاّبة السمّاء، الذين دمّروا الأوقيّة، وإلى التبتابة، الذي جعلوا كلّ شيء للبيع والشراء وأفسدوا قيم العاصمة، وإلى طبقة الملاّحة والشبّاكة، التي، بالتعاون مع المسؤولين الرسميين وزوجاتهم، دمّرت اقتصاد البلاد.

 

وفي الستعينيات اعتِقد أنّ من دمّر نواكشوط كان أفلام الهند (احرف زيندكَي) وسينما الوازيز والسعادة والمنى وفالة ورباح واسغيير ولد امبارك وشيخ العافية. ولكن من الواضِح الآن، ونحن على فراش الموت، أنّ من دمّر نواكشوط هم حماته: البيروقراطية والوجهاء والأطر والعسكر والشرطة ورجال الأعمال والفقهاء ووزارة الداخلية والعدل وإدارة السجون ولجنة الصفقات والبنك الدولي. وفي التسعينيات سُكّت عِبارة كانت أولاً بريئة، ولكنّها سرعان ما أصبحت رؤيوية: احذر خروج الثكنة. ولم تكن الثكنة في واقع الأمر غير كلّ هذه الكيكلة.

المصدر: صفحة الكاتب على الفايسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى