إفريقي ومغاربيالأخبارتقارير ودراسات

الجزائر وجيرانها: إستراتيجية واضحة لفرْض التبعية / موسى حرمة الله

تشرع صحيفة “القلم” اعتبارا من هذا اليوم – حصْريا – في نشر مقتطفات معبّرة من الكتاب الجديد الذي سيصدره قريبا السيد موسى حرمة الله بعنوان: “نزاع الصحراء: في الدائرة الأولى لإدريس البصري، وزير الداخلية المغربي الأسبق”.

 

تنبيه صادر عن المؤلف

 

الدراسة الحالية تم توجيهها، بالتزامن، إلى جلالة الملك محمد السادس عن طريق السيد محمد ياسين منصوري، المدير العام للمديرية العامة للدراسات والتوثيق، وإلى فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز رئيس الجمهورية عن طريق السيد مولاي ولد محمد الأغظف الوزير الأمين العام للرئاسة حينها.

 

وقد جرى تنظيم اللقاء مع الوزير الأول السابق بمبادرة من أخي وصديقي السيد محمد يحظيه ولد مختار الحسن وزير الداخلية السابق.

 

وحرصا على مصلحة بلدان شبه المنطقة تم فيما بعد توجيه دراسات استراتيجية إلى زعيمي البلدين المذكوريْن.

 

الدراسة

 

لقد أصبح اللجوء إلى الدراسات المستقبلية أمرا لا محيد عنه في أي عملية لاتخاذ القرار. ذلك أن الدراسة المستقبلية تراعي مقتضيات المستقبل عند اتخاذ القرار في الوقت الحاضر. وهي تمكّن من استباق الأحداث والتصوّر الواضح لتطورات ومآلات حدث معيّن. وهذا ما يتيح اتخاذ التدابير المناسبة سلفا لمواجهة أي حدث طارئ. وتزداد أهمية التنبّؤات المستقبلية بالنسبة للأحداث التي قد تهدد مصير دولة أو عدة دول.

 

من هذا المنظور، وبغض النظر عن ملابسات الظرفية الحالية، يبدو من الوارد التفكير في المسار الذي ستنتهجه مستقبلا علاقات الجزائر بجيرانها.

 

ويلزم، بطبيعة الحال، أن يستند هذا الإسقاط المستقبلي إلى عناصر تقدير جيوسياسي وجيو استراتيجي دقيقة أو قابلة للتوقع. وفي الحالة الراهنة، أي حالة الجزائر، يجدر الأخذ في الاعتبار لجميع المؤشرات الملاحظة في الحاضر والمتوقعة في المستقبل انطلاقا من الرؤية السائدة في الجزائر.

 

أولا- الهيمنة الجزائرية: انتقام من المحن

 

لعل من نافلة القول التذكير بهذه الحقيقة البديهية: وهي أن كل دولة تعتمد – مبدئيا – إستراتيجية في سياستها الخارجية بحيث تكفل، عند الاقتضاء، حضورها وإشعاعها في مناطق نفوذها.

 

ولا يخفى أن إرادة السيطرة لدى الجزائر خيار معتمد بل معلن رسميا. وفي هذا الصدد نتذكر الخطاب الشهير الذي صرح فيه الرئيس بومدين بالحرف الواحد أن “كل ما يجري من رأس الرجاء الصالح إلى القاهرة يتحتم أن يحظى بموافقة الجزائر”.

 

ويدل هذا بجلاء على أن بومدين يُنيط بالجزائر هدفا واضحا يتمثل في قيادة القارة الإفريقية برمتها.

 

ومن البديهي أن من يراوده الطموح لقيادة قارة بأسْرها لا يُستكثر عليه منطقيا إرادة مماثلة للتصدّر على مستوى شبه المنطقة.

 

وبصرف النظر عن الحقب الطويلة والمؤلمة من الاحتلال التركي ثم الفرنسي، يُحتمل أن رغبة الجزائر في السيطرة قد نشأت عن حادثتيْن طبعتا تاريخها الحديث.

 

يتعلق الأمر بحادثتين زرعتا الاضطراب في الجزائريين وشكلتا على نحو مأساوي الوعيَ الجمعي لهذا الشعب.

 

ففي المقام الأول تبرز مذابح سطيف في منطقة قسنطينة الجزائرية سنة 1945 حيث قتلت القوات الفرنسية بدم بارد أكثر من خمسة وأربعين ألف جزائري (45.000) على إثر مظاهرة سلمية تطالب باستقلال البلاد.

 

وتحت وقع الصدمة سجل الروائي الجزائري كاتب ياسين الذي كان حينها طالبا في الثانوية شهادته عن تلك الوقائع الفظيعة بقوله: “في عام 1945 اصطدمت نزعتي الإنسانية لأول مرة بأشنع المشاهد. كان عمري عندئذ عشرين سنة. فأنَّي لي أن أنسى ما انتابتني من صدمة جراء المذبحة الشرسة التي راح ضحيتها آلاف المسلمين. من هنا ترسّخت لديّ الروح الوطنية …”.

 

وغداة تلك المجازر، انخرط القادة التاريخيون لجبهة التحرير الوطنية في حركة التمرد ودخلوا في معمعان الكفاح المسلح، بدءا من اكريم بلقاسم، قبل أن يلتحق به آيت أحمد، وبن بله …

 

أما الحادثة الثانية المؤثّرة فقد تمثلت في هزيمة الجيش الجزائري حديث النشأة سنة 1963 في حرب الرمال التي خاضها في مواجهة الجيش المغربي.

 

ولتضميد جراح هذا الماضي المأساوي، أخذ الجيش الوطني الشعبي (وهي التسمية التي تطلق على الجيش الجزائري) على عاتقه مهمة السعي إلى عدم تكرار ما أصاب الجزائريين في سطيف أو حاسي البيضاء. وهم ما يسمونه “الحقرة”.

 

فالجيش الوطني الشعبي يعد مصدر اعتزاز لجميع الجزائريين الذين يرون فيه رمزا للتصدّي للمحن ويُحيطونه بنوع من القداسة.

 

وقد أولته الدولة أولوية مطلقة لتوفر له الظروف المثلى لخوض القتال في حالة نشوب نزاع.

 

ففيما بين 2000 و2015، ارتفعت مشترياته من السلاح وحده إلى 150 مليار دولار بمتوسط 10 مليارات دولار لكل سنة.

 

وبحسب التقرير الذي أصدره بتاريخ 18 مارس من سنة 2013 معهد الدراسات الإستراتيجية في استوكهلم، دخلت الجزائر ضمن البلدان الستة الأكثر استيرادا  للسلاح في العالم.

 

وعلى الرغم من أن الجزائر قد نوّعت مصادرها للتسلح، فإنها تظل في الصدارة على مستوى إفريقيا الشمالية والشرق الأوسط من حيث اقتناء الأسلحة الروسية.

 

وسنورد لاحقا لمحة عن الترسانة العسكرية الجزائرية الهائلة. لكن قبل ذلك يرد على الذهن سؤال لأول وهلة: ضد من تحاول الجزائر أن تدافع عن نفسها؟ أو على العكس: من تريد الجزائر أن تهاجم؟

 

الجواب على السؤال الأول سهل، فالجزائر ربما تريد أن تحمي نفسها من جيرانها.

 

وغير خاف أن أيا من تونس، وموريتانيا، ومالي، والنيجر، وليبيا، لا يمكن أن يشكل بأي حال من الأحوال مصدر تهديد للجزائر. فكل من هذه البلدان قد سبق له أن رسّم حدوده المشتركة معها، وهي فضلا عن ذلك بلدان تدور غالبا في فلك الجزائر.

 

لم يبق إلا المغرب. والجزائر تدرك تماما أن ميزان القوى العسكرية – نظريا على الورق – مع الرباط يميل كثيرا إلى صالحها رغم أن المغرب يتوفر على جيش قوي يضم ضباطا على قدر كبير من الكفاءة. علما بأن الحسن الثاني قد أجاب من قبل على هذا السؤال مازحا بقوله: “لم نر قط مملكة تهدد جمهورية”.

 

على أن من الجدير التأكيد على أن البلديْن لم يوليا نفس الأهمية لتسليحهما. فالمغرب قد اهتم أساسا بنموه الاقتصادي دون أن يكترث كثيرا بهاجس حماية حوزته الترابية. أما الجزائر فكان شغلها الشاغل حماية أراضيها ضاربة عُرض الحائط بتنميتها الاقتصادية.

 

وحتى لا يُساء فهمنا فالمقصود أن القوة العسكرية المبالغ فيها لدى الجزائر ترمي إلى بلوغ هدف مزدوج ألا وهو: فرض نفسها كقوة إفريقية عظمى بل وأكثر من ذلك إملاء إرادتها على المغرب سعيا إلى إعادة توزيع الأوراق لرسم خارطة جديدة للجغرافيا السياسية للمنطقة.

 

ولتحقيق هذا الغرض تبدو الإستراتيجية الجزائرية في غاية البساطة: العمل على الإنهاك الدائم للمملكة المغربية بوصفها المنافس المحتمل، وبدرجة أقل إضعاف جيرانها الآخرين وعلى الأخص موريتانيا ومالي. لكن هل تتوفر الجزائر على الوسائل العسكرية اللازمة لبلوغ مطامحها؟

 

ثانيا- الجيش الوطني الشعبي: وسائل بشرية ومادية تتجاوز إلى حد كبير الاحتياجات الدفاعية للجزائر

 

بحسب الموقع الموثوق (Global Fire Power) المتخصص في تسليح القوى العسكرية العالمية العظمى، فإن الجزائر تتوفر على ثاني أقوى جيش في إفريقيا والعالم العربي، وتأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد مصر وقبل إفريقيا  الجنوبية. ويفصّل الموقع في تصنيفه لعام 2015 الترسانة العسكرية الجزائرية على النحو التالي: 448 طائرة مقاتلة (من آخر طراز)، 975 دبابة قتالية (حديثة)، 60 بارجة حربية …

 

كما يظهر الموقع أن الجزائر تنفق سنويا ما متوسطه 10 مليارات دولار لشراء الأسلحة.

 

ولئن بدت الترسانة العسكرية الجزائرية هائلة، فإن أعداد أفراد الجيش الوطني الشعبي ضخمة كذلك. فبحسب النشرية المشار إليها أعلاه، يضم الجيش الجزائري 512.000 عسكري محترف و400.000 من جنود الاحتياط، أي ما يقارب مليون جندي ما بين ناشط واحتياطي. ويتوزع العسكريون المحترفون الـ 512.000 كما يلي:

 

أعداد الجيوش الثلاثة (البر، والجو، والبحر) = 255.000؛

 

أعداد الدرك الوطني  = 180.000؛

 

أعداد القوات المستقلة المعروفة باسم “الدفاع الجوي عن التراب الوطني” إضافة إلى أعداد المخابرات والأمن وأعداد الحرس الجمهوري = 77.000.

 

للتذكير، نشير إلى أن العدد الإجمالي لسكان الجزائر يناهز الأربعين مليون نسمة. والجزائر هي ثاني بلد عربي من حيث تعداد السكان بعد مصر. ومن جهة أخرى، أصبحت الجزائر بعد انفصال السودان الجنوبي أكبر دول إفريقيا والعالم العربي وحوض البحر الأبيض المتوسط من حيث المساحة.

 

وتعتبر أعداد الجيش الوطني الشعبي هائلة باعتبار أن هذا الجيش لم يعد يضم في صفوفه سوى العسكريين المحترفين. ذلك أن الجزائر قد قررت منذ عام 2000 إضفاء الصبغة المهنية على الجيوش والتخلي عن اكتتاب المجندين. ومن ثم سدّت الجزائر الثغرة التي كان يعاني منها الجيش الوطني الشعبي الذي لم يعد خليطا من المجاهدين القدماء والمجندين عديمي الخبرة وذوي التسليح البدائي.

 

لا نرمي هنا إلى إجراء دراسة ممحّصة للترسانة العسكرية الجزائرية فذلك يستدعي تسطير مئات الصفحات، وإنما نقتصر على تقديم لمحة موجزة للاستئناس بها.

 

القوات الجوية

 

الطائرات المقاتلة:

 

يتفق جميع المعاهد الإستراتيجية في استوكهلم، ولندن، وواشنطون إلخ على أن الجزائر تتوفر على أكثر من 450 طائرة مقاتلة من آخر طراز. ويتشكل تجهيز القوات الجوية الجزائرية أساسا من طائرات مقاتلة من صنع روسي: SU-34, SU-30MK, SU-30MS,MIG 29,MIG 31…

 

وقد تم شراء هذه المركبات الجوية – وهي أفضل ما في الطيران الروسي – لتعويض طائرات SU-24 القديمة وغيرها من طائرات الميغ التي أصبحت متجاوزة.

 

وفضلا عن ذلك تتوفر القوات الجوية الجزائرية على طائرات تجسس (على شعاع 3000 كلم)، وطائرات بدون طيار، ومحطات للتنصت والاستكشاف في غاية الدقة من أجل حراسة التراب الوطني بواسطة نظام للإنذار المبكر ينبه إلى أي اختراق للحدود.

 

المروحيات وطائرات النقل العسكري:

 

تتوفر القوات الجوية الجزائرية على مئات – أقول مئات – المروحيات المقاتلة ومروحيات النقل الثقيل. كما تتوفر على خمسين طائرة نقل عملاقة للمعدات والجنود من شتى الأصناف والأنواع …

 

وللجزائر إضافة على ذلك طائرات للتزويد بالوقود …

 

الصواريخ الباليستية:

 

بحوزة الجزائر  عدد كبير من منصات إطلاق الصواريخ الباليستية سكود (ثابتة أو متنقلة) التي يصل مداها إلى 1000 كلم.

 

ويؤكد بعض المسؤولين الجزائريين في مجالسهم الخاصة أن لديهم من الوسائل العسكرية ما من شأنه أن يهزم المغرب دون أن يضطر أي جندي من الجيش الوطني الشعبي إلى اجتياز الحدود. ويعللون ذلك بأن جميع المدن المغربية الكبرى من طنجة إلى العيون مرورا بفاس، والرباط، والدار البيضاء، ومراكش أو أكادير تحت رحمة صواريخهم الباليستية سكود (الثابتة والمتنقلة)، علاوة على الدعم والإسناد من غواصاتهم المختبئة في أعماق البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.

 

وفضلا عن التهديد المحتمل للحواضر والتجمعات الكبرى، يؤكد أولئك المسؤولون الجزائريون أن بمقدورهم تدمير الاقتصاد المغربي بالهجوم – دائما بالانطلاق من الجزائر بالوسائل نفسها – على أهم المواقع الإستراتيجية للمملكة: السدود، الموانئ، المطارات، المحطات الكهربائية، مستودعات الوقود …

 

وفي السياق ذاته، يجري الحديث في الجزائر عن أن الذعر الذي سيصيب السكان المغاربة في حال نشوب حرب سيكون أبرز عامل في انتصار الجزائر عليهم. ويعلق القائلون بهذا الطرح الأمل على تهاوي النظام المغربي بفعل ما يدعونه الاضطرابات الاجتماعية، وتصاعد المخاطر الكامنة مثل: التطرف الديني، المطامع الانفصالية لبعض مناطق المملكة وغيرها من التهديدات الداخلية الخفية.

 

صواريخ الدفاع الجوي:

 

تتوفر الجزائر إضافة إلى مجاميع الصواريخ التقليدية للدفاع الجوي على صواريخ روسية جديدة ذات فعالية عالية. ويتعلق الأمر بصواريخ س-300 وس400. فبعد أن اقتنت الجزائر صواريخ س 300 سنة 2011 اشترت كذلك من روسيا صواريخ س 400.

 

ويعتبر “س 400 نظاما للدفاع الجوي وهو مضاد للصواريخ المتنقلة. وتتألف هذه الأنظمة من صواريخ الدفاع الجوي المتوسطة المدى التي يمكن نشرها على نطاق واسع. وهي قادرة على تشغيل 72 صاروخا ضد 36 هدفا متزامنا في شعاع 400 كلم وإسقاط كل الأهداف الجوية، والطائرات، والصواريخ العابرة، والطائرات بدون طيار على ارتفاع 30 كلم.

 

ويرى الغربيون أن الـ s-400 هو أفضل صاروخ للدفاع الجوي في العالم. وهو يتفوق بكثير على منافسه الأمريكي الشهير المضاد للصواريخ باتريوت باك 3. لذا جري تلقيبه بسوبر باتريوت الروسي.

 

وبإمكان س 400 أن يعترض صواريخ مداها 3.500 كلم وتسير بسرعة أعلى من ماتش 15. كما يستطيع نظام س 400 أن يطلق صاروخا أخف مصمما لاعتراض الصواريخ العابرة والتي تحلق على ارتفاع منخفض”.

 

وللبرهنة على القوة التدميرية  لأنظمة س 400 يكفي أن نذكر بأن روسيا عندما كانت بصدد بيعها لإيران عملت الولايات المتحدة ما في وسعها لمنع تلك الصفقة وبذلت في سبيل ذلك العديد من التنازلات لصالح موسكو.

 

والسبب في ذلك أن واشنطون تدرك تماما أن إيران بحصولها على الـ س 400 سيصبح مجالها البري والبحري والجوي غير قابل للاختراق. وبذلك يمكن لإيران أن تستمر في برنامجها النووي دون أن تخشى التهديدات الإسرائيلية المتكررة بضرب المواقع النووية الإيرانية.

 

ولا ننسى أن مدينة موسكو والمواقع الإستراتيجية الروسية تحميها بطاريات الصواريخ س 400.

 

وعلاوة على الصواريخ س 300 وس 400 تتوفر الجزائر كذلك على صواريخ تور م2 وبوك م2 التي تضاهي في قوتها التدميرية أنظمة س 400.

 

“فالنظام التكتيكي تور م2 يضمن حماية المواقع ذات الأهمية الإستراتيجية ضد غارات الصواريخ المضادة للرادارات، والصواريخ العابرة، والقنابل الموجهة، والطائرات، والمروحيات. ولا يوجد عبر العالم أي نظام يعادل نظام تور م2.

 

وتتضمن بطارية صواريخ تور م2 أربع منصات إطلاق متنقلة قادرة على إسقاط 16 هدفا متحركا في كل الاتجاهات بسرعة تزيد على ماتش 2 وعلى ارتفاع 10 كلم. ويمكن تشغيل هذا النظام في كافة الظروف ليلا أو نهارا”.

 

وبوجود أنظمة س300، وس400، وتور م2، وبوك م2 يكون التراب الوطني الجزائري، والمدن والمواقع الإستراتيجية في مأمن تماما من كل هجوم جوي أو بحري أو بري مهما كان مصدره.

 

وبهذا الصدد كتب مناديفانس: “لقد شهد الدفاع الجوي عن التراب الجزائري تطورا حقيقيا في السنوات الأخيرة، مما جعل الجزائر تقفز إلى مصاف الدول الأكثر تقدما في هذا الميدان”.

 

وجميع تلك الصواريخ بما فيها صواريخ سكود منتشرة أساسا في المنطقة العسكرية الثانية (وهران) والمنطقة العسكرية الثالثة (بشار) التي تؤوي الكتيبة 250 لصواريخ الدفاع الجوي بالمضادات طويلة المدى. بتعبير آخر: هذه الصواريخ موجهة نحو المغرب، والصحراء، وموريتانيا بوصف هذه المناطق مسرحا محتملا لنشوب نزاع مسلح.

 

البحرية الحربية

 

تمتلك الجزائر 60 بارجة حربية وتنتظر قريبا تسلّم 26 بارجة أخرى. وبذلك سيصل أسطولها الحربي إلى ما يقارب 100 سفينة حربية.

 

وتتوفر البحرية الجزائرية على باخرة للقيادة البحرية وهو أمر نادر في البلدان النامية لما يقتضيه من مرافقة أمنية وتموينية.

 

كما تتوفر على حاملة للمروحيات، وعلى عشرات الفرقاطات، والطرادات المزوّدة بصواريخ SS-N، والزوارق السريعة، وراجمات الصواريخ (SSM Styx)، وناسفات الطوربيد، وعشرات من سفن خفر السواحل من شتى الأصناف، وكاسحات  الألغام …

 

وقد تم تجهيز مركبات البحرية الحربية الجزائرية بصواريخ مضادة للقذائف.

 

وسبق للجزائر أن اشترت من إيطاليا مركبة للإسقاط من طراز سان جيورنو. وباستطاعة هذه المركبة أن تقوم بعمليات برمائية، وبالإسناد اللوجستيي حتى أن بمقدورها أن تتحول إلى منصة مضادة للغواصات.

 

ولدى البحرية الجزائرية كذلك:

 

6 غواصات من طراز كيلو:

 

2 كلاس كيلو 877 أ.ك.م

 

4 كلاس كيلو 636 م

 

مركبات للتفريغ؛

 

قاذفات س.و-24 مك لمهام الدعم؛

 

س.و 30 وب 200 ت لمهام الاستطلاع؛

 

مروحيات ك.أ 32 المستخدمة خاصة لرصد الغواصات.

 

وقد تم تجهيز الدفاعات الساحلية ببطاريات متنقلة من طراز سس 2 وببطاريات متنقلة من طراز ك.هـ 35 أ.

 

وتتوفر البحرية الحربية الجزائرية على أنظمة IFF التي تمكن من التمييز ما بين المركبات المعادية و المركبات الصديقة سفنا كانت أم طائرات.

 

وفي معرض حديث خبراء حلف شمال الأطلسي عن البحرية الحربية الجزائرية فإنهم يؤكدون بالإجماع على أن “الأسطول الجزائري جدير بأن يُحسب له حسابه في البحر الأبيض المتوسط”.

 

الجيش البري:

 

إن لدى الجيش البري الجزائري مجاميع من الأسلحة منها ما هو بسيط كالبنادق الهجومية وما هو معقد على غرار الصواريخ، وتتفاوت وسائط النقل العسكري من ناقلة الجند البسيطة إلى حد الدبابات القتالية الأكثر تطورا.

 

وعلى الرغم من الطابع الرسمي للأرقام التالية فإنها تعود إلى سنة 2011 وقد تكون أقل بكثير من الواقع لأن من عادة الدول – حرصا على الأسرار العسكرية – أن يقدموا كميات أقل من الحجم الحقيقي لترسانتهم العسكرية.

 

وفضلا عن الـ 975 دبابة حديثة المشار إليها أعلاه، يتوفر الجيش البري الجزائري على دبابات قتالية أخرى من شتى الأصناف:

 

600 دبابة ت-90

 

500 دبابة ت-72

 

300 دبابة ت-62

 

200 دبابة ت-55 …

 

وقد زوّدت الجزائر البوليساريو بكثير من المعدات العسكرية المستهلكة مثل دبابات ت-52، وت-62، وقطع  المدفعية …

 

ويمتلك الجيش البري الجزائري 685 سيارة لنقل الجنود من طراز ب.م ب-1 وأكثر من 1200 سيارة أخرى لنقل الجنود من صنوف شتى.

 

كما يتوفر على الآلاف من المدافع الآلية، وراجمات القذائف المتعددة، وقطع المدفعية، ومدافع هاون من مختلف الأنواع والأعْيرة.

 

ويتوفر كذلك على 500 سيارة مصفحة مضادة للطيران ز.س.و 23-3 وغيرها.

 

وأطلق الجيش الجزائري فضلا عن ذلك طلبيتيْن إحداهما لاقتناء الـ BMPT Terminator الشهير والأخرى للحصول على دبابات ت-90 س.أ.

 

“ويعتبر الـ BMPT Terminator أول مصفّحة مخصصة حصْرا لحماية المدرعات. ولا يوجد في العالم أي مصفحة أخرى مصممة خصّيصا لهذا النمط من المهام”.

 

ويسمّى الترميناتور كذلك “المرافق العسكري للدبابات”. وهو مجهّز بتصفيح خاص ومزود بالسلاح لاسيما سلاح الليزر.

 

وفي الختام، نشير إلى أن الهندسة العسكرية الجزائرية تتوفر على وسائل لوجستيكية ضخمة.

 

ثالثا- الجزائر تنشئ صناعات تسليحية خاصة تحسّبا لأي حصار محتمل على الأسلحة

 

استعرضنا آنفا إحصاء غير مستوعب للسلاح الجزائري. لكن الأمر الجدير بالذكر هو أن الجزائر أنشأت صناعة وطنية للتسليح.

 

فمنذ العام 1980 أعدت الجزائر إستراتيجية لضمان الاكتفاء الذاتي للجيش الوطني الشعبي من أجل الاستغناء عن الخارج. وكانت ترمي من وراء ذلك إلى تفادي أية تبعية للخارج خاصة في حالة فرض حصار على الأسلحة كما حدث إبّان الحرب الأهلية في الجزائر سنة 1991 إثر فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات التي ألغاها الجيش.

 

وقبل عام 2000، ظلت الصناعة العسكرية الجزائرية متواضعة وغير قادرة على التنافس.

 

كان الجيش الوطني الشعبي ينتج محليا تجهيزات عسكرية خفيفة بموجب تراخيص روسية وصينية. وقد تغيرت الأمور كثيرا فيما بعد. وتتولى مديرية الصناعات العسكرية التصنيع المحلي للأسلحة. ويتم في مصانعها إنتاج مختلف المعدات والتجهيزات العسكرية:

 

“المسدسات الرشاشة، البنادق ذات المضخات، البنادق الرشاشة، المسدسات الأوتوماتيكية، قطع الغيار وأدوات التصليح …

 

مضادات الصواقع، المولدات الكهربائية، المرامى (الواجهات لصد الرمي)، معدات التموين، اللوازم شبه الطبية …

 

العبوات، الألغام المضادة للدبابات …

 

سيارات نقل الجنود (ب.س.ل م-5)، السيارات المدرعة لقتال المشاة والتي يتم صنعها في القاعدة المركزية للجوجستيك بمدينة البليدة.

 

مقطورات حاملات الآليات، الشاحنات المستخدمة كورشات، شاحنات التبريد، صهاريج الماء والوقود، شاحنات الإطفاء …

 

طائرات صغيرة بمقعدين (فرناس 142)، طاائرات خفيفة بأربعة مقاعد (صفير 43) يتم صنعها في شركة صناعة الطيران قرب مدينة وهران.

 

الطائرات بدون طيار. والطائرات الجزائرية بدون طيار من طراز HALE (ارتفاع عال، قوة تحمّل). وهي تستطيع التحليق على ارتفاع 7000 متر لمدة 36 ساعة متواصلة.

 

طرادات من صنف “جبل شنوا” ودوريات من صنف “كبير” يتم صنعها لتغطية حاجات البحرية الوطنية الجزائرية في القاعدة البحرية بمرسى الكبير في ضاحية وهران، وللتذكير فإن هذه القاعدة هي أكبر قاعدة بحرية وجوية في حوض البحر الأبيض المتوسط.

 

معدات إلكترونية من آخر جيل للاستخدام الأمني والعسكري، وأجهزة اتصال تكتيكية ورادارات للاستطلاع والمراقبة يتم صنعها في مصنع الشركة المختلطة الجزائرية لصناعة الأنظمة الإلكترونية ومقرها في سيدي بلعباس”.

 

ولمزيد من ترقية الصناعة العسكرية، وقعت الجزائر اتفاقيات شراكة مع عدة دول.

 

رابعا- لا يخفى على المراقب المتيقظ أن الجزائر شرعت بالفعل في التحضير للحرب

 

عرفنا من خلال الفقرات السابقة مدى ضخامة الترسانة العسكرية التي تراكمت لدى الجيش الوطني الشعبي. ومن الواضح أن هذه الترسانة تتجاوز بكثير احتياجات الجزائر الدفاعية. وعندئذ يبرز سؤال طبيعي: لما ذا كل هذه الأسلحة؟

 

ألمحنا في مستهل الدراسة إلى ما يمكن أن يعطي تفسيرا أوّليا لهذه الظاهرة.

 

عندما نبذل مثل هذه التضحيات الجسيمة ونستثمر هذا الكم الهائل من النقود في مسعى معيّن فلا بد أننا نروم تحقيق هدف محدد. وهذا الهدف معروف بالتأكيد. فلما ذا اللف والدوران؟ لاسيما أن مطامح الهيمنة الجزائرية لم تعد خافية على أحد.

 

فالحكومات الجزائرية نفسها تعلنها صراحة وبدون مواربة. وكل الترسانة المتراكمة مكرّسة لبلوغ هدف واحد، ألا وهو تجسيد عظمة الجزائر وتوسيع دائرة إشعاعها.

 

وهكذا تسعى الجزائر إلى فرض سيطرتها على مجموع دول شبه المنطقة. فبالنسبة للجزائر، يتحتم على هذه الدول أن تنضوي طوعا أو كرها تحت مظلتها.

 

من هذا المنظور يتعيّن على المغرب، وموريتانيا، ومالي … أن تصبح مجرد ولايات تابعة للجزائر بحيث لا يُقضى أمر ذو بال إلا بإيعاز من الجزائر مقر الحل والعقد.

 

ولعل قضية الصحراء هي مربط الفرس في الإستراتيجية الجزائرية التي يبدو أنها ترتكز على محوريْن:

 

الإنهاك المستدام للمغرب، من جهة، وإضعاف موريتانيا ومالي من جهة أخرى؛

 

العمل – باستخدام البوليساريو – على ضم جميع بيضان المنطقة تحت لواء الجزائر. وسنرى لاحقا الطريقة المتبعة في ذلك.

 

لكن قبل الاستفاضة في هذا التحليل دعونا نفتح نافذة استطراد قصير. إن كاتب هذه السطور لا يحمل أي عداء أو ضغينة لا تجاه الجزائر ولا تجاه  البوليساريو. وهو ينظر بكثير من الإعجاب والتقدير للنضال البطولي الذي خاضه الشعب الجزائري للتخلص من نير الاستعمار.

 

أما بالنسبة للبوليساريو فلديه أصدقاء في صفوفه من بينهم أعضاء مؤسسون للحركة. وله حتى صلة قربى برئيسه السيد إبراهيم غالي الذي تنتمي جدته إلى أولاد أبييري، أي أنها ابنة عم لكاتب هذه السطور.

 

على المستوى الشخصي، قد يكون المرء مساندا أو مناهضا للقضية الصحراوية. لكن هذا لا علاقة له بالمسألة التي نعالجها هنا. فالمقصود في هذه الدراسة وفي ما سيتلوها هو حصْرا إبراز جميع المعطيات المتعلقة بقضية الصحراء واستكْناه أبعادها المتعددة: عسكريا، وسياسيا، واجتماعيا، وثقافيا، سبيلا إلى إيجاد حل يرضي جميع الأطراف. وهنا نضع حدا لهذا الاستطراد لنتابع سيْر الدراسة.

 

خامسا- قد يكون تنصيب البوليساريو في الصحراء هو قطب الرحى في الإستراتيجية الجزائرية

 

بخصوص المغرب، يعتقد المخططون الإستراتيجيون الجزائريون أن وضع “اللاحرب واللاسلم” في الصحراء السائد منذ 40 عاما قد جعل الاقتصاد المغربي على شفا الانهيار. فسباق التسلح المحموم الذي فرضوه بصرف مليارات الدولارات لا يدع مجالا للمملكة المغربية لمسايرتهم في هذا السباق. وفي رأيهم أن الظرفية الحالية مواتية لإيجاد حل في صالحهم. كيف ذلك؟

 

بإشعال فتيل أزمة بطرق مباشرة أو غير مباشرة. وقد تنطلق الشرارة من حادثة حدودية (بين المغرب والجزائر) يُلقي فيها كل طرف باللائمة على الآخر، أو باستئناف الحرب بين البوليساريو والمغرب في الصحراء، على غرار ما حدث في أمغالا سنة 1976، على أن يصطف الجيش الوطني الشعبي إلى جانب البوليساريو.

 

وعندئذ ستشكل الخسارة المحتملة للصحراء معطاة جديدة تكون بمثابة رأس حربة للإستراتيجية الجزائرية في شبه المنطقة.

 

ويتعزز هذا السيناريو باعتبار أن الجزائريين يعتقدون أن تنصيب البوليساريو في الصحراء إثر انتصار عسكري للجزائر ميدانيا من شأنه أن يجعل المغرب منتهكا للقانون الدولي لأن الأمم المتحدة لا تعتبر الصحراء جزءا لا يتجزأ من المملكة المغربية.

 

ومن ناحية أخرى، يدرك الجزائريون أنه في حالة نشوب حرب بين المغرب والجزائر في الصحراء ستكون حظوظ التدخل الخارجي لفرنسا أو أمريكا أو غيرهما شبه معدومة. لما ذا؟

 

لأن هذا التدخل – على افتراض إمكانيته – لا يمكن أن يجري إلا بإحدى طريقتيْن: إما بناء على قرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وإما بعمل عسكري أحادي يشكل انتهاكا للشرعية الدولية. وفي كلتا الحالتين يبقى احتمال وقوع التدخل ضئيلا.

 

ففي الحالة الأولى (أي قرار مجلس الأمن)، من المؤكد أن روسيا ستستخدم الفيتو لصالح الجزائر بوصفها أحد أكبر مشتري أسلحتها في إفريقيا والشرق الأوسط. ومن المعلوم أن اقتناء السلاح من أي بلد يستتبع عمليا الحصول على دعمه السياسي والدبلوماسي، لاسيما وأن الجزائر زبون مهم لتوريد السلاح الروسي الذي بلغت مبيعاته لهذا البلد مليارات الدولارات.

 

وفي الحالة الثانية (أي التدخل العسكري الخارجي) يبدو احتمال التدخل ضعيفا لسببيْن: يكْمن الأول منهما في انعدام أي رهان إستراتيجي جوهري للغرب في المنطقة؛ ويتمثل الثاني في الكلفة الباهظة لهذا التدخل بشريا وماديا.

 

ذلك أن التراب الجزائري قاطبة ومدنه ومواقعه الإستراتيجية في مأمن – مبدئيا – من أي هجمات جوية أو بحرية أو برية أيا كان مصدرها بفضل منظومات صواريخ س300، وس400، وتور م2، وبوك م2.

 

تجدر الإشارة أخيرا إلى أن اتفاقية الدفاع التي تربط المغرب بفرنسا لا يمكن الاستناد إليها لأن باريس ستتذرّع بعدم قدرتها على انتهاك الشرعية ناهيك عما ستتحمله من خسائر بشرية عند التورط في أي مغامرة عسكرية.

 

وبهذا سيكون المتصارعان (المغرب والجزائر) وحدهما على الحلبة وسيتحكم ميزان القوى في حسم المعركة.

 

يؤكد الجزائريون في مجالسهم الخاصة أن أي حرب تنشب مع المغرب ستهز أركان المملكة بشدة لأن الإجماع الوطني حول قضية الصحراء هو اللحمة الضامنة لتماسك العرش.

 

ويرى الجزائريون أن المغرب بضمه للصحراء قد استهتر بالقانون الدولي وأن استثماراته في الصحراء – على ضخامتها – وتوطينه لأعداد من المغاربة فيها، كل ذلك لا يخوّله إطلاقا حق ملكية المستعمرة الإسبانية السابقة.

 

ففي اعتقاد الجزائريين  أن الصحراء ملك للصحراويين وهم يصرّون طال الزمن أو قصر على أن يعيدوهم إليها حتى ولو تطلب الأمر خوض حرب رمال جديدة هم على ثقة من كسبها.

 

سادسا- المخطط الجزائري؟

 

يجب ألا ننخدع ! إن الجزائريين بتنصيبهم للبوليساريو في الصحراء يسعون إلى توظيف الانفصاليين الصحراويين لخدمة مآربهم في شبه المنطقة. والهدف المتوخى من ذلك هو إقصاء المغرب من الساحة وتجميع بيضان البلدان المجاورة ووضعهم تحت إمرة الجزائر.

 

ففي الشمال سيتم إقناع بيضان اكليميم، والطنطان، وأسا زاغ (وهي أقاليم تحت السيادة المغربية بلا منازع) بأن مصيرهم مرتبط صميميا بإخوانهم في الجنوب، وبأن تغيير الخارطة السياسية للمنطقة يفتح أمامهم آفاقا رحبة.

 

وعلى صعيد آخر، لا يُستبعد أن يستغل البوليساريو الدعم العسكري والدبلوماسي الجزائري ليطالب بتلك الأقاليم بحجة أن حدود الصحراء تمتد إلى سفوح الأطلس وبالتالي يكون اكليميم، والطنطان، وأسا زاغ مناطق صحراوية.

 

أما في الجنوب (أي موريتانيا) فيرى الجزائريون أن الأمور قد تسير بوتيرة أسرع. فالمرجّح أن الجزائر ستستخدم البوليساريو في إقامة نظام موريتاني مناصر لاستقلال الصحراء.

 

ولهذا التوجّه سابقة مؤلمة. فالرئيس السابق هيداله يكشف في مذكراته أن مخطط القائد الصحراوي الذي هاجم نواكشوط لو كتب له النجاح كان يقتضي وضع رجل صحراوي-موريتاني (ذكر اسمه) على رأس الدولة الموريتانية.

 

وهذه الشخصية (وهي أحمد بابا مسكه كما نص عليها هيداله بالاسم) ستضطلع لاحقا، حسب عدة شهادات، بدور محوري في التحضير لانقلاب يوليو 1978.

 

ولربما حاولت الجزائر، فضلا عن ذلك، التلويح بملايين الدولارات لاستمالة جميع المسؤولين الموريتانيين الذين يقبلون ذلك: من ضباط في الجيش، ووجهاء، ورجال أعمال، وناشطين في المجتمع المدني، وإعلاميين …

 

كما بمقدور الجزائر أن تضخ استثمارات هائلة لا سابق لها في موريتانيا بحيث تتراوح ما بين 5 إلى 10 مليارات دولار. وهو أمر سيكون له انعكاس مباشر على الحياة اليومية: انخفاض الأسعار، التحسّن الملحوظ للمقدرة الشرائية … أملا في خلق رأي عام مساند لتوجّهات الجزائر.

 

بيْد أن استمرارية النظام المناصر لاستقلال الصحراء في نواكشوط لن تتحقق إلا في ظل ميزان قوى عسكرية يميل إلى صالح الهدف المنشود، وذلك عن طريق لجوء “الحكام الجدد” في موريتانيا إلى إخوانهم الصحراويين لمؤازرتهم على الدوام. وسيكون لهذا الخلفية دور الظهير على المستوى المعنوي. ولا ننسى سيف دامقليس المُصْلت على موريتانيا والمتمثل في الحركات الإسلامية التي تظل – رغم المظاهر – قريبة من الجزائر ويمكنها في أي وقت  أن تزعزع استقرار البلد.

 

كما يمكن للجزائر أن تذكي الحزازات وعوامل الفرقة التي تهدد الوحدة الوطنية. وهي لم تتورع عن استخدام أساليب مماثلة في الماضي.

 

وفي هذا الصدد يجب أن نتذكر عبارات التهديد التي نطق بها الرئيس بومدين في وجه الرئيس المختار ولد داداه خلال لقائمهما العاصف يوم 10 نوفمبر 1975 في بشار. كان ذلك عشية توقيع اتفاقيات مدريد حول تقسيم الصحراء بين المغرب وموريتانيا.

 

فقد أنذر بومدين حينها المختار بضرورة سحب وفده وبعدم توقيع الاتفاق الذي كان قيد التحضير. ثم أردف الرئيس الجزائري بقوله: “وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة لبلدك ولك أنت”.

 

“حذار يا مختار ! إن موريتانيا بلد هش، ولديها مشاكل داخلية خطيرة. ولها آلاف الكيلومترات التي لا يمكنها حمايتها بمفردها في حالة نشوب نزاع مسلح …”.

 

وما جرى بعد ذلك معروف. فقد نفذت الجزائر وعيدها بواسطة البوليساريو، وتم عزل المختار، وانهار استقرار موريتانيا بشكل مستديم. ومالي بلد آخر مجاور للجزائر مهدد كذلك بعدم الاستقرار إذا خالف الإستراتيجية الجزائرية المعتمدة في شبه المنطقة.

 

لكن كل المؤشرات تدل على أن انضمام قبائل أزواد لتجمّع البيضان الكبير سيجري دون عوائق تذكر بفعل التقارب الجغرافي، والوسائل المالية والعسكرية، والعلاقات الشخصية فيما بين السلطات الجزائرية والقادة الأزواديين، مما سيسهّل المهمة.

 

ولا ننسى أن العديد من المحاربين في البوليساريو ينحدرون من قبائل أزواد.

 

ويجدر التذكير في هذا الصدد بأن عدة جولات من المفاوضات بين مختلف الحركات الأزوادية قد انعقدت مؤخرا في الجزائر. وأفضت تلك المحادثات إلى توقيع اتفاق السلام في باماكو. لكن هناك نقطة جوهرية لا يعلمها الكثيرون وينبغي التطرق إليها: فالتجاوزات والجرائم التي ارتكبها الماليون، خاصة بحق الطوارق، ولّدت حقدا دفينا بين الطرفين إلى حد أن الكثير من خبراء شبه المنطقة يرون أن من الصعب بل من المستحيل أن يتعايش الطرفان مستقبلا.

 

ولئن قُدّر للإستراتيجية الجزائرية أن تؤتي أكلها فسيكون لها انعكاسات هامة على الجغرافيا السياسية:

 

فسيُنظر إلى الجزائر بوصفها قاطرة المغرب العربي؛

 

وستمكنها هذه التشكلة الجغرافية خاصة من استغلال مناجم الحديد الضخمة في اكرارت اجبيلات والتي تحوي أهم مخزون للحديد في العالم.

 

وبموازاة ذلك، ستتمكن عن طريق المنفذ الأطلسي من بناء أنابيب للغاز والنفط من أجل التصدير إلى الغرب وبالأخص شمال أمريكا؛

 

سيصبح المغرب، منافسها الأبدي، معزولا ومحاصرا … ولعنا نتذكر نبوءة السلطان منصور الذهبي الذي جمع يوما مستشاريه وقال لهم: “عندنا في الشمال عدو توارثنا عداوته (إسبانيا)، وعندنا في الشرق كذلك عدو آخر (العثمانيون في الجزائر)، وعندنا في الغرب البحر وليست لدينا ثقافة بحرية، وإنما نتنفس من الجنوب، فهو عمقنا الإستراتيجي”.

 

فضلا عن الاعتبارات الجيوسياسية الآنفة الذكر هناك نقطة هامة تستحق الإبراز: فجميع الخبراء متفقون على القول إن الاحتياطات النفطية الحالية في الجزائر ستنضب على أقصى تقدير في غضون ثلاثين سنة.

 

في الوقت الراهن، ورغم حملات التنقيب المتواصلة، لم يُعثر بعد على احتياطات جديدة معتبرة من النفط والغاز في الجزائر.

 

وهذا الوضع مقلق لاسيما وأن سعر البترول في انخفاض مطرد. ويتفاقم الأمر سوءا بفعل اعتماد البلدان المستهلكة للنفط – مثل الولايات المتحدة وبعض البلدان الأوربية – على مصادر بديلة للطاقة باستغلال الغاز الحجري.

 

ينضاف إلى ذلك السعي الحثيث إلى إيجاد مصادر للطاقة بديلة عن النفط.

 

كل ذلك يوحي بأن عصر “ما بعد النفط” يلوح في الأفق. ولمواجهة المشاكل المتعاظمة على الأصعدة الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية يكثف الحكام الجزائريون البحث عن موارد بديلة عن الذهب الأسود. وقد وجدوا هذا البديل في حديد أكرارت اجبيلات بمنطقة تيندوف حيث توجد أكبر احتياطات الحديد في العالم.

 

يحتوي هذا المنجم على نسبة عالية من الحديد (حديد الدم القاني الحمرة بتركيز Fe2O3) ولم يتسنّ استغلاله حتى الآن لبعده من الشواطئ الجزائرية على البحر الأبيض المتوسط. فهو بالتالي كنز معطل بفعل انعدام منفذ لتصريفه.

 

بالمقابل، يمثل قرب الموانئ الصحراوية (نحو 400 كلم مقابل 2000 كلم باتجاه الموانئ الجزائرية على البحر الأبيض المتوسط) والتضاريس المنبسطة في الصحراء عوامل تخلق الظروف المثلى لاستغلال مريح وغير مكلف.

 

ومن جهة أخرى، ينطوي باطن الأرض في الصحراء الجزائرية خاصة بمنطقة تيندوف على ثروات معدنية أخرى مهمة. لكن هذه المعادن مثلها مثل معادن اكرارت اجبيلات معزولة وتبعد كثيرا عن الموانئ الجزائرية.

 

وعلى أساس هذه الرهانات الجيواقتصادية والجيوسياسية نتفهم أكثر المرامي التي تدفع الجزائر إلى الانخراط في قضية الصحراء. كما ندرك مغزى امتلاك الجزائر لترسانة عسكرية لا تتناسب مع احتياجاتها الدفاعية.

 

لطالما سمعنا هنا وهناك أن مشكلة الصحراء ستسوى تلقائيا عندما يختفي آخر الرموز القيادية في جبهة التحرير الجزائرية / القناة التاريخية.

 

يتعلق الأمر بنظرة تبسيطية يروّج لها عن قصد بعض الأوساط العاجزة والمستسلمة لكي ترضي ضمائرها بانتهاج سياسة النعامة وعدم مواجهة الحقيقة.

 

ذلك أن الآباء المؤسسين للجزائر الحديثة ورفاقهم في النضال إما اختطفتهم يد المنون أو اعتزلوا الشأن العام لأنهم بلغوا من العمر عتيا. ومن بقي منهم في السلطة مثل بوتفليقة يعدون على أصابع اليد الواحدة.

 

أما غالبية الطبقة السياسية الجزائرية الحالية مثل أو يحيى، بن فليس، حمروش … وحتى الوزير الأول سلال وجنرالات الجيش الوطني الشعبي فإنهم لا ينتمون إلى جبهة التحرير الجزائرية / القناة التاريخية.

 

إننا نغفل أحيانا عن كون ثلاثة أجيال من الجامعيين والضباط قد تعاقبوا على السلطة خلفا لجبهة التحرير الجزائرية. وهذه الأجيال تتحلى بنفس الروح الوطنية التي يتسم بها أسلافهم من مناضلي جبهة التحرير.

 

لقد تسلّموا اللواء الذي يجب أن يظل خفاقا بفعل الحماس الوطني المتّقد.

 

لذا من العبث الظن بأن غياب بوتفليقة سيؤدي إلى إيجاد تسوية لقضية الصحراء بعصا سحرية. فوحدها الحرب الأهلية أو الثورة الإسلامية يمكن أن تعرقل مؤقتا الإستراتيجية الحربية الجزائرية في شبه المنطقة.

 

وفي سياق هذا التحليل يلزم التنبيه إلى نقطة مهمة. فمؤلف هذه الدراسة يدرك تماما صعوبة التنبؤ بالمستقبل إذ إن السيناريو الموصوف أعلاه بشأن الإستراتيجية المحتملة يمكن أن يتحقق، ويمكن، بطبيعة الحال، ألا يتحقق.

 

إن هذا العمل مجرد تحليل من المنظور المستقبلي على أساس معطيات ملموسة وانطلاقا من طيف من المؤشرات المتوقعة والمتطابقة.

 

واعتبارا لكافة عناصر المعادلة وبالنظر إلى معرفتي المتواضعة للفاعلين الميدانيين، فإني أعتقد أن من المرجح جدا أن تسير الأمور وفقا لما أوردناه أعلاه.

 

سابعا- انطلاق الاشتباكات: هل بدأ العد التنازلي؟

 

من المحتمل أن يبدأ تفكيك الخارطة السياسية المرتقب في أفق 2020.

 

غير أن بعض العوامل الداخلية في الجزائر قد تسرّع من إيقاعه:

 

قد يدفع عدم الاتفاق على خلافة بوتفليقة الأطراف المتنافسة إلى تصعيد المزايدات في صراعها على السلطة. ولا يُستبعد من هذا المنظور اللجوء إلى شن حرب مع المغرب.

 

كما يمكن أن يُتخذ النزاع المسلح مع المملكة المغربية ذريعة لتجميد المسلسل الديمقراطي في الجزائر وفي الآن ذاته منح “شرعية” لعسكريين أنهكتهم الصراعات.

 

في اعتقاد الجنرالات الجزائريين أن الحرب مع المغرب قد تشغل الأذهان وترجئ – ولو إلى حين – المد الإسلامي الذي قد يجتاح البلاد في أي لحظة.

 

وصفوة القول أن الأوضاع السياسية في الجزائر، مهما اتسمت بالغموض، تنذر بتراكم غيوم الشقاق والبغضاء والفرقة في سماء المغرب العربي.

 

إننا لنسمع – وإن من بعيد – قعقعة السلاح وقرع طبول الحرب.

 

فما العمل إذن؟ علينا اتخاذ التدابير اللازمة لتفادي ويلات الدخول في معمعان لا يبقى ولا يذر. كيف السبيل إلى ذلك؟ الحل يكمن في إيجاد حل متوافق عليه لقضية الصحراء التي ستظل دوما الزناد الذي قد يشعل أتّون الحرب.

 

من هذا المنطلق أعد كاتب هذه السطور دراسة لغرض الإفادة بعنوان: “مخطط لتسوية نزاع الصحراء” قد تكون إحدى طرق الحل الممكنة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى