الأخبارغير مصنفمقالات و تحليلات

طِبّ الحضارة المعاصرة / د. محمد حسين أبوالحسن

د. محمد حسين أبوالحسن

أخذ يصرخ: أنا أفهمك، ثم طوق بذراعيه رقبة الحصان المتألم من ضربات سوط صاحبه التى أسالت دماءه، عانق نيتشه الحصان، بكى بكاء هستيريا، قبل أن يقع على الأرض فاقدا الوعى، ولما أفاق اعتزل العالم أحد عشر عاما، حتى توفى، العجيب أن فريدريك نيتشه فيلسوف تمجيد القوة وعدو الضعفاء، كان عطفه على حصان سببا فى انهياره واعتزاله!.

 

ليس غريبا إذن أن يحذر نيتشه من خطورة مرض الحضارات، مبينا أنها تمرض وأطباءها الفلاسفة، وهو الرأى الذى اتفق معه العلامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعى ومنتدى أبوظبى للسلم، لكنه اختلف معه فى أن أطباء الحضارة اليوم هم العلماء والمفكرون، فالحضارات تمرض كالأفراد، والمفكرون الصادقون هم أطباء المجتمعات، بهم يتم القضاء على أمراض الكراهية والصراع وإراقة الدماء المتفشية بكل القارات، فى ظل دعاوى الصدام الحضارى وما يشيع عن مخططات «المليار الذهبى» الغامضة.

يتخذ الشيخ من العقلانية وواقع التنوع الإنسانى منصة يخطّ عليها روشتته العلاجية، كأساس للحوار والتعارف، فى تناقض مع فوكوياما الذى حكم بنهاية التاريخ وانتصار الغرب، وفى تناقض ثان مع أطروحة صراع الحضارات التى أرساها هنتنجتون.. يصف العلامة بن بيه سبل ومظاهر الشفاء من الاعتلال الحضارى العالمى، وهى: تنمية المشتركات والقيم الإنسانية كالتسامح والتفاهم والحوار والتعايش والإخاء بين الناس، دون ظلم من طرف لآخر، ورفض منطق الصراع والكراهية والجرائم الإرهابية ونبذ المشاعر والسلوكيات السلبية، وبناء مجتمع المؤمنين بالسلام، لاسيما من خلال المواثيق الدولية؛ بوصفها مؤطرا للعلاقة بالآخر، لافتا إلى «صحيفة المدينة», بوصفها مرجعية إنسانية لضمان حقوق الأقليات الدينية، وترابط الحضارات وتكاملها.

.

 

أما القسم الثانى من الكتاب فهو تطبيقى يضم نصوصا منتقاة حول إشكاليات «الحوار الحضارى». شهد حوار الحضارات محطات بارزة، أسهمت فى بلورة معانيه فى الفكر العالمى الحديث، بصدور كتاب روجيه جارودى عام 1977، وسقوط جدار برلين عام 1989، وصدور كتاب نهاية التاريخ لفوكوياما عام 1992، الذى كرس القطبية الأحادية وأقصى الحضارات، وكان عراب النداء إلى الموت، وازداد الأمر سوءا مع كتاب صِدام الحضارات لصمويل هنتنجتون عام 1996، والذى كرّس لوثة الصراع الحضارى، ثم إطلاق مبادرة الأمم المتحدة لحوار الحضارات عام 2001، وبعدها مبادرة تحالف الحضارات عام 2005، ثم كورونا وما دشنته من حوارات بين الدول والمختبرات العلمية، ضمن جهود محاربة الجائحة، والأزمة الأوكرانية والتغير المناخى ومظاهر الإسلاموفوبيا، مع أن نيتشه قال يوما: أريد العيش بين المسلمين لفترة طويلة جيدة، لاسيما بين المسلمين الذين يكون إيمانهم تقيا جدا!.

للخروج من المأزق الحالى، يقدم بن بيه رؤية لتكامل الحضارات، تكامل روحى وهيكلى ووظيفى، سماه طِب الحضارة المعاصرة، تفتح العقول على حقيقة أن العالم صار يُعرّف نفسه لا بالدين، وإنما بالثقافة والمصالح والتكنولوجيا والمعاهدات، فهذه هى الهوية العالمية الجديدة، لذلك على حكماء العالم وأطباء الحضارة أن يعملوا على إطفاء حرائق جسد العالم وخفض حرارته التى يلهبها التنازع على الثروات الطبيعية والسيادة على المناطق

 

تغدو القيم الإنسانية أحيانا أرجوحة مستباحة، يركبها كل بهلوان من أجل الاستقطاب والصدام، لكن التاريخ يثبت أن الحضارات لم تتوقف عن الحوار حتى فى أعتى لحظات الصراع، من ثمّ يرفع الشيخ بن بيه لواء الأمل، داعيا حكماء الشرق والغرب لعلاج أمراض الحضارة الحالية،بدواء الحكمة وترشيد مواقف أصحاب القرار فى العالم. ينبه إلى أن الحوار الحضارى ضرورة لإنقاذ البشرية من التردى فى هوة الفوضى، وصولا إلى أرضية مشتركة واقتراح بدائل عن الصدام، فلا حرب أبدية بين الحضارات، ولا سلام أبدى بين البشر، حتى لو كانوا أبناء حضارة واحدة، يصبح الحوار واجبا مقدسا على الجميع، لتجنب آثار سوء التفاهم بين الشرق والغرب، إنهما ليسا جارين متلاصقى الجدران بل توأمان سياميان ربّما لو فُصل أحدهما لمات الآخر، هذان التوأمان يختبران اليوم مدى قدرتهما على المبادرة التاريخية للخروج من الأزمات الراهنة، والتى تزداد تعقيدا بسبب المطامع الاقتصادية والسياسية والتدخلات العسكرية الخاطئة.

 

وللخروج من المأزق الحالى، يقدم بن بيه رؤية لتكامل الحضارات، تكامل روحى وهيكلى ووظيفى، سماه طِب الحضارة المعاصرة، تفتح العقول على حقيقة أن العالم صار يُعرّف نفسه لا بالدين، وإنما بالثقافة والمصالح والتكنولوجيا والمعاهدات، فهذه هى الهوية العالمية الجديدة، لذلك على حكماء العالم وأطباء الحضارة أن يعملوا على إطفاء حرائق جسد العالم وخفض حرارته التى يلهبها التنازع على الثروات الطبيعية والسيادة على المناطق، والمطالب الانفصالية والجريمة المنظمة والمجاعات والهجرات غير المقننة والتلوث البيئي. لا ينى بن بيه فى تعميق الوعى بوحدة المصير الإنسانى، صارخا فى أذن العالم: البشرية الآن فى سفينة واحدة على وشك الجنوح، فلابد لأهل القيم أن يأخذوا على أيدى الذين يريدون خرق السفينة.

 

يتخذ الشيخ من العقلانية وواقع التنوع الإنسانى منصة يخطّ عليها روشتته العلاجية، كأساس للحوار والتعارف، فى تناقض مع فوكوياما الذى حكم بنهاية التاريخ وانتصار الغرب، وفى تناقض ثان مع أطروحة صراع الحضارات التى أرساها هنتنجتون.. يصف العلامة بن بيه سبل ومظاهر الشفاء من الاعتلال الحضارى العالمى، وهى: تنمية المشتركات والقيم الإنسانية كالتسامح والتفاهم والحوار والتعايش والإخاء بين الناس، دون ظلم من طرف لآخر، ورفض منطق الصراع والكراهية والجرائم الإرهابية ونبذ المشاعر والسلوكيات السلبية، وبناء مجتمع المؤمنين بالسلام، لاسيما من خلال المواثيق الدولية؛ بوصفها مؤطرا للعلاقة بالآخر، لافتا إلى «صحيفة المدينة», بوصفها مرجعية إنسانية لضمان حقوق الأقليات الدينية، وترابط الحضارات وتكاملها.

 

إن كتاب الصحبى بن منصور محاولة لبناء أرضية تفاهم بين الشعوب، بعدما أثبت نيتشه وبن بيه أن أى انتصار بأى نزاع مشتعل فى العالم لا يساوى شيئا، بجانب أنين حصان جريح، أو صرخة طفل مفزوع!.

 

[email protected]

 المصدر: الأهرام 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى